ليس في الإسلام، هذا الدين الذي ينتصب في عنوان المنتدى قبالة الغرب، ما يدعو للتصادم والتصارع. كما أن الغرب-وهنا نتحدث عن مصدر آخر من مصادر وعينا بضرورة نبذ روح الصدام المانوي-لا يخلو من عقلاء اشتغلوا على امتداد تاريخ الحضارة الغربية على ردم الهوة الفاصلة بينهم وبين الإسلام.
شارک :
الإسلام والغرب: نحو عالم أفضل، عنوان كتاب أصدره مركز الجزيرة للدراسات في قطر، يتضمن مجموع الدراسات والعروض التي قدمت خلال الندوة التي نظمها المركز تحت عنوان الاسلام والغرب . ويقع الكتاب في مئتين وتسع وسبعين صفحة من القطع الكبير.
والكتاب هو ثمرة سؤال طرح على أكثر من عشرين باحثاً من العالمين العربي والغربي، ومدار هذا السؤال كان حول سبل تحقيق عالم أفضل ينعم فيه المسلمون والغربيون على السواء بأسباب العيش الكريم والطمأنينة والسلم والأمان. وسيلاحظ قارئ الكتاب أن هذا السؤال، على ظاهر بساطته، أعمق بكثير مما يتصور أول الأمر. والدليل على عمقه اجتماع ثلة من الباحثين المرموقين حوله، واجتهادهم في الإجابة عليه. لم يأت الباحثون المشاركون في المنتدى من جنسيات وبلدان مختلفة فحسب، بل جاؤوا أيضا من تخصصات مختلفة؛ فجعل كل واحد منهم ينطلق من خريطة ذهنية معينة وخلفية علمية ليقترب من السؤال، حتى إذا أحس بنضج إجابته وتماسك مقولاته، ارتفع صوت باحث أو مفكر آخر، فنبهه إلى أبعاد أخرى لم يكن ليفكر فيها من منطلقه العلمي والثقافي والحضاري.
باختصار، تكمن قيمة هذا الكتاب في تعدد مشارب المساهمين فيه، بالدرجة الأولى. فَهُم فضلا عن اختلاف مرجعياتهم الحضارية والثقافية والدينية، وانتماءاتهم القومية، وولائهم السياسي، يتميزون كذلك بتنوع تخصصاتهم العلمية وتعدد مهامهم ووظائفهم، حيث وجد من بينهم الدبلوماسي، والسياسي، والباحث، والإعلامي، والمحلل السياسي، والأديب، ورجل القانون. وسيلاحظ قارئ الكتاب أن هذا التنوع في المقاربة، إذا لم يغن التفكير ويعمق النظر في سؤال العلاقة بين الإسلام والغرب، فلا أقل من أنه تنوع ينبه إلى خطر الاكتفاء بالنظر إلي الأشياء من زاوية نظر واحدة.
لا يخفى ما لسؤال العلاقة بين الإسلام والغرب من أهمية في هذه المرحلة من مراحل التاريخ، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) ۲۰۰۱، إذ ان هذه الأحداث ساهمت في تعميق هوة الخلاف بين الحضارتين، الإسلامية والغربية تحديدا، وفي إمداد نظريات الصراع الحضاري والصدام الثقافي عموما بوافر الشرعية وإضفاء صبغة العلمية عليها. وإذا كانت الجماهير، قبل هذه الأحداث، تتساءل عن مدى صحة القول بحتمية الصدام بين الحضارات، فإن هذه الجماهير نفسها، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، انتقلت بعد الأحداث إلى طرح سؤال آخر مضمونه: لماذا يكرهوننا؟
وفي هذا الانتقال ما يؤشر إلى أن نظرية الصراع أحكمت طوقها حول العقول؛ إذ لم تعد محط تشكيك أو مساءلة، بل صارت مرجعية معتمدة في إنتاج أسئلة جديدة. ومع هذه الأسئلة الجديدة المتفرعة عن سؤال الصدام والصراع، يبدو أننا مؤهلون للانخراط في ما سمّاه باحث آخر لعبة الهويات القاتلة. مع هذا المنطق وهذه اللعبة يخفى على الإنسان عيب نفسه كما تخفى عليه محاسن غيره، فيتمادى في ذم الآخر حتى يجرده من إنسانيته، كما لا يقتصد في مدح نفسه حتى ينزهها عن الخطأ والنقص الإنسانيين.
بطرح سؤال العلاقة بين الإسلام والغرب، فإن مركز الجزيرة للدراسات يصدر عن وعي في تراث الأمة بضرورة الخروج من مأزق الهويات القاتلة ومن منطق المانوية الجديدة. وإذا وجد هناك من يري في الاختلاف مدعاة للتطاحن والتنافر والتباعد والتعاند، فإن الندوة والمشاركين فيها كانوا على العكس من ذلك، فهم يرون فيه مدعاة للتعارف والتقارب والتداخل، عملا بمقتضى قوله تعالى في كتابه الكريم: (يا أيها الناس، إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات ۱۳). ليس في الإسلام، هذا الدين الذي ينتصب في عنوان المنتدى قبالة الغرب، ما يدعو للتصادم والتصارع. كما أن الغرب-وهنا نتحدث عن مصدر آخر من مصادر وعينا بضرورة نبذ روح الصدام المانوي-لا يخلو من عقلاء اشتغلوا علي امتداد تاريخ الحضارة الغربية على ردم الهوة الفاصلة بينهم وبين الإسلام.
فالإسلام ليس غريبا عن الغرب حتى ينصبه البعض منصب العدو لهذا الغرب، بل الإسلام جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والحضارية والتاريخية للغرب كما يرى كثير من الباحثين. لقد ساهم المسلمون في بناء الحضارة الغربية مساهمة جليلة. وما أحوجنا، والعالم يئن تحت وطأة القوى المؤمنة بالصراع، إلى نفض الغبار عن ذلك الميراث الفكري الغربي الذي تجسدت فيه معاني التعارف خير تجسيد. هل قدر الشرق أن يبقى شرقا، وقدر الغرب أن يبقى غربا، وقدرهما أن لا يلتقيا، كما قال الشاعر الإنكليزي رديارد كيبلنغ ؟ أم أن أسباب الوصل بينهما متوفرة لمن يحسن قراءة التاريخ والواقع؟ ينطلق الباحث جيل أنيغار من التاريخ ليثبت أثر الإرث الإسلامي في المنظومة القانونية القائمة في عالمنا اليوم. لقد كان أبو حنيفة، حسب رأي هذا الباحث، أول من قام بصياغة قانونية واضحة تحرم على المتحاربين قتل النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والعباد العزل؛ كما تحرم الاغتصاب وقتل الأسرى. وبذلك يكون قد فتح عهدا أخلاقيا جديدا، مختلفا عن العهد الحديث الذي خول للإيطاليين القيام بأول قصف جوي لا يميز بين صغير وكبير، محارب وغير محارب. وقد تصادف وأن كان هذا القصف الأول ضد مسلمي شمال إفريقيا.
ولعل جيل أنيغار يسعي من وراء هذه المقارنة إلي تجريم المنظومة الأخلاقية الغربية الحديثة على اعتبار أنها تقبل كل أنواع الإبادة طالما هي إبادة لا تلحق بالإنسان الأوروبي. ولما كان من أمر هذه المنظومة أنها عنيفة لا تحصد إلا الدمار والخراب، ولا تحسن إلا التفريق بين المستضعفين لتضمن استمرار سلطتها عليهم، وجب العمل على تفكيكها قصد بلوغ التعايش بين المسلمين واليهود، ضحايا هذه الهيمنة الغربية.
أما المفكر والفيلسوف ـ الشاعر كينت وايث فيرى أن شرط بلوغ الوئام بين الإسلام والغرب هو الخروج من منطق العولمة القائم على الربح المادي، ثم التوسل بمنظومة تربوية أخرى، غير المنظومة القائمة على النفعية. لنتجنب الصراع والصدام بين الإسلام والغرب، يتعين علينا إبراز ما تزخر به الحضارتان الإسلامية والغربية من إرث فكري عظيم، هذا الفكر الذي يملك من المقومات ما يكفي لتوسيع دلالة الذات ومدها بالقوة الكافية لاستيعاب الآخر . ولبلوغ مرتبة التفاهم والتعايش نحتاج إلى استدعاء لغة جديدة، غير اللغة التي استعملت في صياغة الجدليات والثنائيات العقيمة التي اشتغلنا بها حتى الآن، من قبيل جدلية الغرب والشرق، أو الإسلام والغرب.
نحتاج إلى ممارسة الجولان الفكري في أرجاء الثقافات الأخرى حتى نقف عند مكامن القوة في كل واحدة منها، فنفوت على أصحاب نظرية الصراع فرصة التمتع برؤية الإسلام والغرب متناحرين ومتنافرين. يصدر أندرياس ريغر عن تجربة أخرى ليقرأ العلاقة بين الإسلام والغرب. فـريغر، بوصفه مسلما ذا أصول غربية، يتساءل عن دور المسلمين في زمن العولمة، قاصدا الرد على أصحاب الدعوى القائلة بأن المسلمين هم المشكلة وليسوا الحل في فضاء العولمة. يخشي ريغر أن تفوت محاربة الإرهاب والإرهابيين على الغربيين فرصة الالتفات إلى الإسلام وجوهر عقيدته، والوقوف عند قدرة هذا الدين على المساهمة في الخروج من مآزق الرأسمالية العالمية المتوحشة، وتجنب آفات التكنولوجيا الحديثة. إن الأوروبيين، متى حصل لهم الوعي بأن الإسلام هو طريقة في العيش وأسلوب في الحياة (A way of life)، فقد يستفيدون من تجارب أهل هذا الدين في توسيع مفاهيمهم حول الاقتصاد والتنوير وغيرها.
ويرى ريغر أن الإرهاب لا يخدم في واقع الأمر سوى العولمة، ومن ثمة فحاجة المسلمين إلى نبذه أمس من حاجة الغربيين إلى ذلك. ويصدر عباس عروة عن تجربة عملية في حل النزاعات وإدارة الصراعات ليتحدث عن أسباب إنهاء أنواع العنف الذي يطبع العلاقة بين الغربيين والمسلمين. ينطلق من مسلمة مفادها أن الصراع في حد ذاته ليس سيئا إذا لم يفض إلى الاقتتال؛ كما أن السلم ليس جيدا إذا لم يكن سلما مبنيا على تفاهم. فبعض السلم ليس إلا ضربا من الهدنة على دخان ، أو الهدوء الذي يسبق العاصفة. فالسلم قد يكون إيجابيا كما قد يكون سلبيا في رأي عباس عروة. ولما كانت الأضرار الناجمة عن العنف قائمة، وجب العمل على التقليص من حدتها ولأم جروحها ومحو آثارها على الروح والجسد، وذلك بتكوين لجان حقيقة ومحاكمات يتم فيها الاعتذار والعفو واستعادة الذاكرة.
وهذه الأشياء مجتمعة تحتاج إلى تراكم معرفي وخبرة فنية تستدعي تضافر الجهود داخل مؤسسات متخصصة. فالسلم لن يكون سلما إيجابيا إلا إذا تمت معالجة مخلفات الصدام النفسية. يرى لويس كانتوري أن الديمقراطية، بقدر ما هي مطلب قائم لدى الشعوب المسلمة، قد تكون كذلك مدخلا لبسط النفوذ الأمريكي على هذه الشعوب. فالديمقراطية قد تستعمل كايديولوجية تبرر الغزو العسكري والنزوع نحو السيطرة والهيمنة. وفي هذه الحالات يكثر الجدال حول مفهوم الديمقراطية ويكتسي الحديث عنها طابعا نظريا، يبتعد عن ملامسة الواقع، كي يثبت تعارض الإسلام والديمقراطية وتنافرهما. والحاصل، في رأي كانتوري، أن الجمهورية الإسلامية تنبني على أصول مختلفة عن الأصول التي تقوم عليها الديمقراطية في الغرب. فعوض مفهوم الديمقراطية المبهم، يمكن التشبث بالعدل مقصدا يوجه الجمهورية الإسلامية خير توجيه. كما قد تنبني الديمقراطية، في النظام الجمهوري الإسلامي، على أسس أخرى تسمح بمراعاة قيم متجذرة في عمق المجتمعات الإسلامية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وبهذا يكون لويس كانتوري قد سعي إلى إثبات عدم تعارض الإسلام مع الديمقراطية من حيث أقر بحق المسلمين في أن يختلفوا عن الغربيين في تجسيدهم لمفهوم الديمقراطية المجرد، انطلاقا من تفاعل مع بيئتهم العقدية والتاريخية والجغرافية.
وأما مراد هوفمان، فقد سعى بدوره إلى تحديد معنى الحضارة الإسلامية، موضحا أنها حضارة يطبعها التنوع، ولا يجوز بوجه من الوجوه اختزالها في ظاهرة معينة أو مقولة محددة أو تصور مخصوص. ويهدف هوفمان، من وراء إثبات التعدد الذي يطبع الحضارة الإسلامية، إلى لفت انتباه القارئ إلى قصور نظرية الصراع الحضاري في تمثلها لواقع التعدد في الثقافة الإسلامية ثم سقوطها في التعميم الفج واشتغالها بذهنية الحدود المنطقية التي توسل بها الغربيون، منذ هيغل ومرورا بماكس فيبر، بغرض تحنيط ماهية المسلمين واختزالهم في وحدة واحدة. يشير هوفمان في هذا الصدد إلى أن أصحاب نظرية الصراع فاتهم التنبه إلى أن الصدام الثقافي قد يحدث داخل البلد الواحد، مثلما وقع أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، أو الغرب ذاته، مثلما وقع أثناء الحربين العالميتين بين الفرنسيين والألمان، أو البريطانيين والألمان؛ وفي الوقت نفسه، يثبت التاريخ أن إمكانات التلاقح الثقافي بين دول البحر الأبيض المتوسط وشعوبه كانت أكبر مما نظن. بعد مناقشته لنظرية الصراع الحضاري.
ينتهي هوفمان إلى التذكير بالأبعاد الإسلامية القادرة على المساهمة في إخراج العالمين اليوم، بمن فيهم الغربيون، من مضايق الأزمة الروحية المستفحلة. يعلن فابيو روجي منذ البداية عن موقفه الصريح المعارض للنزعة المركزية والعرقية المضمرة في العلوم السياسية كما هي قائمة؛ هذه العلوم التي تحاول أن تفرض كيفية التعامل مع النظم السياسية تعاملا مجردا عن المرجعيات المختلفة والسياقات التاريخية المتعددة، فتطوير المؤسسات السياسية ليس من شأن العلوم السياسية التي لا تفلح في شيء قدر فلاحها في ابتكار النموذج اللعين، بل هو من شأن الحكمة السياسية.
إن التأمل الفلسفي في واقع النظم السياسية يقودنا إلى التسليم بأن كل نظام سياسي إنما يعتمد التجريب، فيخطئ ويصيب، ويحدث أضرارا وخسارات إنسانية. ولعل فابيو روجي، بحديثه عن لعنة النموذج أو النموذج اللعين ، يحاول أن يرد أسباب الخلاف بين الغرب والإسلام إلى نزوع المدارس الغربية والعلوم السياسية نحو فرض نموذج على العالم الإسلامي، وبالتالي حرمانه من حقه في التجربة والإبداع. يرى كلاوديو ماريو بيتي أن اللقاء بين الحضارات والثقافات يتيح فرصة الاغتناء أكثر مما يحرض على الصراع. ولئن كان هناك صراع، فليس أصح من أنه صراع أعقد بكثير من أن يختزل في الصراع بين الإسلام والغرب. إن عدونا الأكبر يكمن في الخوف، ناصح السوء هذا الذي يستحثنا على الانغلاق على الذات والاستسلام إلى النزعة التبسيطية.
يرى بيتي أن الدين بمقدوره أن يكون عنصرا قويا يملك أن يحقق التفاهم والتحاور والسلم والتعايش. وفي هذا الصدد يذكر بدور المؤسسة التي ينتمي إليها في السعي وراء بلورة عقد أخلاقي، يقوم على مبادئ معينة، منها مبدأ تثمين ما يجمع بين الناس على حساب ما يفرق بينهم، ثم التخلي عن وهم الاعتقاد في قدرة قوة واحدة على إخراج العالم من الفوضى إلى النظام...ينطلق بشير نافع من قناعة مضمونها أن الصراع، إن وجد، فهو لا يتعلق بالاختلاف الحضاري قدر تعلقه بالتوتر السياسي وتضارب المصالح الإستراتيجية والاقتصادية. وعليه فإن دراسة العلاقة بين الإسلام والغرب تستدعي وعيا كبيرا بجملة من الأبعاد التاريخية الهامة. فليس من الممكن فهم هذه العلاقة دون استحضار دور الإسلام العظيم في التاريخ العالمي، واستفادة الحضارات بعضها من بعض، ودور الاستعمار في إرباك البنيات التجارية والصناعية القائمة في المجتمعات قبل دخول الاستعمار، ثم بزوغ الدولة المركزية وتسريع وتيرة التحديث للمجتمعات على أيدي النخب الحاكمة، وظهور المثقف الإسلامي الحديث.
يستعرض بشير نافع جملة المعطيات التاريخية التي يعتبرها من مسببات العقم المهيمن على المجتمعات العربية والمسلمة ويفترض في نهاية الأمر مزيدا من التوتر والقلاقل والصراعات الدموية وعدم الاستقرار، ما لم ترفع القوى الغربية يدها وتضع حدا لوصايتها المفروضة على هذه المجتمعات. لا يخفي غونتر مولاك، وهو السفير الألماني حاليا لدى باكستان والخبير بشؤون التعاون بين الغرب والدول الإسلامية، تشاؤمه بخصوص إمكانية التحاور بين الغرب والمجتمعات الإسلامية؛ وعلة هذا التشاؤم هو التباين الحاصل بين الغرب ما ـ بعد ـ الحداثي وما ـ بعد ـ الديني من جهة، والعالم الإسلامي ذي الهوية الدينية الراسخة. لكن مولاك، إذ يعترف بصعوبة الحوار، يؤمن بإمكانية التعاون، مدعيا أن استحالة الحصول على الوئام التام يجب ألا تكون عائقا في وجه التشارك في مشاريع محددة، عسى أن نوفق في إقرار الثقة وإعادة الأمل. في هذا السياق يحض الغربيين على التخلي عن سياسة الكيل بمكيالين بخصوص القضايا المصيرية للأمة الإسلامية، ويدعوها إلى استثمار المزيد في مجالات المجتمع المدني، ويذكر بالمناسبة بالدور الذي تقوم به ألمانيا في التقرب من العالم الإسلامي. وفي المقابل يتعين على العالم الإسلامي، حكومات وشعوبا، الخروج من أسر الماضي والنهوض بمسؤولية تنمية المجتمع، وخاصة فئة الشباب منه، عسى أن ترفع جاهزيتهم الثقافية فيقبلون بالآخرين كشركاء في التنمية، بعيدا عن المواقف المتشددة التي تطبع تصرفاتهم في غياب التعليم الكافي والتأطير الحزبي اللائق.
هكذا نستطيع أن نتفادى الصراع، وتفادى الصراع، من وجهة نظر مولاك، هو جزء من الحوار. تأتي مساهمة برونو غيدردوني لتنبه إلى حدود العلم؛ فالعلم ذاته يجلي هذه الحدود من الداخل. إن العقل ينتصر حين لا يضع الحقيقة محط إثبات، أو ما هو قابل للإثبات. فالعلم أعجز من أن يستطيع كشف الواقع أو مراقبته بإطلاق، بل إن العلم الحقيقي هو مسار مفتوح تكون فيه المعرفة محل اكتشاف مستمر. إن الغرض من وراء الوقوف عند هذه الحقائق هو حث العقل الإنساني على التواضع والتفكر بغرض تحقيق التوازن بين العقل والتأمل. إن غيدردوني يسعى من وراء مداخلته إلى إعادة الاعتبار إلى الحقيقة الدينية كشرط من شروط تحقيق التوازن بين الإسلام بوصفه دينا والغرب بوصفه المالك لناصية العلم الحديث والمتحدث باسمه.
يحاول أبو يعرب المرزوقي، من خلال ورقته، أن يضع إصبعه على مكمن الخلل في الحديث عن الحوار وإمكاناته بين العالم الإسلامي والغرب، منطلقا من الدعوى أن شروط الحوار لم تنضج بعد. فقد تكون الدعوة إلى الحوار ضربا من التشدق، وهي بذلك تخفى جوهر التناقضات التي تحول بين المسلمين وبين الدخول في حوار مع الغرب، حوار أنداد. إن النخب المثقفة في هذا العالم، أي العالم الإسلامي، تتحدث عن الحوار وتتجاهل افتقار مجتمعاتها إلى شروط التحاور الداخلي، هذا التحاور اللازم لتوحيد فئات المجتمع الواحد وتأهيلها للتحاور، لا مع الحضارة الغربية فحسب، بل مع الحضارات الأخرى كذلك. ويذكرنا أبو يعرب بجملة من الأبعاد الفلسفية الواجب إدراكها لتمثل طبيعة الصراع القائم، مستدعيا تصور ابن خلدون للحضارة والبداوة، وللثقافة والطبيعة، واضعا بذلك الوعي الفكري كشرط من شروط تبليغ الأمة الإسلامية مرتبة التحاور الندّي مع الآخرين.
أما منير شفيق فاختار أن يعري واقع العولمة ويفضح تناقضاتها قصد الوقوف عند زيف الادعاء القائل بأنها، أي العولمة، توفر فرصة التلاقح بين الشعوب والدول والأمم. على عكس هذا الادعاء، يرى منير شفيق أن منطق العولمة يقوم على الربح وأنه لن يفضي إلى شيء آخر عدا اندلاع حروب حامية بين الدول الكبرى. وكمؤشر على إفلاس العولمة ودليل على فساد منظومتها الأخلاقية يستشهد منير شفيق بلجوء شركات الأدوية الكبرى إلى احتكار الأدوية وحرمان دول العالم الفقير من إنتاج بدائل منها. فالعولمة نظريا ليست هي العولمة في واقع التطبيق. إن العولمة المطبقة هي أسوأ من كل ما قيل وما بشر به. تأسيسا على ما سبق ذكره، يخلص منير شفيق إلى القول بأن فضاء العولمة أضيق من أن يتسع لحوار حقيقي بين الإسلام والغرب.
يبحث برهان غليون عن سبل الخروج من مآزق الهويات المنغلقة على ذاتها نحو هويات جديدة. ويقترح في هذا السياق صياغة ميثاق أخلاقيات عالمية ينتقل معه العالم من وضع الانكفاء على الهويات الدينية والجماعية المخصوصة والمحلية إلى وضع الانفتاح على مفاهيم جديدة ترسخ معاني المواطنة العالمية. إن ترسيخ الأخلاقيات المدنية مرتبط، في رأي برهان غليون، بزوال الرؤية الدينية للعالم وإحلال الرؤية التاريخية والزمنية محلها. فما نحتاج إليه اليوم، في رأي غليون، هو ميثاق جديد يتجاوز ميثاق الأخلاقيات الوطنية والقومية الكلاسيكية القائمة على الأنانية الوطنية أو الدينية أو القبلية.
وإذا كانت الأخلاق الدينية نافعة في ربط المؤمنين التابعين لدين وضامنة لتعاقدهم واتفاقهم على سلوك محدد، فإن هذه الأخلاق تحتاج إلى توسيع حتى تصير قادرة علــــى إيجاد لغة مشتركة بين جماعات وأفراد وأديان وقوميات مختلفة. يدعو غليون الى ضرورة صياغة ميثاق أخلاقي عالمي قادر على ضمان التواصل بين الدول والشعوب على اختلاف منطلقاتها العقدية والجغرافية والسياسية...
أما حسن مكي فيعزو التوتر القائم بين الغرب والإسلام إلى عوامل سابقة للحرب على الإرهاب، أو التوتر الراهن بين أمريكا والعالم الإسلامي والعربي، فسبب التوتر يعود في رأي هذا الباحث إلى ما يشهده الغرب من محاولات لإعادة إنتاج المسيحية واليهودية بغرض التوسع. ولعل من أسباب التجاذب والتنافر مع النظرة الإسلامية هو ما قامت وتقوم به السياسات الغربية من ربط بين أمن إسرائيل والأمن الإستراتيجي الغربي.
وأما عبد الله النفيسي فيرى بأن الغرب يمارس عدوانا على الأمة الإسلامية، ودعواه أن هذا العدوان لا يقف عند تأمين السيطرة على موارد الطاقة والغنى في هذا العالم، بل يتعداه ليطلب السيطرة الكاملة والهيمنة الشاملة على أرواح المسلمين وتاريخهم. إن الغرب في نظر النفيسي يتدخل في إعادة صياغة التاريخ الإسلامي وإلغاء نظام القيم لدى المسلمين. ومع هذا الوضع يصبح لزاما على المسلمين العمل على تحقيق المبادرة الإسلامية في الفعل الدولي. إن تحريض الغربيين على الحركة الإسلامية ما هو، في رأي النفيسي، إلا جزء من إستراتيجية كاملة يسعي أصحابها إلى تجريد المسلمين من رمزيتهم الروحية. فالنفيسي لا يتواني في القول برسوخ البعد الديني في الحملات المتعددة، عسكرية أو فكرية، التي يقوم بها الغربيون ضد العالم الإسلامي.
وينطلق عبد الحميد يويو من دعوى مضمونها أن الغربيين يجهلون حقيقة الإسلام، كما أن المسلمين يجهلون حقيقة الغرب. ويستدعي أحداثا تاريخية بارزة وكتابات هامة تدل كلها على قصور الوعي لدي الغربيين والمسلمين على السواء في تمثل حقيقة الآخر. ومع هذا الجهل المتبادل، تكثر فرص التصارع والتصادم، عوض فرص التلاقح والتلاؤم. فأما العقبات التي تحول دون الغربيين وتمثل حقيقة العالم الإسلامي فيذكر منها عبد الحميد يويو ما هو قديم ضارب في عمق تاريخ الكنيسة المسيحية، وما هو حديث متجلٍّ في الفضاء الحضاري الغربي المعاصر. إن التمثل الغربي للشرق الإسلامي، وإن اختلفت مظاهره من بيئة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى أخرى، يكاد لا يخرج عن الحدود التي رسمها بعض رجال الدين المسيحيين وهم في معرض دفاعهم عن عقيدتهم في مواجهة الدين الإسلامي. يسعى يويو إلي تعيين هذا الثابت عبر مراحل التطور التاريخي المختلفة، من عصر الأنوار، إلى الحداثة، وكذلك عبر المؤسسات المختلفة، من مؤسسة الاستشراق إلى مؤسسات الإعلام القائمة. وأما العقبات التي تحول بين المسلمين والتمثل الصحيح لحقيقة الغرب فهي عقبات كثيرة منها الجهل التام بتاريخ هذا الغرب وبفنونه وآدابه. كما أن هناك، في رأي عبد الحميد يويو، عوائق من طبيعة نفسية أهمها ازدواجية موقف المسلمين إزاء إنجازاته العلمية والمادية وتذبذبهم بين الكراهية والحب لهذا العالم، ونكوصهم إلى الماضي للتحصن ضد منجزاته عوض التأهب لمواجهتها بالاقتباس والنقد، بالرفض والقبول.
وأخيرا يرى عبد الحميد أن شعار (الإسلام هو الحل)، على سلامته، تحول إلى شعار يبرر العجز عن التفاعل مع الحضارة الغربية. لقد تلت قراءة هذه الأوراق مناقشات مستفيضة ساهمت في تجلية معانيها وإثبات متانة أو تهافت ما تضمنته من دعاوى. وعلى الرغم من اختلاف الرؤى وتنوع وجهات النظر ـ حيث كان المستمع يشعر أحيانا بأن البعض يُشَرِّق في وقت كان البعض الآخر يُغَرِّب ـ إلا أن المشاركين أجمعوا على أهمية اللقاء الذي جمع بينهم، وخرجوا بجملة توصيات كان أهمها تلك التوصية التي تقول بضرورة العمل على ايجاد سبل لضمان استمرارية فكرة المنتدى ثم توسيع قاعدة الحوار لتستوعب آراء قد تكون أكثر تضاربا وتنافرا، فضلا عن فتحه على آفاق بحثية مستقبلية. يخطئ من يُؤمل أن يفضي مثل هذا اللقاء إلى توصية عملية تسعف الإنسانية، غربا وشرقا، في العثور على أسباب الوئام وفرص التعايش؛ ذلك أن عقبات التواصل بين العالمين أصعب من أن يذللها لقاء واحد أو لقاءان أو ثلاثة.
لكن المتتبع لأطوار المنتدى يدرك أن قيمة اللقاء تكمن في قدرته على تهيئة المناخ النفسي اللازم للتفاكر والتناظر، بعيدا عن أجواء التوتر التي تشهدها الشوارع في العالمين الإسلامي والغربي. ليس اللقاء فرصة يقتنصها هذا الطرف ليفحم ذاك، بل اللقاء لقاء نخب مسؤولة تجتهد لتعين مكامن الاختلاف والالتقاء بين العالمين، فتحدد سبل تجنيب البشرية مأساة التناحر. من هنا يمكننا الجزم بأن الكتاب توفق في بلوغ ما كان يرمي إليه انطلاقا، فهو كتاب يسهم في توسيع آفاق الإدراك لواقع العلاقة بين الإسلام والغرب، كما يُمَكِّن للغة التحاور والتواصل، ويفتح أمام العقل آفاقا إنسانية واسعة تستوعب الذات و الغير .