وفائنا للراحل الخرافي، بأن نلتزم العمل على وأد أي فتنة بين المسلمين
لقد انطفأ القلب الكبير ولم يقو على تحمّل العاطفة الجياشة إزاء الموت الكثير والظلم الكبير الذي يصيب فلسطين، وإزاء الفتنة وقد بلغت مرحلة توشك أن تعبّر عن الانكسار في علاقات الجوار العربية الإيرانية وتوشك أن تضع المسلمين على خطوط تماس مذهبية.
في القاهرة، وقبل أن ينكسر قلبه ويندلق عسل محبته للناس، أغمض ناصر الخرافي عينيه على النيل الذي لا زال على عهده وعاداته يحمل روحه على كف الماء ليُكتب تاريخ جديد.
في القاهرة أغمض ناصر الخرافي عينيه على مشهد شباب مصر وقد فتحوا الباب لإعادة الألوان إلى مدار الوقت، وأشعلوا الحنين الذي يسكن قلوبنا إلى أيام زمان، وفتحوا من ميدان التحرير المشهد على ثورة يوليو وتأميم القناة والسد العالي وحرب الاستنزاف وحرب رمضان.
في تلك اللحظة عبر ناصر الخرافي القناة ومشى خطواته الأخيرة إلى استراحته الأبدية. أعترف بأني استغرقت بضع ساعات لألملم نفسي إثر النبأ الصاعق الذي حمل إليّ وفاته بنوبة قلبية.
لقد انطفأ القلب الكبير ولم يقو على تحمّل العاطفة الجياشة إزاء الموت الكثير والظلم الكبير الذي يصيب فلسطين، وإزاء الفتنة وقد بلغت مرحلة توشك أن تعبّر عن الانكسار في علاقات الجوار العربية الإيرانية وتوشك أن تضع المسلمين على خطوط تماس مذهبية. أ صاب الوجع الحاد ناصر الخرافي وهو ينظر إلى المساحة العربية المتصدعة، وإلى حروب الاستتباع الصغيرة والكبيرة بين مختلف أنماط السلطات العربية وشعوبها. أعترف بأنها المرة الأولى التي أُصاب فيها بحزن استثنائي، وأنا الذي سبق لي أن أصابتني أحزان كثيرة على قادة وأبناء استشهدوا في الميدان وأهل وإخوة وأصدقاء فارقوا الحياة.
أقول، «حزن استثنائي» ليس بسبب الموت نفسه، فنحن إن أشرقت علينا الشمس لا نعرف إذا كنا سننتظر مغيبها، ونحن لا نعرف متى نقع على الموت أو متى يقع علينا، ونحن نعرف أن الله سبحانه يعطي ويسترد أمانته متى شاء.
أقول، «حزن استثنائي» لأن ناصر الخرافي كان صديقاً من الأعماق، وشخصية إنسانية مثلت ظاهرة مميزة في عالم رجال الأعمال العرب. صداقتي وناصر الخرافي أكدت لي يوماً بعد يوم حتى لحظة الموت والوداع الأخير، أن الصداقة لا تشيخ بل تتعمّق وتتجذر وتتعتّق كالعقيق المسحور الذي لا يقدّر بثمن.
كان عقله أغنى من ماله، ورصيده القومي والوطني أغلى من رصيده المصرفي، وقد كانت إنسانيته الغالبة هي الجانب الصامت في شخصيته، حيث إن أفعاله وعطاءاته كانت تأتي تلقائية وعفوية وبريئة فتضيء كبرق وتسطع كأفق.
أعرف أن ما كان يربط دولة الكويت أميراً ودولة وشعباً ولا زال مع لبنان أكثر من الهبات المالية، وأسماء القرى المعلقة كالنجوم من حانين إلى العرقوب إلى أعالي إقليم التفاح، التي أعيد بناؤها، وكذلك المشاريع الصحية والتربوية وشبكة الطرقات والماء والكهرباء.
وأعترف بأن ما أصبح يربط لبنان مع الكويت أكثر فأكثر، هو يد ناصر الخرافي البيضاء، التي أعادت إعمار مارون الراس التي كانت كرة النار الإسرائيلية قد دكتها خلال ما سُمي «عملية الليطاني» في ١٤ آذار ١٩٧٨ وخلال حرب تموز الإسرائيلية على لبنان صيف عام ٢٠٠٦.
لقد اختار ناصر الخرافي عن سابق إصرار وتصميم إعمار مارون الراس، لأنها تستحق أن تبقى مرفوعة الرأس بعد أن شهدت بطولات المقاومين وهم يتصدون لجحافل العدو وقوات النخبة في الجيش الإسرائيلي وجهاً لوجه، حاكورة حاكورة، بيتاً بيتاً وحارة حارة. وليس زنكة زنكة كما تعبث بعض الأنظمة بدماء شعوبها.
وأيضاً وأيضاً اختار ناصر الخرافي عن سابق إصرار وتصميم أن تنفذ «مجموعة الخرافي» مشروع الليطاني الذي موّلت مخططه وستموّل تنفيذه دولة الكويت، لأنه أراد أن يفسّر حلم كبير مهندسي العرب إبراهيم عبد العال بغسل أحلام لبنان بالماء، لعلها تخفف من أوجاع كربلائه الجنوبية.
ها أنا أودّع ناصر الخرافي «العم ناصر» كما كان يحلو له أن يسميه محبوه. ها أنا ذا أمسك بيد أخي جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة الكويتي، لعلني أرد عنه بعض الحزن فلا تبقى الأحزان عامرة في ديارنا ولا يستمر الحزن يعبّر عن سعادة شقائنا.
وها أنا ذا أناشد الذين يقفون في دائرة الضوء حيث تزدهر الشمس، أن نعبّر معاً عن وفائنا للراحل الكبير، بأن نلتزم العمل على وأد أي فتنة بين المسلمين، وأن لا نسمح بتحويل الانتباه عن إسرائيل العدو الرئيسي للأمة، وأن تبقى بوصلتنا مشدودة الانتباه إلى القدس بالذات وإلى المسجد الأقصى المبارك، حيث ترك ناصر الخرافي عينيه معلّقتين على حائط البراق بانتظار العائدين غداً.