جاءت سيرة النبي (ص) بأربعة نماذج للتعايش مع الآخر وهي كافية لجميع الأحوال والأزمان, وتمثل تلك النماذج منهجا ونبراسا للمسلمين في علاقتهم مع الآخر, ليكونوا في مقدمة الأمم في الدعوة إلى السلام والتعايش السلمي مع مختلف الأمم والطوائف, وذلك بالتزامهم بثوابت الإسلام ومبادئه التي تدعو إلى الخير والبر والتعاون مع الآخر في إطار من الاحترام المتبادل.
شارک :
وكالة أنباء التقریب (تنا) أول نماذج التعايش (نموذج مكة قبل البعثة), حيث عاش رسول الله (ص) في بيئة يغلب على سكانها عبادة الأوثان, وممارسة الرذيلة من بغاء وشرب خمر وارتكاب للفواحش, وامتد ذلك إلى أن القوي كان يطغى على الضعيف ويأكل حقه, حتى إن السيد كان يقهر من تحت يده من عبيد وإماء ولا يحترم إنسانيتهم, وكان العربي يتعالى على العجمي, وكان الأبيض يفخر على الأسود, ويصف حالهم جعفر بن أبي طالب حين خطب أمام النجاشي فقال: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية, نعبد الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونقطع الأرحام, ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف (مسند أحمد ٤/٢٨٦). وفي هذه البيئة غير السوية عاش رسول الله (ص) مع قومه متآلفا معهم, يقوم بدور اجتماعي فعال, ويتعاون في أمور البر والخير. ومن مظاهر ذلك تحالفه (ص) مع قبائل من قريش تعاهدوا على نصرة المظلوم قبل البعثة, حيث تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان; لشرفه وسنه, فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه, وكانوا على من ظلمه, حتى ترد عليه مظلمته, فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول. وفي هذا يقول رسول الله (ص): لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم, ولو أدعى به في الإسلام لأجبت (السيرة النبوية لابن هشام ١/١٣٣). وقد تمسك النبي (ص) بهذا الحلف أيما تمسك, وكان يعمل بمقتضاه حتى بعدما عادته قريش وضيقت عليه هو وأصحابه, فيروى أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص جمالا, فماطله بأثمانها, فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل; استهزاء برسول الله, لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل, وذلك بعد أن وقف على ناديهم فقال: يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام, فإني غريب وابن سبيل, وقد غلبني على حقي؟ فقالوا له: أترى ذلك الرجل يعنون رسول الله اذهب إليه فهو يعينك عليه, فجاء إلى رسول الله (ص) فذكر له حاله مع أبي جهل, فخرج مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه, فقال: من هذا؟ قال: محمد. فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير من الرهبة فقال له: أعط هذا حقه. قال: نعم, لا تبرح حتى أعطيه الذي له. فدفعه إليه, ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا, فقد والله أخذ لي بحقي .(السيرة الحلبية ١/٥٠٧). ومن مظاهر تعاونه (ص) مع قومه قبل البعثة مساعدته إياهم في حقن دمائهم, ورفع التنازع بينهم, ودفع شر مستطير كان سيحيق بهم, وذلك: أنه في السنة الخامسة والثلاثين بنت قريش الكعبة وتقاسمتها أرباعا, فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود تنازعت القبائل أيها يضعه موضعه حتى كادوا يقتتلون, ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل عليهم من بني هاشم, فكان (ص) هو أول داخل, فقالوا: هذا محمد, هذا الصادق الأمين, رضينا به, فحكموه, فبسط (ص) رداءه ووضع الحجر فيه, وأمر أربعة من رؤساء القبائل الأربع أن يأخذوا بأرباع الثوب, فرفعوه إلى موضعه, فتناوله (ص) بيده المباركة, فوضعه في موضعه (سيرة ابن إسحاق ص١١٩). وعلى مستوى أسرته (ص) نراه يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي رباه, فيأخذ منه عليا رضي الله عنه ليربيه, حين أصيبت قريش بأزمة اقتصادية شديدة, وكان أبو طالب ذا عيال. بتلك الأمثلة وغيرها ينبغي على المسلمين أن يقتدوا في تعاملهم مع الآخر, حيث يضعون نصب أعينهم هدي الرسول (ص) في التعامل مع غير المسلمين وحرصه على التمسك بالأخلاق والمبادئ الإسلامية القويمة التي تحث على الوفاء والصدق والأمانة, فقد كان (ص) يعرف في مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين; ولم يعرف عنه أبدا أنه خان أمانة أو نقض عهدا أو كذب يوما. وهذا ما أدركته السيدة خديجة رضي الله عنها حين واسته بقولها: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا, إنك لتصل الرحم, وتصدق الحديث, وتحمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق (البخاري ٦/١٧٣). إن نموذج التعايش في مكة مع الآخر قبل البعثة -وكان المقام فيه (مقام التعايش والوفاء والتعاون على البر والخير)- يدفع المسلمين الذين يعيشون في مثل تلك الظروف-في أي زمان أو مكان- إلى التمسك بعقيدتهم وعدم التفريط في ثوابت وأصول الإسلام مع الالتزام بمكارم الأخلاق التي تؤسس وترسخ تلك العلاقة مع الآخر بما يضمن السلم والاستقرار الاجتماعي, ويكشف عن حقيقة الإسلام وسماحته أمام العالمين.