أودُّ أن تكونَ تأمُّلاتى هذه حُرةً طليقةً مِن قيودِ البحثِ الأكاديميِّ، وذلك كى أُفيدَ بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ مِن تلاقُحِ الأفكارِ وتبادُلِ الرُّؤَى واختلافِ وِجهاتِ النظرِ .
شارک :
فضیلة الشیخ أحمد الطيب لا يستقيم فى منطق العقل.. أن أحاكم دينًا بجرائم "قلة" من أتباعه ، لو صحت نسبة الإسلام إلى العنف.. لصحت نسبة المسيحية واليهودية إلى الإرهاب .
فما أقولُه هنا هو مِن منظورِ رُؤيتى كرُجلٍ تعلَّمَ ودَرسَ وشَبَّ وشابَ فى الأزهرِ جامعًا وجامعةً، واهتمَّ – منذُ زمنٍ بعيدٍ – بأمرِ عَلاقةِ الاحترامِ المُتبادَلِ بين الإسلامِ والأديانِ عمومًا، وبخاصةٍ الأديانَ السماويةَ، وعلى وجهٍ أخصَّ الدِّينَ المسيحيَّ والإخوةَ المسيحيّينَ؛ والذين يُذكِّرُنا القرآنُ الكريمُ صباحَ مساءَ بأنَّهم أقربُ الناسِ مودةً للمسلمين.
نبذ العنف من كل الأديان واسمحوا فى بِدايةِ تأمُّلاتى أن أُذكِّرَ ببديهيةٍ مِن البديهياتِ، ما أظُنُّ أنَّها تحتاجُ فى أمرِ إثباتِها إلى أكثرَ مِن لَفْتِ النظرِ إليها، هذه البديهيةُ هي: إنَّه لا يستقيمُ فى منطقِ العقلِ أن أُحاكِم دِينًا مِن الأديانِ بجرائمِ الحركاتِ المُسلَّحةِ التى تَرتكبُها باسمِ هذا الدِّينِ، وتخرُجُ على ما تُقرِّرُه دعوةُ الأديانِ وأصولُها وثوابتُها، وإلَّا اختلطتِ الأوراقُ فى أيدينا منذُ البدايةِ، وأصبحنا لا ندرى هل نتحدَّثُ عن دِينٍ وعن مؤمنينَ حقيقيينَ بهذا الدِّينِ، أو نتحدَّثُ عن قِلَّةٍ مُجرِمةٍ تُنفِّذُ جرائمَها تحت لافتةِ الدِّينِ. ومِن هذا المُنطلَقِ فإنَّه لو صحَّ أن يُنسَبَ الإسلامُ إلى العُنفِ بسببِ ما تَقترفُه قِلةٌ قليلةٌ، فإنَّه يصِحُّ – وبالمنطقِ نفسِه – أن تُنسَبَ المسيحيةُ واليهوديةُ إلى الإرهابِ بسببِ ما اقترَفَته الحروبُ الصليبيةُ فى العصورِ الوُسطى، وما تقترفُه الصهيونيةُ العالميةُ فى عصرِنا هذا. إنَّ المسلمينَ يرفُضونَ هذا المَنطقَ ويُنكرونه أشدَّ الإنكارِ، ولم يحدُثْ أبدًا فى تاريخِ المسلمينَ أن خَلَطوا بينَ الأديانِ وتُجَّارِ الأديانِ فى سُوقِ السياساتِ وبُورصةِ المصالحِ، والتاريخُ يُحدِّثُنا أنَّ المسلمينَ دَفَعوا ثمنًا فادحًا مِن دمائِهم وأنفسِهم وأموالِهم وأراضيهم لمقاومةِ الغزواتِ التى كانت تحمِلُ الصليبَ، ومع ذلك لم يجرؤْ مُؤرِّخٌ مُسلمٌ واحدٌ ولا عالِمٌ ولا مُفكِّرٌ أن يفتَحَ فمَه بكلمةٍ واحدةٍ تسيءُ إلى المسيحيةِ كدِينٍ، أو تَمَسُّ المسيحَ - عليه السلامُ - مِن قريبٍ أو مِن بعيدٍ، ونفسُ الشيءِ يُقالُ على موقفِ المسلمين الآنَ مِن الدِّيانةِ اليهوديةِ، ومِن تكريمِ رسولِها الكريمِ موسى .
وتَعلمونَ أنَّ هذا الموقفَ الموضوعيَّ مِن جانبِ المسلمِ أمرٌ تُمليه عليه عقيدتُه الإسلاميةُ، فلا خِيارَ للمسلمِ فى احترامِ المسيحيةِ واليهوديةِ كدِيانَتَينِ سماويتَينِ، وفى عدمِ المَساسِ بأيٍّ مِن الديانَتَينِ ولو بخاطرةٍ مِن خَطَراتِ نفسِه، وإلَّا أصبحَ فى مَهبِّ الرِّيحِ وانتفى عنه وَصفُ الإسلامِ.
الإيمان بالديانات السماوية ومِن هذا المنطلقِ ينشأُ المسلمُ على الاعتقادِ بأنَّ الإيمانَ بمحمد (ص) يَستلزِمُ – بالضرورةِ – الإيمانَ بعيسى وموسى وإبراهيمَ وجميعِ الأنبياءِ والمرسلين منذُ بَدءِ الخليقةِ وإلى النبيِّ الخاتَمِ محمدٍ ﷺ وأنَّ الإيمانَ بالقرآنِ يَستلزمُ الإيمانَ بالإنجيلِ والتوراةِ، والمسلمُ فى كلِّ ذلك لا ينطلِقُ مِن مَعنى المجاملةِ أو التودُّدِ لإخوانِه- المسيحيينَ واليهودِ، فالمسألةُ – عنده – أعقدُ وأخطرُ مِن ذلك.
إنَّها مسألةُ الإيمانِ بالإسلامِ نفسِه أولًا وقبل كلِّ شيءٍ، وإذا كان الإيمانُ بالمسيحيةِ واليهوديةِ جُزءًا ثابتًا فى مفهومِ الإيمانِ بالإسلامِ، فإنَّ جحودَ أيٍّ منهما هو جحودٌ بالإسلامِ ذاتِه وكُفرٌ به؛ حتَّى شريعةُ الإسلامِ هى – فى كثيرٍ مِن وجوهِها – نفسُ الشرائعِ السابقةِ، ونحن نحفـظُ مِن عِلمِ الأصولِ القاعـدةَ المشهورةِ: (شــرعُ مَن قبلَنا شرعٌ لنا ما لم يرِدْ ناســخٌ).
تأصيل المودة بين المسلمين والمسيحيين إذا انتقلنا إلى القرآنِ وجدناه شديدَ الوضوحِ فى تأصيلِ عَلاقةِ الإخاءِ بين المسلمينَ والمسيحيينَ، وفى ابتناءِ هذه العَلاقةِ على أصلِ المودةِ (المحبةِ)، وهذا ما عبَّر عنه الوَحْيُ الإلهيُّ الذى نَزلَ على قلبِ محمـدٍ (ص) بقـولِه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 82- 83). ونجدُ فى القرآنِ حديثًا عذبًا جميلًا عن سيِّدِنا عيسى ، وهو فى مَنظورِ القرآنِ مع أمِّه مريـمَ – عليها السلامُ - آيةً مِن آياتِ اللهِ الكُبرى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِين ٍ} (المؤمنون: 50).
وفى القرآنِ حديثٌ رائعٌ وتصويرٌ شجيٌّ لآلامِ السيدةِ مريمَ ومُعاناتِها، وفيه سورةٌ كاملةٌ تُسمَّى سورةَ مريمَ، بَينَما لا نَجِدُ فى سُورةٍ سُمِّيتْ باسمِ زوجةٍ مِن زوجاتِ النبيِّ محـمدٍ ﷺ ولا ابنةٍ مِن بناتِه.
وفى القرآنِ سُورةٌ مِن أوائلِ ما نزلَ مِن السُّورِ المكيةِ، تُسمَّى سُورةَ البروجِ (سـورة رقم 85) تضمَّنَت مَدحًا لنصارى نجرانَ وثناءً عليهم، وهم يُفضِّلون الموتَ حرقًا على تركِ إيمانِهم باللهِ العزيزِ الحميدِ كما يقولُ القرآنُ.
وفى القرآنِ سُورةٌ أخرى مكيةٌ أيضًا تُسمَّى سُـورةَ (الـرُّومِ) تُصوِّرُ الآياتُ الأولى فيها تعاطُفَ الإسـلامِ مع المسيحيينَ الرُّومِ فى هزيمتِهم أمامَ المجوسِ (الفُرسِ). وقد فَرِحَ أهلُ مكةَ بانتصارِ الوثنيةِ على الإيمانِ وعيَّروا المسلمين بهزيمةِ الرُّومِ، وحين ضاقَ المسلمون بذلك طمأَنَهم النبيُّ (ص) ، وقالَ لهم : «أمَا إنَّهم (الرُّومُ) سيُغلَبونَ»، ثمَّ نزلَ القرآنُ ليُؤكِّدَ أنَّ الرُّومَ سيَغلِبونَ الفُرسَ فى بِضعِ سنواتٍ، ويومَها سيَفرَحُ المؤمنونَ {مِن الرُّومِ والمسلمينَ} بنصرِ اللهِ، وتحقَّقَ وَعدُ اللهِ بانتصارِ الرُّومِ على الفُرسِ. ولا يَخفى هنا تصويرُ القرآنِ للمسلمينَ والرُّومِ وكأنَّهم أقرباءُ تَربِطُ بينهم وشائجُ القُربَى والمودةِ.
هجرة المسلمين للمسيحيين ونودُّ أن نُبيِّنَ أنَّ هذه العَلاقةَ الحميمةَ التى يُؤكِّدُ عليها الإسلامُ بين أتباعِه وبين المسيحيينَ؛ ليست أمرًا مُصطنعًا فَرضَته العَلاقاتُ السياسيةُ أو الرغبةُ فى إقرارِ حُسنِ الجِوارِ، بل هى أصلٌ مِن أصولِ هذا الدِّينِ وثابتٌ مِن ثوابتِه التى لا تتبدَّلُ بتبدُّلِ الأحوالِ والظروفِ.
والدليلُ على ذلك: هجرةُ المسلمينَ الأوائلِ إلى الحبشةِ المسيحيةِ ومَلِكِها المسيحيِّ، وطلبُ الأمانِ فى ظِلالِه فرارًا مِن أذى قُريَشٍ واضطهادِهم وتعذيبِهم، ولم يأتَمنِ النبيُّ محمدٌ (ص) دولةً ولا مَلِكًا آخرَ على هؤلاءِ المؤمنينَ غيرَ هذا المَلِكِ المسيحيِّ، ولذلك لم يَلبَثْ أن قالَ لهؤلاءِ المُستضعَفِينَ: (إنَّ بأرضِ الحبشةِ مَلِكاً لا يُظلَمُ أحدٌ عنده، فالحَقوا ببلادِه حتَّى يَجعلَ اللهُ لكم فَرجًا ومَخرجًا ممَّا أنتم فيه) والغريبُ أنَّ المسلمينَ الأوائلَ هاجروا إلى هذا المَلِكِ المسيحيِّ مرَّتَينِ، وكان مِن بين المهاجراتِ ابنةُ النبيِّ ﷺ وزوجُها.
إنَّ هذه الهجرةَ المتكرِّرةَ ليست فى واقعِ الأمرِ إلَّا تطبيقًا عمليًّا للأصولِ القرآنيةِ التى عَرضنا جانبًا منها، وهى تَعكِسُ مدى ثِقةِ النبيِّ فى أتباعِ سيِّدِنا عيسى ، وكيف أنَّه كان ينظُرُ إليهم كما ينظُرُ الشقيقُ إلى أشقائِه وقتَ الشدَّةِ، كما تُجسِّدُ مشاعرَ الوُدِّ والنُبلِ التى كان يَجيشُ بها صدرُ هذا المَلِكِ الكريمِ تُجاهَ المسلمينَ، وبصورةٍ عبَّرت عنها السيدةُ أمُّ سلمةَ –إحدى المهاجراتِ– بعبارةٍ تَفيضُ وفاءً وعِرفانًا بالجميلِ، قالت فيها: «فخَرَجنا إليها -بلاد الحبشة- حتَّى اجتمعنا بها، فنَزَلنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أمَّنَنا على دينِنا ولم نخشَ منه ظُلمًا».
ومَظهرٌ آخرُ يلتقى فيه الإسلامُ مع المسيحيةِ جنبًا إلى جنبٍ فى قلبِ مسجدِ النبيِّ ﷺ، وذلك حين جاءه نَصارَى نجرانَ –مِن اليمنِ– فى وفدٍ ضمَّ 60 رجلًا ليُحاوروه فى أمرِ الإسلامِ، فاستضافَهم النبي ّ(ص) فى مسجدِه بالمدينةِ، وقد تصادَفَ مرَّةً أن تَزامنَ وقتُ صلاتِهم مع صلاةِ العصرِ للمسلمينَ، فقالوا للنبيِّ: (يا محمدُ، إنَّ هذا وقتُ صلاتِنا، وإنَّا نريدُ أن نُؤدِّيَها، فقال لهم: دُونكم هذا الجانبَ مِن المسجدِ، صلُّوا فيه).
وهكذا أُقيمت صلاةُ المسلمين خَلْفَ النبيِّ فى جانبٍ مِن المسجدِ، وأُقيمت إلى جِوارِهم صلاةُ المسيحيينَ فى الجانبِ الآخرِ مِن المسجدِ نفسِه، وتُشكِّلُ هذه الحادثةُ الأصلَ التشريعيَّ الذى يستندُ إليه الفُقهاءُ الذين يُجيزونَ لغيرِ المسلمينَ أن يُمارسوا عِبادتَهم فى مساجدِ المسلمينَ.
انفتاحِ الإسلامِ على الأديانِ الأُخرى إنَّ الإسلامَ دِينٌ يَعى جيدًا أنَّه حَلْقةٌ أخيرةٌ فى سِلسلةِ الأديانِ، وأنَّه يَحتضِنُ الأديانَ الإلهيةَ السابقةَ عليه، ويُبشِّرُ بما بشَّرَت به مِن أصولِ العقائدِ ومكارمِ الأخـلاقِ، وأنَّ أواصرَ قُربى ووشائجَ رَحمٍ تَربِطُ رسالةَ الإسلامِ برسالاتِ عيسى وموسى وإبراهيمَ ونوحٍ -عليهم جميعًا أفضلُ الصلاةِ والسلامِ- واقرؤوا معى إن شِئتُم خِطابَ القرآنِ للمسلمينَ وهو يُقعِّدُ لهم هذا الأصلَ الذى لا يهتزُّ يمينًا ولا يسارًا: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وأيضًا تصويرُ محمدٍ (ص) لهذه الأَصَرةِ المشتركةِ الَّتى تَربِطُ بين دعوتِه ودعـوةِ إخوتِه مِن الأنبياءِ والمرسلينَ فى عبارتِه الَّتى تَفيضُ روعةً وجمالًا، إذ يقـولُ: (أنا أَوْلَى الناسِ بعيسى بنِ مريمَ فى الدنيا والآخـرةِ، والأنبياءُ إخـوةٌ لعَـلَّاتٍ، أمهاتُهم شتَّى، ودِينُهم واحدٌ).
وهـذه الأصولُ هى مِن وراءِ انفتاحِ الإسلامِ على الأديانِ الأُخرى واحتفائِه بها، واحترامِ أتباعِها، وإقرارِهم على عقائدِهم؛ حتَّى لو كانت تختلِفُ مع منظورِ الإسلامِ لهذه العقائدِ.
حماية المسلمين لغير المسلمين والحديثُ عن مَسئوليةِ الدولةِ الإسلاميةِ وحمايةُ أهلِ الأديانِ الأخرى وتأمينُهم وتأمينُ حُريتِهم الدينيةِ حريةً كاملةً يَحتاجُ لأُمسيةٍ مُستقِلَّةٍ. ويكفى أن أُشيرَ هنا فقط إلى أنَّ أولَ آيةٍ نزلت فى القرآنِ تأذَنُ للمُسلمينَ بالقتالِ هى قـولُه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 39، 40).
وقد أُذِنَ فى هذه الآيةِ بالقتالِ بعد ما نُهِيَ عنه فى نيِّفٍ وسبعينَ آيةً، فقد كان أصحابُ النبيِّ (ص) يأتونَ إليه طُوالَ العهدِ المكيِّ مِن بين مضروبٍ ومشجوجٍ يتظلَّمون إليه، فيقولُ لهم: (اصـبِرُوا فإنِّى لم أُومَرْ بقتالٍ) حتَّى هاجرَ فأنزلَ اللهُ عليه هذه الآيةَ. وفى ضوءِ هذه الآيةِ يتضحُ – تحديـدًا – أنَّ أولَ أسبابِ مشروعيةِ القتالِ فى الإسلامِ: نُصرةُ المظلومينَ ودفعُ الظلمِ عنهم، وتمكينُهم مِن حقِّهم فى حياةٍ آمنةٍ مثلَ غيرِهم، وهو مَطلبٌ لا يعرِضُ للعقلِ المستقيمِ أن يتنكَّرَ له أو يرتابَ فى مشروعيتِه فى يومٍ ما مِن الأيامِ.
كما يتضحُ أيضًا أنَّ الحربَ فى هذا النصِّ الإلهيِّ مشروعةٌ للدفاعِ ليس عن الإسلامِ وحدَه، بل عن كلِّ الأديانِ السماويةِ ضدَّ عُدوانِ الشركِ والمشركينَ. ومَّما يعجَبُ له كلُّ باحثٍ فى هذه الآيةِ الكريمةِ – وكائنًا ما كان دِينُه أو مذهبُه - أنَّ سببَ مشروعيةِ القتالِ فى هذه الآيةِ؛ ليس هو تأمينَ الدفاعِ عن المساجدِ فقط، بل هو أيضًا لتأمينِ الدفاعِ عن صوامعِ الرُّهبانِ، وكنائسِ المسيحيينَ واليهودِ، وإن تَعجَبْ فاعجَبْ لدِينٍ يُغرى أتباعَه بالقتالِ مِن أجلِ تأمينِ بقاءِ الأديانِ الأخرى، وأنا هنا أردِّدُ ما قالَه ابنُ عباسٍ - رضِى اللهُ عنهما - منذُ أربعةَ عشرَ قرنًا – وهو يُفسِّرُ هذه الآيةَ حيثُ قالَ: (يَدفعُ اللهُ بدِينِ الإسلامِ وبأهلِه عن أهلِ الذمةِ).
وقد لَفتَ الجَمعُ بين المساجدِ والكنائسِ والصوامعِ أنظارَ المفسِّرينَ، وربَّما أثارَ دَهشتَهم أيضًا، وتساءَلوا عن دخولِ الصوامعِ والبِيعِ والصلواتِ فى خُطَّةِ جِهادِ المسلمينَ ودفاعِهم عنها، وكان مِن إجابةِ عُلماءِ التفسيرِ أنَّ هذه المواضعَ أجمعُ مواضعَ للمؤمنينَ، وإن اختلفتِ العباراتُ عنها، أو كما يقولُ الإمامُ الرازيُّ: (كلُّها مواضعُ يجرى فيها ذِكرُ اللهِ تعالى، فليست بمنزلةِ عبادةِ الأوثانِ). فالآيةُ الكريمةُ وهى تأذَنُ بالقتالِ دفاعًا عن مواضعِ العبادةِ لا تأخُذُ فى حُسبانِها المساجدَ فقـط، وإنَّما تنظُرُ كذلك إلى أماكنِ العبادةِ الخاصةِ بغيرِهم.
وإذن فليس صحيحًا ما يُقالُ عن الإسلامِ فى أيامِنا هذه، ويُوصَفُ به مِن أباطيلَ وأكاذيبَ تُمليها مصالحُ ومطامعُ معلومةٌ ومكشوفةٌ، وليس صحيحًا أنَّ حضارةَ الإسلامِ حضارةٌ هَمجيَّةٌ، وأنَّ المسلمينَ إرهابيّونَ، وليس حَسنًا ولا مقبولًا أن يُحكَمَ على أمةٍ تبلُغُ المليارَ وثُلُثَ المليارِ بجرائمَ قليلةٍ لا تُمثِّلُ رقمًا صحيحًا فى حسابِ النِّسبةِ والتناسُبِ فى هذه الأمةِ، وقد توقَّفتُ طويلًا أيامَ جرائمِ التعذيبِ الوحشيِّ الَّذى ارتُكِبَ فى سجنِ (أبو غريب)، وتدبَّرتُ اعتذارَ كِبارِ المسئولين وقتَها، وكيف أن هذه الجرائمَ لا تُمثِّلُ الشعبَ الأمريكيَّ، ولا تُسيءُ إلى الحضارةِ الأمريكيةِ، وهى قَولةُ حقٍّ نعتقدُها ونُؤيِّدُها، ولكن ظلَّ السؤالُ قويًّا: إذا كانت جـرائمُ (أبو غريبٍ) وتدميرُ حضارةِ الإسلامِ فى العراقِ وفَلسطينَ لا تُبرِّرُ إدانةَ حضارةٍ عظـيمةٍ كالحضارةِ الأمريكيةِ، فكيف كانت حادثةُ الحادى عشرَ مِن سبتمبرٍ مُبرِّرًا كافيًا لإدانة حضارةِ الإسـلامِ والمسلمينَ؟!