أرسى الإسلام قواعد وأسسا للتعايش مع الآخر في جميع الأحوال والأزمان والأماكن, بحيث يصبح المسلمون في تناسق واندماج مع العالم الذي يعيشون فيه, بما يضمن تفاعلهم مع الآخر وتواصلهم معه دون تفريط في الثوابت الإسلامية.
شارک :
على نهج الأسس ووفق هذه الثوابت يمضي المسلمون قدما في رسم الحضارة الإسلامية لمعايشة المستجدات التي تطرأ عبر التاريخ, كما يظل الرسول (ص) الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في كل شيء, مصداقا لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ} [الأحزاب:٢١]. وقد ترك رسول الله (ص) لنا أربعة نماذج للتعايش مع الآخر داخل الدولة الإسلامية وخارجها. أول هذه النماذج هو نموذج مكة, وكان المقام فيها مقام الصبر والتعايش, والثاني نموذج بقاء المسلمين في الحبشة, والمقام فيها مقام الوفاء والمشاركة, والثالث نموذج المدينة في عهدها الأول, والمقام فيها مقام الانفتاح والتعاون, أما النموذج الرابع فهو نموذج المدينة في عهدها الأخير, والمقام فيها مقام العدل والوعي قبل السعي. ولا يخرج بقاء المسلم في مجتمعه وتعايشه مع كافة النظم والأديان كافة عن هذه الصور الأربع, ومن ثم يجب علينا أن نعي حقائقها, لندرك أنها صالحة للمسلم في كل عصر بحسب حاله, مستفيدا من سنة سيدنا رسول الله (ص) وسيرته على كل حال, إذ قد أقامه الله تعالى في هذه المقامات كلها. والحقيقة أن هذه المقامات أصبحت أساسا أصيلا في تكوين شخصية المسلم, وامتدت إلى أعماقه حتى صار الصبر والتعايش والانفتاح والتعاون والوفاء والمشاركة والعدل والوعي بالشأن والزمان والسعي على بصيرة جزءا لا يتجزأ من تلك الشخصية, بل إن هذه المقامات هي أصل دين الله الذي ارتضاه للبشر عبر العصور وكر الدهور. والذي نحاول أن ننتهي إليه أن النماذج الأربعة في التعايش مع الآخر فردا كان أو دولة هي نماذج قائمة لا يعتريها إبطال أو تعطيل, وواقع وحال الأفراد أو الجماعات هو الذي يحدد للمسلم في هدي أي نموذج يمكن أن يتواصل ويتعاون ويحقق السلام الاجتماعي والتعايش مع الآخر. على ألا يغيب عن أذهاننا أن هذه النماذج لا يدخلها النسخ بمعنى رفع أحكامها كلية, إذ النسخ لا يقع في الأحكام التي وردت في كتاب الله تعالى, فهو صالح لكل زمان ومكان, وهو الكلمة الأخيرة من رب العالمين إلى الناس, ونحن في احتياج إلى كل ما أمر به ونهى, أو أرشد ونبه, فليس هناك نسخ لأحكامه, لا بالكتاب ولا بالسنة. ويناسب ما ذهبنا إليه هنا القول بالنساء -بفتح النون- وهو أن يرد حكم مقيد بقيد, أو مشروط بشرط فنعمل به عند حصول قيده أو شرطه, ولا نعمل به عند فقد واحد منهما, وبذلك نكون قد أنزلنا القرآن الكريم منزلته, فلا تنتهي عجائبه, ولا يخلق من كثرة الرد, ولا يزال مصدرا للأحكام في هدي السنة المشرفة وبيانها, في كل زمان ومكان, وعلى كل حال. وقد أشار الزركشي وتابعه السيوطي إلى ذلك عند كلامهما عن النسيء, وأنه ليس من أنواع النسخ حقيقة, قالا رحمهما الله تعالى: «قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب:...الثالث: ما أمر به لسبب, ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر, وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله, ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها, ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة, وإنما هو نسيء كما قال تعالى: {أو ننسأها} [البقرة:١٠٦], فالمنسأ: هو الأمر بالقتال إلى أن يقوي المسلمون, وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف, وليست كذلك بل هي من المنسأ, بمعنى: أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم, ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكمٍ آخر, وليس بنسخ, إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا» (البرهان في علوم القرآن ٢/٤٢, والإتقان ٢/٥٧). ومما سبق يمكننا أن نحمل الآية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ} [البقرة:١٠٦] على نسخ الشرائع,فنسخ الإسلام ما قبله من الكتب المنزلة, وأزال أحكامها, وبين انتهاء العمل بها, وقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} تحمل على قراءة: {أو ننسأها}, ويصبح إطلاق اسم النسخ على ترك الحكم لانعدام علته تجوزا لا يمنع العودة إلى الحكم الأول عند رجوع حالته وظرفه أو علته. ويمكن ذلك بأن نجعل كل الآيات التي ذكر فيها أنها منسوخة إنما تثبت حكما شرعيا على المكلفين في حالة معينة, وأن الآيات التي قيل فيها إنها ناسخة تثبت حكما شرعيا آخر, عند تغير الحالة الأولى إلى حالة أخرى, يعني إذا رجعت الحالة الأولى, رجع معها الحكم المنزل بإزائها. أو بمعنى آخر: (تنزل الأحكام المتعارضة على أحوال مختلفة). ومعلوم من الدين بالضرورة أن ما ذكرنا لا يتأتى في الأحكام الثابتة المستقرة التي أجمعت عليها الأمة. لكل ما سبق ندعو العلماء المجتهدين في عصرنا الحاضر إلى التعمق في إدراك هذه النماذج الأربعة وحسن الاستفادة منها باستخلاص الأحكام الشرعية التي تحقق للمسلم فردا أو جماعة المصلحة, وتضمن له الأمن والحرية, وتأخذ بيده إلى التوفيق بين القيام بمتطلبات دينه من دعوة للحق وتأدية للعبادات والشعائر وبين السلام مع الآخرين وعدم الاصطدام بهم.