تاريخ النشر2010 20 September ساعة 11:18
رقم : 26316

مشروعية تجديد الفكر الديني - هواجس ومسوغات - 2 -

مشكلة الكثيرين في الوسط الديني أنّهم ما يزالون يؤمنون بتعميم فكرة القرون المفضّلة، وأنّ القرون الأولى تمثل القمة في كلّ شيء، في الإيمان والخُلُق الحسن والعلم والمعرفة و.. وأنّنا اليوم في حال انحدار واندحار وانتحار لا تطوّر وتقدّم وانفتاح،
حيدر حب الله
حيدر حب الله
وكالة انباء التقريب (تنا) :
إذن، فمن الطبيعي في ظلّ تطوّر العلوم في العالم أن تتطوّر رؤيتنا للدين وفهمنا لنصوصه، هذا ما نريده ولا نريد ليّاً لعنق الحقيقة أو تطويعاً للنصوص أو استخفافاً بها، أو وضعها على الدوام في موضع المنفعل لا الفاعل؛ فهذا ما لا نراه صحيحاً حتى من الناحية العلمية فضلاً عن الأيديولوجية، وسبب عدم تطوّر وعينا الديني رغم قرون التطوّر العلمي الأخيرة أنّنا لم نواكبها، ومؤسساتنا الدينية ظلّت بمنأى عنها، ولهذا خيّم السكون عليها وعلينا، وعندما وجدنا مفكرنا عملاقاً هنا أو هناك يأخذ بعين الاعتبار تطوّر المعرفة.. وجدنا قراءة جديدة للإسلام، تحاول أن تعطيه أو تضفي عليه المزيد من الحيوية والنضارة.
مشكلة الكثيرين في الوسط الديني أنّهم ما يزالون يؤمنون بتعميم فكرة القرون المفضّلة، وأنّ القرون الأولى تمثل القمة في كلّ شيء، في الإيمان والخُلُق الحسن والعلم والمعرفة و.. وأنّنا اليوم في حال انحدار واندحار وانتحار لا تطوّر وتقدّم وانفتاح، ومادامت مثل هذه الأفكار مهيمنة على ثقافتنا الدينية- ولسنا في موقع النقد الداخلي لها الآن- فلن نتمكّن من الانفتاح على منجزات المعرفة الإنسانية؛ فالحلّ يكمن في إعادة بناء ثقتا بثقافتنا وتراثنا من جهة أولى، أي إصلاح أوضاعنا النفسية، وفي نقد المعوقات الدينية – بتصوّرنا- التي تعطّل فينا التفاعل الإيجابي مع المعرفة أيّاً كان مصدرها من جهة ثانية، وفي تكوين منظومتنا المعرفية تكويناً تعدّدياً لا يصاب بالصدمة عند اكتشاف خطأ عنده، بل هو مهيأ على الدوام لتعديل في رؤاه وأفكاره، ومروّض ومدجّن لإعادة النظر وتصويب الآراء.
٤- المنطلق الأيديولوجي الداخل- ديني لمشروعية التجديد
العنصر الآخر لضرورة التجديد وشرعيته هو عنصر أيديولوجي داخل – ديني هذه المرّة، وهذا هو العنصر الذي وجدت له رواجاً – حسب ما بدا لي- في أدبيات العلماء والمفكّرين المسلمين في العصر الحديث، وبإمكاني اختصار هذا العنصر في التالي:
أ‌- فكرة الخلود والعالمية، فحيث كان الإسلام عالمياً خالداً عني ذلك أنّه من الضروري أن يلحظ التغيّرات الموجودة بين الشعوب والأمم والأوضاع والظروف والمناخات؛ لأنه إذا لم يتكيّف الإسلام مع الواقع وتحوّلاته، ولم يواكب الصيرورة الطبيعية والاستثنائية للزمن ، فسوف ينعدم وينجمد ويتلاشى، وسيظلّ في حالةٍ من الرتابة والمراوحة، وهذا ما يقع على خلاف مفهوم الخلود والعالمية؛ فنحن نمارس التجديد حماية للدين من الزوال وحفظاً لعالميته وخلوده.
ب‌- فكرة فتح باب الإجتهاد، ذلك أنّ هناك علاقة تلازم بين التجديد وفتح باب الاجتهاد، ولكي أوضح هذا المفهوم وفي الوقت عينه أمارس نقداً على بعض أشكال فهمه، يجب أن أؤكد سلفاً أنّ الاجتهاد لا يتأطر بمجال؛ لأنه تعبير آخر عن الحق في التفكير داخل النطاق الإسلامي، وضمن إطار الشهادتين، إنّه مواجهة شرسة مع العقل المستقبل، فنحن لا نريد بالاجتهاد هنا بعض معانيه الضيّقة نسبياً في أصول الفقه السنّي والشيعي، وإنّما نقصد به الحقّ في ممارسة الإبداع لا الابتداع ولا الاتّباع، دون أن نميّز بين الإبداع في مجال فهم النص أو في خارج النص عندما تسمح نظريتنا بذلك وفقاً للأدلة المنطقية، وهذا ما يجعلنا نتحفّظ على الجمود عند الاجتهاد الترجيحي الانتقائي الذي يوظّف نفسه ليقوم باختيار أحد الاجتهادات السابقة، وإنما المهم – إلى جانب هذا النوع من الاجتهاد عندما تقدّمه الأدلّة- هو الإجتهاد الإبداعي الإنشائي، كما يسميه بعضهم، كذلك نتحفظ على شيوع الدعوة للإجتهاد في الفقه، وقلّة سماع الحديث عن الإجتهاد في غير الفقهيات، مع أنّ الإجتهاد في علم الكلام أهمّ بكثير من الاجتهاد في الفقه، بل هو مقدّم عليه، فما لم نعط حماية دنيوية وأخروية للإجتهاد بهذه الدائرة الواسعة، فستكون –كما يقول بعض المتصوّفة- كمن يحلّق داخل غرفة ظائّاً أنّه بتحليقه قد طار في السماء.
إذن، فلنحرّر كلمة الاجتهاد من تفسيره بفهم النص كما راج عند الشيعة؛ لأنّ من الاجتهاد ما يكون سابقاً على النص، ولنحرّره أيضاً من التفسير السنّي لنجعله في النص وخارجه معاً ، ونحن مع دعوة الشيخ القرضاوي للإنتقال بالاجتهاد من الفقه الى أصول الفقه، لكنّنا نطالب ببسط العملية الاجتهادية لتصل الى خارج علوم النقل، فتطال العقليات بمدياتها الواسعة، فالتجديد لا ينحصر – كما فهمه بعض العلماء- بإطار النصوص الظنّية التي تسمح بالحركة، بل يطال النصوص الثابتة؛ لأنّ الاجتهاد ليس تخلّياً بالضرورة عن الثوابت، بل قد يكون فهماً لها، أو إبداعاً لشكل من أشكال ممارستها، أو محاولة جديدة لتكييفها مع بعضها، مادام الفقيه أو المفسّر يقدّم نظرياته ضمن منطق علمي يعطيه حقّ الاجتهاد، كما يعطي الآخرين حقّ نقده في اجتهاده هذا.
على هذا الأساس، يجب تحرير الاجتهاد من مضمونه، وإذا استطعنا البرهنة على ذلك في علم الكلام فقد شَرعنا التجديد بأوسع دوائره، وأعني بذلك أنّنا عندما نعطي الحق في الإجتهاد فنحن نعطي حقّ ممارسة فعل فكري، ولا نربط هذا الحق بنتيجة معيّنة؛ لأننا إذا ربطناه بهذه الطريقة نكون قد ألغيناه وأولدنا نقيضه داخله، تصوّروا معي أنّنا منعنا التقليد في العقائد وأعطينا للإنسان الحقّ في الإجتهاد والنظر، إنّ هذا الحق معنا أنّنا أعطيناه ضمانات دنيوية وأخروية بعدم تعرّضه للعقوبة
لو أخطأ، وإلاّ فإذا شرطنا الإجتهاد والتجديد بأن لا يتوصل الى غير ما توصّلنا إليه، فإنّ هذا لا يعني أنّنا أعطيناه حقّ الاجتهاد، وإنّما فرضنا عليه أن يفكر ليتوصل سلفاً الى نتيجة محدّدة.
الشرط الوحيد الذي نأخذه في إعطاء حقّ الاجتهاد كي نضمن به مشروعية التجديد، هو ممارسة البحث الفكري بأمانة وأخلاقية وأكاديمية ومهنية، وهذه أمور لا تحدّدها نتائج البحث كما يفعل الكثيرون منّا؛ حيث يحكمون بعدم أمانة الباحث أو عدم علميّته؛ لأنه لم يتوصّل الى ما توصّلوا هم إليه؛ إذ لا تساوي بين مهنية العمل الفكري وأخلاقيّته وبين الصواب، فالأخلاق والصدق والأمانة والمهنية ليست ضمانة نهائية للوصول الى الحقيقة، وإنّما هي ضمانة الأمن عند عدم الوصول إليها، هي المفاهيم التي تجفّف منابع القلق والإضطراب والارتباك، فكما يشعر الفقهاء بالأمن عندما يجتهدون ولا يخافون من الخطأ وإنّما يخافون من المقدمات غير المهنية وغير الأخلاقية التي توصلهم الى الخطأ، كذلك يفترض – بعدم توسعة مفهوم الإجتهاد بالمعنى الذي قلناه- أن يشعر المجتهد في العلوم الإسلامية كافّة أنّه في مأمن في الدنيا والآخرة لو أخطأ، مادام – بينه وبين الله- صادقاً باذلاً مقدرته وطاقته في الوصول الى الحقيقة، وبذلك ننفتح على شرعية المذاهب الإسلامية كلّها بهذا المعنى للشرعية- لنؤسّس تقريباً معرفيّاً وليس سياسياً فحسب- لا على صوابها وصحّتها، سواء في المجال العقائدي أم الأصولي أم الفقهي أم التفسيري أم..
ج‌- الحديث النبوي المعروف: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها". حيث اعتبر هذا الحديث شاهداً على حصول تجديد في الدين كل مائة عام، وهو تعبير آخر عن التجديد المتواصل في الإسلام.
وبصرف النظر عن صحّة هذا الحديث وعدم صحّته، نميل الى عدم التعامل مع مشاريع كبرى وحبلى بالمتغيرات بالاعتماد على نص حديثي واحد، حتى لو كان صحيح السند، لأننا لا نرى حجية خبر الواحد مالم يفد الوثوق والإطمئنان، مشروعٌ كمشروع التجديد بهذه الخطورة التي يحملها يجب تعقيله وعقلنته ولا يجوز حبسه في إطار الظنون ولو كانت معتبرة يجوز التعبّد بها، وهذه قضية تختلف حولها الآراء في أصول الفقه الإسلامي، لا نتعرّض لها هنا.
٥- ضرورة التجديد واجتهاد الأولويات، من فقه النصوص المعلّقة الى فقه النّص والواقع
اعتاد كثير من الناشطين في مجال الفقه الإسلامي والدراسات القانونية الإسلامية على التعامل مع النصّ، وبهذا أخذ الإجتهاد الإسلامي نمطاً ثنائياً في أطرافه؛ فهناك النصّ من جهة وهناك المجتهد في هذا النص من جهة ثانية، ولم يكن الفقيه المسلم ليلاحظ – إلا في حالات قليلة وفي بعض مدارس الفقه الإسلامي- طرفاً ثالثاً كان يفترض أخذه بالحسبان، وهو الواقع، لأنّ الفقيه المسلم كان يخشى على ما يبدو، وهو محقّ في خشيته، من إلقاء الواقع ضغوطه على المجتهد كي يكيّف النص وفقه، فيما المطلوب أن يُخضع الفقيه الواقع للنص، أيّ إنّه يريد أن يؤسلم الواقع ولا يريد أن يبرّره أو يكرّسه، فالفقيه المسلم كان من دعاة المعرفة لتغيير الواقع هنا، وليس من دعاة المعرفة لتفسيره أو تبريره.
لقد حمى الفقيه بهذه الطريقة اجتهاده من التلاعب بالنصوص المقدس، لكنه لم يكن يدري أنّ مشكلةً أخرى تنتظره على المقلب الآخر، إنّها مشكلة تكوين فقه غير واقعي، فالعزلة التي سعى إليها الفقيه ليحمي النصوص من التطاول عليها جرّته الى فقه فرضي، من جهة، وفقه متجافٍ عن التطبيق غير قابل للممارسة من جهة ثانية؛ لأن الفقيه تعامل مع النصوص كونها تقدّم له أحكاماً أوّلية تقترب من السكون والثبات، وعندما أفتى بهذه الأحكام لم ينتبه أنّ الواقع يطالب على الدوام بأحكام من النوع المتحرّك، وهذا ما قدّم الفقه الإسلامي بصورة نظرية تجريدية أحياناً، أو أوحى بأنّ الأحكام الأوليّة مغيبة غالباً لصالح الأحكام الثانوية.
نحن مع فقه التغيير وليس فقه التبرير الذي هو فقه عطالة ذاتية وفقه محافظة على الحال القائم، ذاك الفقه السلطاني الذي ينتظر الحاكم كي يتخذ قراره السياسي ليأتي الفقيه فيأوّل النصوص له، أو يصدر الحاكم فتواه فيجتهد الفقيه له، مع الانتباه الى أنّني أعمّم مفهوم السلطان هنا ليشمل الشركات المتعدّدة الجنسية والقوى الكبرى ذات المصالح اليوم في العالم، والتي تفرض واقعاً ما أو نمط حياة ما، ثم يأتي فقيهنا أو مثقفنا ليبرّر هذا الواقع أو يكرّسه بدل أن يدرسه بموضوعية وعلمية وتجرّد، لكنّ هذا لا يعني تجافياً أو منافرة بين الواقع والاجتهاد، ودليلنا على ما ندّعي ينبع من تحليل حقيقة علم الفقه، فهل هو علم دنيوي يستهدف صلاح الدنيا التي أمرنا بصلاحها كي ننال بذلك صلاح الآخرة، أم أنّه علم أخروي يطالب بالتعبّد والطاعة للنجاة يوم القيامة وليس مسؤولاً عن صلاح الدنيا؟
لقد نظّر العديد من علماء الكلام وأصول الفقه الإسلامي للفقه القادر على ترشيد حياتنا الدنيوية، وعلى إدارتها بنجاح، لكنّ النظم التي بني عليها الفقه والتعامل الميداني معه كانا في كثير من الأحيان على النقيض من ذلك، وعندما كانت الأزمات الواقعية تبدو أمام الفقيه في فهمه للنصّ كان ينزع من حيث لا يشعر إلى تجهيل العقل لتغييب الأزمة؛ كي يسدّ عليه ما يراه من المصالح والمفاسد، كان يقال: إنّ معرفة ملاكات الأحكام وعللها غير ميسور في الغالب، وكان يقال – كما قالها الفيض الكاشاني (١٠٩١هـ) في المحجة البيضاء من قبل- إنّ الفقه علم المقرّبات والمبعّدات عن الآخرة، وكان يقال: إنّ المصالح والمفاسد التي تقوم عليها الأحكام لا دليل على حصرها بالمصالح والمفاسد الدنيوية، بل دخول النار أو الجنّة من المصالح والمفاسد أيضاً، وكان يقال: إنّ الاجتهاد في عصورنا سعيٌ لتحصيل التنجيز والتعذير، فالمهم براءة الذمة، ولهذا ولد الفقه المتشظّي، أعني ذلك الفقه الذي لا يرى بأساً في الفصل بين الشيء ولوازمه الطبيعية؛ لأنّ الفقه- كما يقولون – يقوم على تفريق المؤتلفات وجمع المتفرّقات، الأمر الذي صعّب كثيراً على أنصار فقه النظرية – مثل الصدر وشمس الدين وغيرهما- من بناء فقه متكامل،
وهو ما دفع الصدر في اقتصادنا للحديث عن فقه نظرية تأتلف عناصره من فتاوى العلماء أجمع؛ لأن الفقه الإجتهادي لكلّ فقيه لا يمكن في العادة أن يقدّم لنا نسقاً متكاملاً ونظاماً متناغماً.
من هذا كلّه، نعلم أنّنا عندما نتحدث عن الفقه الإسلامي، فنحن نتحدث عن فقه الواقع، لأنّ هذا هو معنى الفقه الذي يدير الحياة؛ فالحياة هي الواقع، ونتيجة ذلك أنّ أيّ فقه نعرضه على واقع التطبيق والممارسة، ثم يفشل؛ فإنّ معناه – وبحسب نسبة الفشل- أنّه ليس الفقه الإسلامي المنشود، وعندما نقول ذلك لا نعني أنّه خاطئ على مستوى المصادر الإجتهادية وليس له ما يبرّره من كتابٍ أو سنّة، بل يعني أنّه ليس فقه زماننا، بل هو فقه زمان آخر ووضع آخر، فالتخطئة هنا هي أيضاً تخطئة نسبية وليست مطلقة.
والتخطئة النسبية تجعلنا ننطلق من فقه الواقع/ النص إلى فقه الأولويات، فمادامت الحياة في سيرورة وصيرورة فإنّ الأولويات سوف تتغيّر تبعاً لذلك، هنا لا نتحدّث عن فهم النصّ في دلالاته اللغوية بل عن جماع الدلالات المتعاضدة وأنواع المصالح والمقاصد المتعاونة لتحقيق إدارة حسنة للواقع، ففقه الأولويات فقهٌ متغيّر موضوعه وهو الأولويات نفسها التي تتغيّر بتغيّر الواقع المناخي الذي يحيط بها على الدوام، وإذا لم يكن الفقه فقه أولويات فسوف تكون نتيجته تصادماً مع الواقع وفشلاً، حيث ستنقلب المعايير، كذلك الذي جاء الى الإمام أحمد بن حنبل (٢٤١هـ) زانياً يحدّثه عن تركه العزل لكراهته، والحال أنّه قد تورّط في الزنا المحرّم!!
وبكلام جامع: الواقع ضروري في الإجتهاد، لكنّه ليس كافياً أو بديلاً عن النصّ، وهذا أحد أوجه امتياز الفقه الإسلامي عن القانون الوضعي؛ فمن تغيّر الواقع الى الأولوية الى الفقه الحراكي، خطّ متواصل ينتهي بالحاجة الى التجديد لتحقيق المواكبة، وللوفاء بدنيوية الفقه الإسلامي – بالمعنى غير السلبي للكلمة- التي تنتهي بصلاح الإنسان في الدنيا والآخرة معاً.
٦- حتمية التجديد وتصفية الدين، التباس المفهوم والممارسة الزمكانية
عرفنا أنّ علاقة النص بالواقع علاقة جدليّة ضمن وضع ما، فأيّ تحوّل في الواقع يستدعي تحوّلات في النص، أعني في فهم النص وطريقة التعامل معه، لكنّ الأمر المهم الآخر هو أنّه لم يقدّم أيّ دين – فيما نعلم- صيغاً نهائية لأنماط العيش وأشكال ممارسة الحياة، وإنّما وضع ضوابط عامّة ومؤشرات كليّة لضبط حركة الحياة وحمايتها من الانزلاق، إلى جانب مجموعة من التدخلات المحدودة هنا وهناك للحدّ من شيء ما أو إطلاق شيء محدود، أمّا الأشكال التطبيقية للممارسة الدينية فتظلّ أمراً زمكانياً، وهنا نجد إشكاليّة شائعة في الوسط الديني وهي إشكاليّة الدمج بين النظرية والتطبيق، وهذا من أخطر ما يحصل في الوسط الديني، ويدعو دوماً لحتمية تجديد الفكر الديني، وذلك أنّه من الطبيعي –عندما ينزل الدين بمجموعة مفاهيم عملية- أن يقوم المؤمنون بتطبيق هذه المفاهيم في حياتهم، وهناك مجموعة ضافية وافرة من المفاهيم الدينية ليس لها شكل تطبيقي واحد ومحدّد وصارم في الدين نفسه، باعتراف الفقهاء المسلمين أنفسهم، مثلاً: يقولون: كثرة الضحك مكروهة، لكن من هو الذي يحدّد عنصر الكثرة؟ لا يوجد في الدين رقم محدّد للكثرة، وإنّما هي قضية موكولة لعرف الناس، ويقولون أيضاً: احترامك الكبار أو الوالدين أمرٌ حسن في الدين، لكن لا يوجد تحديد نهائي لأشكال الإحترام، فالوقوف عند دخول الكبير إلى المجلس شكلٌ من أشكال الإحترام في بعض المجتمعات، لكنّه ليس كذلك في مجتمعات أخرى، وما أكثر المظاهر الاجتماعية التي يعدّها مجتمع ما سلبيةً فيما يراها مجتمع آخر كذلك.
في هذه الحالات، وأمثالها كثير، يحيل الفقهاء المسلمون الى العرف، ولو سألنا ماهو العرف؟ سيكون الجواب: إنّه حصيلة العقل الجمعي الذي كوّنته السياسة والاقتصاد والاجتماع والنظم الطبقية وأنماط العيش وغير ذلك، إذاً مفهوم واحد تأتي به السماء لكنّ أشكال تبلوره الميداني تكون متعدّدة، وهذا شيء طبيعي على المستوى الزماني المترامي وعلى المستوى المكاني أيضاً.
ليس هذا بالأمر الجديد، لكن المهم هو أنّ الجيل المؤمن الأوّل يقوم بممارسة هذا المفهوم أو ذاك طبقاً لواقع أعرافه وتقاليده وحالته الزمكانية، وبمرور الزمن يصل المفهوم الديني الى الأجيال اللاحقة مكسوّاً بشكله التطبيقي الزمني، فيحصل التحام في الوعي الجماعي بين المفهوم وبين الممارسة التي وصلت للجيل الثالث أو الرابع، فيصبح التطبيق جزءاً من المفهوم، مع أنّه لم يكن سوى شكل من الأشكال الاجتماعية الزمنية لممارسة هذا المفهوم، وعندما تظهر حركة تجديدية تفكيكية تطالب بفك الإرتباط بين المفهوم والمصداق، بين الفكرة وشكلها التطبيقي؛ لأن الارتباط يعيق التقدّم واحترام الظروف الزمكانية الجديدة.. هناك يقع الانقسام والتشظي بين محافظين وإصلاحيين.
هنا تكمن واحدة من أهم وأخطر وظائف علماء الدين التجديديين والمصلحين الاجتماعيين، أن يقوموا بفك الوصلة بين الصورة التاريخية للمفهوم الديني وبين نقاوة المفهوم الديني نفسه، ومن دون فك هذه الوصلة سيبقى الغلوّ في الدين- بمعنى الإفراط في الأخذ بحرفيّته- أمراً سائداً مهيمناً.
سأعطي مثالاً بسيطاً أترك تحليله الفقهي إلى مجال آخر؛ بعض أشكال الشعائر الحسينية مثل التطبير لم ترد في نص ديني ثابت، وإنّما هي شكل من أشكال التعبير عن الحزن والتفجّع ظهر منذ مالا يزيد عن القرنين من الزمن، من وسط اجتماعي لبعض البلدان الإسلامية – إمّا تركيا أو الهند أو ..- ثم راج بين الناس، والآن نحن نتناقش فيه منذ مدّة، وتتشظّى الأمة نتيجته، مع أنّ المفهوم السماوي هو إحياء هذه الشعيرة الحسينية وضخّها المستمرّ في النفوس والعقول والمشاعر والعمل، أمّا
شكل ذلك وآليته فهو أمرٌ بشري نصنعه نحن طبقاً لمناخنا الثقافي والاجتماعي، فمن حقّ الناقد المجدّد بل من واجبه المطالبة بالتغيير ، لأنّ التغيير والتجديد تصفية للدين من جهة، وهذه وظيفة دينية، وتكيّف مع الواقع الذي لا يحظره الدين بل يعبر عن تقدّم الإنسانية من جهة ثانية.
مثال آخر على هذه القضية، مسألة الحشمة والستر للمرأة؛ فالإسلام دعا للستر والحشمة والعفاف، لكنّه لم يحدّد لنا شكل اللباس الذي يفترض بالمرأة أن ترتديه، وإنّما ترك هذه القضية لعادات وتقاليد الشعوب في لباسها، والذي يحصل أنّ بعضنا يستأنس ببعض أشكال اللباس لأنّه اعتاد عليها في ثقافته الاجتماعية، فيقوم بربطها بالمفهوم الديني، ويتعامل مع من لا يأخذ بفكرته تعامله مع من يواجه المفهوم الديني في قضايا الحشمة والعفاف، وفي هذا السياق عمل المرأة واختلاطها بالرجال، فيما المفترض التركيز على المفهوم وملاحظة آليات تطبيقه بحسب كل زمان ومكان، بما لا ينافي المفهوم عينه.
هذا كلّه معناه أنّ البشر بطبيعتهم يلقون على المفاهيم الدينية ثوب تجربتهم، الأمر الذي يفضي بمرور الزمن الى إدخال ما ليس من الدين فيه، ومهمة تنقية الدين وتطهيره من البدع تطالب على الدوام برصد هذه الظواهر لتنظيف الدين مما علق به، وهي مهمّة مقدّسة من الناحية الدينية، والملفت أنّ التراث الإسلامي كان حذراً على الدوام من البدعة والابتداع وهما زيادة في الدين، لكنّ ثقافتنا الإسلامية المعاصرة الخائفة على الهوية تنظر لمن يزيد في الدين بمنظار الصادق الذي يقع في الخطأ المبرّر بمثل مفاهيم التسامح في أدلّة السنن وعدم وقوع التشريع ورجاء المطلوبية وغير ذلك، أمّا لو أراد شخص تطهير الدين مما لحق به، فإنّه يتهم بخبث النيّة، مع أنّ خطر ابتداع شيء في الدين لا يقلّ عن خطر حذف شيءٍ منه، فلا ينبغي التمييز بين هذين النوعين، والكيل بمكيالين فيهما، فهما معاً مهمّة دينية سامية يشكر فاعلها ويثاب.
٧- المشروعة السياسية لتجديد الفكر الإسلامي
اعتقد عبد الرحمن الكواكبي (١٩٠٢م) أنّ الاستبداد السياسي عند المسلمين يقوم على نظرية دينيّة، فأكثر من تصوّر إسلامي يخلع على الحاكم صفات الألوهية والقداسة، ويمنع عن نقده أو معارضته، ونحن نعرف أنّ الترهّل السياسي في أمّتنا اليوم يعود إلى الاستبداد الذي يمارس على الشعوب المسلمة من قبل الحكّام، والدين – ببعض مدارسه- يدعم هذا الاستبداد أو يفلسف السكوت عنه، فإذا كان الاستبداد أحد أسباب تخلّف الأمة الإسلامية فإنّ من الضروري حينئذ السعي لتجفيف منابعه التي منها المنبع الديني ، وهو من أهم المنابع المخدّرة للشعوب في هذا المجال، وهذا أحد أوجه المشروعية السياسية لتجديد الفكر الديني.
على الخطّ الآخر للمشروعية السياسية، ظاهرة العنف والتطرّف والتكفير التي تعمّ العالم الإسلامي ربما لأوّل مرة بهذه السعة والشمولية، فإنّ هذه الظاهرة التي تدمّر الأمة وتفتتها ويُسأل عنها المستبدّون قبل المعارضين، تحتاج الى إنطلاقة مشروع التجديد للخروج من هذا المأزق العَسِر الذي بدا واضحاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتامبر. إن الحاجة للخروج من مأزق الاستبداد وردّ فعله المتجلّي في العنف والتطّرف الدينيين يشرعنان مشروع التجديد في الفكر الديني عموماً، ويلحّان لتقديم حلول لهذا الواقع على الخط الديني تتجاوز النمطيات المكروة التي قدت فيما سبق، دون أن تتنكّر لها.
تجديد الفكر الديني لتجديد الإنسان أم العكس؟
ثمة سؤال مهم جداً، يتعلّق بقضايا الإنسان والدين عامّة، وهو: من الذي يفترض الاشتغال عليه أولاً: الدين أم الإنسان؟ ماهو الحقل الأوّل للتجديد: الإنسان ثم الدين أم الفهم الديني ثم الإنسان؟ بمعنى من أين نبدأ مشوار التجديد: من الداخل، من تحليل النصوص وطريقة التعامل معها لنغيّر عبر ذلك حياتنا وتتجدد وتتقدّم، أم من الخارج بما يصلح وعينا العام وثقافتنا ويطوّر أجهزتنا المعرفية، ويحسّن مستوياتنا العلمية، ثمّ بعد إصلاح ذواتنا نأتي لقراءة الدين ونصوصه، الأمر الذي يسمح بولادة فهوم سليمة ومتطوّرة تلقائياً؟
هناك تاريخ زمني للإنسان – الفرد أو الجماعة- لا تحصل فيه قفزات نوعية وتحوّلات كبرى تعيد تكوين الاجتماع الإنساني، وتحدث زحزحة في القواعد الرئيسة التي يقوم عليها هذا الاجتماع، شيء ما يشبه حالة الركود حتى لا ترى الحركة الموجودة داخله تحوّلاً، إنّها كحركة الطحن أو ناعورة الماء التي تدور دون أن تتقدّم، حركة تعود الى نقطة البداية لتسير منها مجدداً إلى النهاية، بل البدايات هناك هي النهايات عينها، ليس هناك فرق، والناتج عن هذه الحركة طحن وتذويب وتفتيت لكل قوى الإبداع والإنطلاق.
ليس هناك سكون في الحياة الإنسانية، لكن هنا تصبح الحركة نفسها شكلاً من أشكال السكون، ولا يشعر الإنسان أنّه بحاجة الى تغيير وضع أو تطوير حالة؛ لأنّ شعوره بالحركة يسكره دون أن ينتبه إلى أنّ حركته دائرية، لا تقدّم فيها، حتى لو كانت الدائرة أفضل الأشكال الهندسية عند قدماء الفلاسفة، إنّه الوهم الضار هذه المرّة الذي يوحي للإنسان أنّه يفعل شيئاً ما لكنّه لا يفعل في الحقيقة – بهذا الحساب- أي شيء.
في هذا النوع من ركود الحياة وسكونيّتها، كما حصل في عصور الظلام الأوروبية وقرون الانحطاط الإسلامية، لا يمكن الشعور بالحاجة الى التجديد، وليس من تحقّق للتجديد سوى بالخروج من هذا الوضع ومن هذا المناخ الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي و.. فلن يتمكّن الإنسان من الإحساس بضرورة التجديد مادام داخل هذا المربّع المقفل أو كما يسمى: السياج الدوغمائي المغلق، إذ – كما قلت- سيظنّ نفسه متحركاً ولن يقدر على رؤية سكون حركته- إن صحّ التعبير- سوى بالنظر الى هذه الحركة وهذا التموضع من الأعلى، هناك سيعرف
أنّه يدور في حلقة مفرغة، حلقة الانتقال من سلطان مستبدّ الى آخر مثله أكثر استبداداً، وحلقة انتقال من المتن الى الحاشية الى شرح الحاشية الى التلخيص، ومن ثم شروح التلخيص الى تعليقة الشرح أو حاشية التعليق.. وحلقة الإنتقال من زراعة الحمضيات الى زراعة الأرز و..
هنا، قبل أن نسأله في مناخ من هذا النوع عن ضرورة التجديد في الفكر الديني، وقبل أن نقنع أحداً بمسوّغات الحركة التجديدية.. من الأفضل أن نخرج هؤلاء من حياتهم الراكدة الكاسدة هذه إلى حياة أخرى، يقدرون من خلالها – ولو للحظات- على رؤية حياتهم الأولى.. وكما قال الغزالي (٥٠٥هـ) من قبل، ومعه علماء الأخلاق الإسلاميون، لن يقدر على فهم لذة العرفان واللقاء بالله تعالى إلا من تسامى ليرى تفاهة لذة السلطة والمال و.. تماماً كالطفل الصغير لن يعرف لذة السلطة والمال والجنس و.. إلاّ بخروجه عن حدّ الطفولة ودخوله عالم المراهقة والشباب والنضج، هناك سيدرك أنّ كل تلك المعارك القاسية التي كان يخوضها في لعبه ولهوه مع أصدقائه، لم تكن سوى حفنة من تفاهات وسخافات كان يظنّها شيئاً ما ولم تكن بشيء.
من هنا، نعتقد أن الحياة الراكدة – وهي حياة قد تكون مجتمعيةً وقد تعيشها شريحة واحدة في المجتمعات، وقد يعيشها أفراد –لا يمكن التجديد فيها بالإقناع الفكري والثقافي المباشر، بل بالخطوات العملية التي تضع هؤلاء الناس في واقع آخر، وقد أتعب بعض التجديديّين المستنيرين في عالمنا العربي والإسلامي أنفسهم في إقناع المسلمين بضرورة التجديد، ولم ينتبهوا الى أنّ العقل الذي يتلقى خطابهم هو عقل زراعي- مثلاً- فيما خطابهم وليد حياة صناعية، وأنّ هذا العقل لن يتمكّن – بجدّ وحقيقة- أن يعي معنى هذا الخطاب الجديد إلاّ بأن يصبح صناعياً بنفسه، وإلاّ فلن يفهم التجديد إلاّ أولئك الأفراد – وليس الجماعات والشعوب- الذين امتازوا ففهموا، ومشاريع التحديد إذا ظلّت تعيش مع الأفراد والنخب فلن يكتب لها النجاح؛ لأنّ نخبنا في كثير من الأحيان نخب مخمليّة تجيد لعن المجتمع والتطهّر منه، ويكثر في مُعْجَمِها نقد الآخر بدل نقد الذات، فكيف سيسير المجتمع معها حينئذٍ؟!
على هذا الأساس، نحن بحاجة إلى خطاب تجديدي يتزامن مع العصر الذي يعيشه العقل المسلم اليوم، وعندما أقول: العقل المسلم اليوم، فأنا أحدّد زمنه الطبيعي المادي، ولا أحدّد زمنه المناخي والثقافي والمعرفي، وهنا مكمن الخطر، أن أقدّم خطاب الغرب اليوم للمسلمين مع فارق زمني أساس بين العقلين: الغربي والإسلامي، فخطاب ما بعد الحداثة في الغرب لن يتمّ هضمه ببساطة في مجتمعات عربية لم تدخل إلى الآن الحداثة نفسها... حرقٌ للمراحل أدّى إلى حرق مشاريع التجديد، ومن ثم إلى اضطرارنا اليوم- بعد أكثر من قرن ونصف على حسن العطار ورفاعة الطهطاوي والأفغاني وعبده ومحسن الأمين – لتبرير شرعية التجديد، بعد فشل أكثر من مشروع في الأمّة. إنّ مشكلة الكثير من مفكّرينا ومثقفينا أنّهم انتقدوا مخاطبة المؤسسة الدينية التقليدية لأمم قد ماتت، كما يعبّر السيد الصدر، لكنّهم وقعوا داخل مجتمعاتهم أحياناً في مخاطبة أمم لم تولد بعد.
في هذا السياق، لا نجد أنّ مشروع التجديد ينطلق من الثقافة الدينية وحدها، وبعض أولئك الذين أطلقوا خطاب تجديد الفكر الديني ليروا فيه حلاً وحيداً لمعضلات عالمنا الإسلامي، فكّروا هذه المرّة بطريقة قديمة وملغومة معاً؛ قديمة لأنهم مازالوا ينظرون للفكر الديني في موقعه الذي كان يحتلّه في القرون الهجرية الأولى، وملغومة لأنهم يقرّون بأن السبب الوحيد لتراجع حالنا اليوم هو الفكر الديني، متناسين أنّ الذين تركوا الفكر الديني من التيارات الأخرى لم يقدّموا هم أيضاً شيئاً يتباهون به على التيارات الإسلامية، ولو أنّهم فكّروا في عصرنا الحاضر لعرفوا أنّ تجديد الفكر الديني ليس سوى ضلع من أضلاع خارطة التجديد في الأمة، بل في الفكر الديني نفسه، فطريقة التجديد الداخل – دينية شكل من أشكال التجديد لا يكفي لوحده للنهوض بالأمة اليوم، وإنّما لابد في عصرنا الراهن من التجديد الخارج- ديني أيضاً، أي تجديد أجهزتنا ومنظوماتنا المعرفية الأخرى وأوضاعنا السياسية والإقتصادية والثقافية والاجتماعية والتنموية والعلمية والجامعية وغيرها، فليس من الضروري أن تعالج أمراض الجلد منه، بل قد تعالج من مكان آخر كالمعدة.
إذن، فهناك علاقة جدلية بين التجديد الديني والتجديد الإنساني؛ حيث يؤثر كل منهما في الآخر، ويسبق كل منهما الآخر ويلحقه، وهنا حصل وهم التجديد، عندما أوقعنا القطيعة بين هذين المسارين، وكأن إصلاح الفقه او الكلام كفيل لوحده بإصلاح حالنا!
كلمة أخيرة
إذا شرعنا التجديد نكون قد خطونا خطوة الألف ميل، وإذا تحدّثنا عن وجوبه فلا نكون قد قمنا بشيء سوى أنّنا أثقلنا كاهلنا بالمسؤولية الدينية والإنسانية، فالتجديد قبل كل شيء مخاطرة تحتاج للكثير من المؤهلات وللكثير من التضحية والاستعداد، وهما أمران يفتقدهما الكثير من دعاة التجديد في عصرنا؛ لأنّه عندما تصل الأمور الى التضحية يظهر ما يسمّيه ديكارت: "الفيلسوف المقنّع"، الذي يتحايل ويراوغ ليحمي نفسه في محيط القمع والترهيب، نحن بحاجة في مهمّة التجديد الى قوافل الاستشهاديين المستعدّين للتضحية في سبيل القيم الدينية النبيلة التي يؤمنون بها، والبحث عن شرعنة أو ضرورة التجديد ليسد سوى كلام يلوح كسراب أمام تضحيات الواقع، فليخرج مفكّرنا وعالمنا ومثقّفنا من طاووسيّته التي يمنّ بوهمها على الآخرين! فالتجديد بات عملية قيصرية بامتياز.
ولا تكفي إرادة التجديد وتضحياته، بل لابد معها من مناخ التجديد، فمشروع التجديد- كسائر المشاريع العملانية- يفترض أن يعي الواقع ليكون واقعياً، فلا نقع في أوهام النخبة وأحلام الثقافة.
حيدر حب الله

https://taghribnews.com/vdcjmte8.uqemvzf3fu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز