صراع اليهودية والصهيونية.. هل تتفكك إسرائيل من الداخل؟
تنا
أعلن المؤرخ الإسرائيلي "زئيف هرتزوج" أن الأساطير التوراتية التي يتذرَّع بها الصهاينة لإثبات الحق التاريخي في أرض فلسطين إنما هي دعوى زائفة لا برهان تاريخي عليها، الأمر الذي وافقه المؤرخ والمحاضر بكلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن "شلومو ساند" مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي" الذي نص فيه على أن الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل حتى يعودوا إلى فلسطين .
شارک :
سامح عودة
في عام 1890، نشر الكاتب اليهودي النمساوي "ناثان بيرنباوم" مقالا في مجلة "الانعتاق الذاتي"، مُستخدِما لفظة جديدة على قُرَّائه في هذا الوقت، لكنها لم تكن لفظة اعتباطية، إذ لم تمضِ سبع سنوات فقط حتى تبلور هذا المصطلح في بازل بسويسرا عام 1897 على يد اليهودي النمساوي الآخر "تيودور هرتزل"، الذي استخدم لفظة "الصهيونية" التي صكَّها "ناثان" ليعقد المؤتمر الصهيوني الأول بعد عام واحد من صدور كتابه "الدولة اليهودية"؛ داعيا فيه إلى هجرة اليهود نحو فلسطين وإقامة أرض إسرائيل التي ستحل مشكلة الأقليات اليهودية في الشتات.
ما نعرفه اليوم جيدا أن هذه اللحظة كانت بداية المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي انتهى بدولة إسرائيل المُقامة على أنقاض فلسطين، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أيضا أن اللحظة نفسها هي التي دشَّنت حكاية الصراع اليهودي الداخلي بين اليهود المتدينين وبين الصهيونية، قبل النكبة، وقبل الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وقبل وعد بلفور، وقبل حتى أن يعرف "بلفور" أنه سيُقدِّم وعدا لليهود بشيء ما في أرضٍ ما. فوفقا للباحث في شؤون التاريخ بالجامعة الإسلامية في غزة "يونس عبد الحميد" فإن كثيرا من اليهود المتدينين رفضوا الفكر الصهيوني منذ بدايته، بل وحاربوه واعتبروه ضارًّا بمصالحهم في العالم، وأدرك زعماؤهم أن الصهيونية حركة علمانية، ليس فقط لعلمانية مؤسسيها، وإنما لمعارضتها الصريحة لاعتقادهم في مملكة إسرائيل التي سيُقيمها لهم "الماشيح" المنتظر.
فالطابع الديني الذي وسمت به الصهيونية حركتها لم ينطلِ على اليهود المتدينين، كما يقول الكاتب "محمد عمارة" -الباحث في الأديان والصراع العربي الإسرائيلي-، إذ يُخبرنا أن اشتقاق "الصهيونية" (Zionism) إنما جاء استغلالا لمشاعر اليهود وحنينهم لجبل "صهيون" (Zion) المقدس لديهم، وهو ما تصادم مع قاعدة يهودية راسخة عندهم -أيضا- وهي أن أرض إسرائيل منحة من الإله لهم على يد الماشيح المنتظر، وأن كل محاولة بشرية لإقامة دولة يهودية إنما هي كفر وشذوذ عن الطريقة التقليدية اليهودية المعروفة وخيانة لمعنى الوعد.
هذا الاعتراض كان حجر الزاوية الرئيس في كل النزاعات المعنوية والمادية بين اليهود المتدينين والحركة الصهيونية، قبل وأثناء وبعد إنشاء "كيانهم الصهيوني" على أرض فلسطين، فكل حركة/جماعة دينية يهودية، سواء تحوَّلت إلى حزب سياسي أم لا، قد استبطنت عقيدة الماشيح في رفضها للصهيونية، بينما -في الجهة المقابلة- رأت الحركة الصهيونية، على لسان "دايفيد بن غوريون" رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، أن فكرة عودة الماشيح هي فكرة "شديدة السلبية".
الرأي الذي أورده بن غوريون وجد صداه عند العديد من المفكرين اليهود المؤيدين للصهيونية، حيث رأى المفكر الصهيوني الروسي "بيرتيس سمولنسكين" أن الرؤية الصهيونية تتحدَّد بوصفها نوعا من الاستيطان لضمان الرزق والأمن ولا علاقة لها بالماشيح المُخلِّص، وهو ما وافقه فيه الصهيوني المجري "ماكس نوردو" الذي وصف الحركة بأنها حركة سياسية، وليست دينية صوفية، وأنها لا ترتبط بالرؤى الماشيحانية ولا تنتظر المعجزة، بل ترغب في إعداد طريق العودة بجهودها الخاصة[7]، وهو ما يتسق تماما مع مقولة "هرتزل" في مذكراته: "إنني لا أخضع في مشروعي لأي دافع ديني".
مَثَّلَت هذه الآراء المتضافرة تأكيدا لعلمانية الحركة لدى الأصوليين وكذب دعواها الدينية، التي استُخدِمت لتبرير أغراضها الاستعمارية -على حد وصف "المسيري"-، فاليهود الأرثوذكس يؤمنون بأن "الشعب اليهودي" ما هو إلا تعبير ديني، وأن الانتماء لهذا الشعب يتوقَّف على قدر الالتزام بالشريعة اليهودية، ومن ثم فإن كل دعوة تنظر إلى اليهود نظرة سياسية أو قومية هي شيء مخالف للدين وبعيد عنه[9]، ومن هنا تعالت صيحات الرفض لها في أرجاء هذا الشعب.
في طريقها إلى فلسطين، راكمت الحركة الصهيونية الكثير من الانتقادات والمواقف المُعارِضة من داخل الصف اليهودي نفسه، الأصولي منه قبل اليساري أو العلماني، ففي حين انطلق النقد العلماني من ضرورة اندماج الأقليات اليهودية مع مجتمعاتها، واعتبار الصهيونية ردة حضارية لا تعالج مشكلة الجيتوهات اليهودية وإنما تزيدها بخلق جيتو كبير باسم دولة، انطلق -على الجانب الآخر- النقد الديني من معضلة الماشيح السابق الإشارة إليها.
على المستوى الفردي، ظهرت الاحتجاجات اليهودية الأصولية على الكيان الصهيوني الوليد تباعا ومن مختلف البقاع التي يسكن بها اليهود، فكتب الحاخام "موشيه هيرش"، المولود بفلسطين وأحد زعماء حركة ناطوري كارتا المناهضة للصهيونية، في مقال له عام 1978 بالواشنطن بوست أن "الصهيونية على نقيض تام مع اليهودية… إنها تريد تعريف الشعب اليهودي بأنه وحدة قومية، وهذا هو الكفر نفسه… وهم حين يفعلون ذلك عليهم أن يتحمَّلوا كل العواقب".
تلك الرؤية التي رأت في الحركة الصهيونية كفرا وانحرافا عن موروث الآباء نجدها في تصريح حاخام آخر هو "إلمر برجر"، الرئيس الأسبق للمجلس الأميركي اليهودي، حين أعلن عام 1968 في جامعة "ليدن" الأميركية أن "أرض صهيون ليست مقدسة إلا إذا سيطرت عليها شريعة الرب"، وقال: "لا يمكن لأي إنسان أن يقبل الادعاء بأن إنشاء دولة إسرائيل الحالية كان تحقيقا للنبوءة".
بل إن الأمر تعدَّى منزلة الحاخامات وكُتَّاب الرأي، إذ أبدى السير "إيدون مونتاجو" -الوزير اليهودي بحكومة بريطانيا إبان صدور وعد بلفور- معارضته الشديدة للصهيونية ووصفها بأنها توجُّه شرير، وعقيدة سياسية مُضلِّلة لا يمكن لأي مواطن محب لوطنه الدفاع عنها، وأن عودة اليهود من المنفى -حسب اعتقاده- يجب أن تتم بإرادة إلهية وليس بإرادة الصهاينة، بل واقترح حرمان كل صهيوني حق التصويت داخل المملكة المتحدة، وأكَّد أن وعد بلفور يُسيء لليهود؛ إذ يحرمهم من حقوقهم بوصفهم مواطنين في البلدان التي ينتمون إليها.
السير "إيدون مونتاجو" الوزير اليهودي بحكومة بريطانيا إبان صدور وعد بلفورتشابه موقف "مونتاجو" مع موقف الفيزيائي الكبير "ألبرت أينشتاين" -يهودي الديانة- إذ قال إن "التوصُّل مع العرب إلى حياة مشتركة مسالمة أرشد في رأيي من إنشاء دولة يهودية… إن ما لديّ من وعي بطبيعة اليهودية وجوهرها يصطدم بفكرة إنشاء دولة يهودية مُخصَّصة"، وهو الموقف الديني نفسه الذي تنازعت اليهودية مع الصهيونية على أساسه.
في سياق متصل، يذكر الباحث "جدع جلادي"، وهو مفكر يهودي عربي، أن هذا الرفض اليهودي للصهيونية كان على النسق نفسه في كثير من المؤسسات اليهودية العربية وعلى لسان الكثير من مشاهيرهم، ويُرجع ذلك إلى عدة أسباب -بخلاف النقد العقدي وعقيدة الماشيح- منها تمتُّع اليهود بجو من التسامح الديني بوصفهم أهل ذمة في رحاب العالم الإسلامي، فلم يعانوا الاضطهاد والعنصرية مثل يهود أوروبا، بل كانوا يشعرون أنهم مواطنون من الدرجة الأولى في أوطانهم العربية.
ومن مظاهر هذا الرفض أن تأسست الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية بمصر عام 1946، مُعلنةً عن مبادئها التي تلخَّصت في مبدأين محوريين هما؛ الكفاح ضد الصهيونية التي تتعارض مع مصالح كلٍّ من اليهود والعرب، وتعزيز الربط الوثيق بين يهود مصر والشعب المصري في الكفاح ضد الاستعمار.
قبل عام على ذلك، حدث الأمر نفسه في العراق أيضا، حيث تشكَّلت عصبة مكافحة الصهيونية برئاسة "هارون زلخة"، ونظمت العديد من الأنشطة المناهضة للحركة الصهيونية، من مؤتمرات وفعاليات جماهيرية، كما أصدرت جريدة "العصبة" من أجل الهدف ذاته، ونشرت بها العديد من المقالات التي اعتبرت الصهيونية عميلا للاستعمار، حيث تُقوِّض هذه الحركة النضال الشعبي المشترك -بين العرب واليهود- ضد الاستعمار، كما اعتبرت العصبة أن الصهيونية تعدٍّ صريح على حق الفلسطينيين، وأن حل مشكلة الأقليات اليهودية يكون من خلال الدفاع عن واجباتهم داخل أوطانهم وليس من خلال تهجيرهم إلى فلسطين.
عصبة مكافحة الصهيونية
بدوره، أعلن المؤرخ الإسرائيلي "زئيف هرتزوج" أن الأساطير التوراتية التي يتذرَّع بها الصهاينة لإثبات الحق التاريخي في أرض فلسطين إنما هي دعوى زائفة لا برهان تاريخي عليها، الأمر الذي وافقه المؤرخ والمحاضر بكلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن "شلومو ساند" مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي" الذي نص فيه على أن الطرد الروماني لليهود لم يحدث من الأصل حتى يعودوا إلى فلسطين، وهو ما تؤكده -بالفعل- حيرة الحركة الصهيونية في بدايتها حول الوطن المنشود للهجرة، فكانت الأرجنتين وموزمبيق والكونغو وقبرص وجنوب أفريقيا -بجانب فلسطين- كلها اقتراحات، مطروحة للمفاضلة .
في سياق مُشابه، كان الصراع اليهودي الصهيوني يتخذ شكلا أكثر حِدَّة واحتكاكا مما سبق، وهو صراع يستمر بوتيرة مؤرِّقة للحكومة حتى الآن بين الجماعات الدينية والحكومة الإسرائيلية حول الدولة ومؤسساتها وما إلى ذلك. ولفهم هذا الصراع فإننا بحاجة إلى تتبُّع تاريخي سريع للفصائل الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي، التي تتفرَّع من اتجاهين رئيسيين هما: الاتجاه الإصلاحي، والاتجاه الأرثوذكسي/الحريدي.
بالنظر إلى الحركة الإصلاحية، فإنها قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر بألمانيا، وتحديدا عام 1840، وطالبت باندماج الأقليات اليهودية كليا في ألمانيا وتنقية اليهودية من الشوائب التي علقت بهم، بما في ذلك تغيير لغة العبادة من العبرية إلى لغة البلد التي تؤدَّى بها الصلاة، وحذف كلمتَيْ "صهيون" و"القدس" من كل الصلوات، والتساهل في قدسية يوم السبت والأكل الحلال، إلخ.
كما كانت الحركة الإصلاحية تُعبِّر عن شكل جديد من أشكال الحلولية، وهي حلولية شعوب الإله؛ حيث رأوا أن الإله قد حلَّ في روح التقدُّم والعصر -لا الأمة ولا الأرض اليهوديتين-، وكان هذا منشأ خلافهم مع الصهيونية، لأن الإصلاحيين لم يروا في اليهود شعبا وإنما أقليات دينية، بينما اعتبرت الصهيونية أن موضع الحلول هو الشعب اليهودي والأرض.
يذكر الباحث "يونس عبد الحميد" أن حركة الإصلاحيين قد شكَّلت أكبر عقبة منظمة في طرق الصهيونية، كونها أوسع الفئات اليهودية نفوذا في الولايات المتحدة الأميركية والغرب، فعقدت العديد من المؤتمرات الداعية لمُعاداة الصهيونية، كمؤتمر الحاخامات بـ "فرانكفورت" عام 1869، الذي أظهر فيه الإصلاحيون رفضهم الصلاة من أجل العودة إلى أرض الآباء -كما زعمت الصهيونية-، وأعلنوا أن آمالهم لا تزال مربوطة بوطنهم ألمانيا، وأن الرغبة في إقامة دولة يهودية بفلسطين منعدمة تماما، الأمر الذي تكرَّر -تقريبا- في العام نفسه ولكن في "فيلادليفيا" بالولايات المتحدة.
في الجناح الآخر، لم يختلف الحال كثيرا لدى الأرثوذكس اليهود، بل إنه كان أكثر حِدَّة وعنفا، فالأرثوذكسية هي أقرب التعبيرات عن الأصولية، التي نشأت بوصفها رد فعل للحركة الإصلاحية، لكنها -للمفارقة- وافقتها في الدفاع عن "الشتات" اليهودي حيث هو، والعداء التام لأي وسيلة تُعجِّل بإنشاء مملكة اليهود المزعومة، واعتبرت الحركة أن أي دعوة تنظر إلى اليهود نظرة سياسية أو قومية هي شيء مخالف للدين وبعيد عنه، بل اعتبرت الصهيونية -من الأصل- تعبد الإله الخاطئ.
ولأن الحركة الأرثوذكسية، المُسمَّاة بعد ذلك بالحريديم -أي الأتقياء-، كانت أشد عداء للصهيونية من غيرها، فقد أجبر مجلس الحاخامات الألماني -حاخامات الاحتجاج- "هرتزل" في عام 1897 على تغيير مكان المؤتمر الصهيوني الأول من "ميونخ" إلى "بازل"، وأصدروا بيانا مناهضا عقب المؤتمر أعربوا فيه عن اختلاف مساعي الصهاينة مع مبادئ جماعتهم الأصولية، وانتهجوا من هذه اللحظة خط المعارضة الأشرس للصهيونية من داخل الصف اليهودي.
في أكتوبر/تشرين الأول عام 1911، عُقِد في "فرانكفورت" بألمانيا اجتماع شارك فيه عدد من يهود ألمانيا والمجر ولتوانيا وبولندا؛ لمناقشة قضية لغة العبادة والموقف من الحضارة الغربية وما إلى ذلك، حتى اتُّفِق على الأُسس الأولى لقيام حزب "أغودات يسرائيل" -رابطة إسرائيل- بوصفه منظمة عالمية، وهو الحزب الذي ناصب الصهيونية العداء منذ تأسيسه ببولندا عام 1912، فسعى إلى توحيد المجموعات الأرثوذكسية الشرقية والغربية بهدف تشكيل خيار بديل للمنظمات اليهودية في مواجهة الحركة الصهيونية.
حزب "أغودات يسرائيل" رابطة إسرائيل
وحسب "يونس عبد الحميد"، فقد ارتكز الحزب على الأفكار الأرثوذكسية وانطلق منها في وضع برامجه السياسية، واهتم بتشجيع التعليم التوراتي، حتى بدأ نشاطه على أرض فلسطين بالقدس عام 1919 على يد طائفة أرثوذكسية، واعتبر أن معارضة الصهيونية أحد أهم مبادئه الأساسية، فبدأ هذه المعارضة بحملات إعلامية واسعة ضد الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، وعارضها في شهادتها أمام عصبة الأمم، ورفض الانضمام إلى الجماعات الصهيونية وحافظ على انعزاليّته عنها، وقدَّم نفسه مُتحدِّثا باسم اليهود المعارضين للصهيونية في محاولة لإنشاء تنظيم يهودي غير سياسي ليحل محل الحركة الصهيونية، حتى اغتيل "يعقوب ديهان"، المتحدث السياسي للحزب عام 1924، على يد العصابات الصهيونية آنذاك.
ويُضيف "عبد الحميد" أنه مع الإعلان عن قيام إسرائيل عام 1948، بدأت حِدَّة سياسات الحزب في الخفوت تدريجيا، فتوافق مع بعض المواقف الصهيونية من الاستيطان والهجرة وإقامة الدولة، شريطة الالتزام بالشريعة اليهودية، مما جعل الحزب في النهاية أضعف من اعتباره عائقا حقيقيا أمام الصهيونية، الأمر الذي رفضه بعض أبناء الحزب وقرَّروا الانشقاق عنه ليمارسوا مناهضة الصهيونية بشكل مستقل. وتُعَدُّ هذه الانشقاقات هي السمة الأبرز للتيار الأرثوذكسي بوجه عام؛ حيث ضم بداخله العديد من الأجنحة المتصارعة متباينة القوى، لكن رغم اختلاف وتعدُّد الأحزاب والجماعات الدينية المناهضة للصهيونية، لم يظهر حتى الآن ما هو أشد عداء للصهيونية وعنفا من جماعتَيْ حريديم "ساطمر" و"ناطوري كارتا" على وجه التحديد.
بخلاف الكثير من الحركات والأحزاب التي هدأت وتيرة صراعها مع الحكومة الإسرائيلية بمرور الزمن، بقي اليهود الحريديم في جماعتَيْ "ساطمر" و"ناطوري كارتا" من أعنف اليهود المتدينين وأشدهم عداء للحركة الصهيونية وحكومتها حتى الآن، الأمر الذي يؤكده الباحث "محمد عمارة" في كتابه "الحركات الدينية الرافضة للصهيونية داخل إسرائيل"، إذ يقول: "من المعروف أن الحركة الصهيونية لم ترَ منذ بدايتها عداء من زعيم ديني يهودي مثلما رأت من الحاخام "يوئيل تتلباوم" الزعيم الروحي لحركة "ساطمر"، الذي اتهم الصهيونية بالهرطقة وأنها مروق عن الدين".
ذهب الحاخام لأبعد من ذلك -كما يذكر "عمارة"- حين اعتبر الهولوكوست عقابا من الله للشعب اليهودي الذي خالف وصاياه على يد الحركة الصهيونية، بل إنه اتهم الصهيونية صراحة بأنها مَن دبرت الهولوكوست بالاشتراك مع النازيين لإجبار يهود أوروبا الباقين على الهجرة نحو فلسطين.
سيطرت الحركة على واحدة من أكبر المنظمات اليهودية العالمية وهي "اتحاد حاخامي الولايات المتحدة" التي أصدرت بيانا حادًّا عام 1982 تهاجم فيه الصهيونية ودولة إسرائيل، والأحزاب الدينية المنضمة إلى الحكومة -كحزب المفدال- بحجة أن هذا الانضمام يقلب موازين القوى حين ينضم الملتزمون بالتوراة إلى الأشرار ويساعدونهم في إنشاء حكمهم، وقالوا بالنص إن هؤلاء المنضمين "مسؤولون مسؤولية مباشرة عن الأعمال التي يقوم بها هذا الحكم الكافر… لقد اختاروا الانضمام إلى حكومة تتسابق مع الدول بغطرسة مخيفة… إن روحا من الإلحاد تسكن داخل كل مَن يعتقد بأن اليهود يتمكَّنون من كسر طوق الشتات وإنشاء دولة مستقلة قبل ظهور المُخَلِّص".
على المنوال نفسه تأتي حركة "ناطوري كارتا" -أو حراس المدينة- التي يعود ظهورها الفعلي لعام 1935 عندما انشقت عن حزب "أغودات يسرائيل" بعدما بدأ ينصهر مع الصهيونية شيئا فشيئا، ويبلغ عدد أتباعها الآن قرابة نصف مليون نسمة في مختلف أنحاء العالم، وعشرات الآلاف داخل الأراضي المحتلة متمركزين في حي "مئة شعاريم" بالقدس ومدينة "بني براك" حديثة التأسيس، التي أضحت أحد أهم معاقل الجماعات الدينية في البلاد.
أما عن عقيدة الحركة فهي -كما يذكر "عمارة"- تتخذ موقفا عدوانيا رافضا تجاه الصهيونية للأسباب الدينية المذكورة وتعتبرها حركة كفرية، كما أن أتباعها يقاطعون توقيت الدولة وإعلامها كله -عدا البرامج الدينية في الإذاعة- ويعتمدون توقيتا خاصا يبدأ فيه اليوم في منتصف النهار، ويمتلكون صحيفة خاصة لا تكف عن مهاجمة الصهيونية، هي صحيفة "السور"، التي يعني اسمها السور العازل بين اليهودية والصهيونية، كذا يقاطعون العملة الإسرائيلية ويصكّون عملة داخلية خاصة بينهم.
كما يظهر في المواد الإعلامية عنهم، يلتزم أعضاء "ناطوري كارتا" بالأزياء اليهودية التقليدية ومقاطعة التكنولوجيا بشكل كبير، وتتسم نساؤهم بالاحتشام في الملبس، ويقدسون السبت بصورة حادة، حتى إنهم يُجبِرون أصحاب المحلات خارج جماعتهم على الإغلاق ويمنعون كل سبل العمل والحياة في الطرقات ما استطاعوا.
وللجماعة موقف حاد من الخدمة العسكرية، حتى إن الحاخام "هيرتش" يقول في هذا الصدد: "لماذا يفكرون في تجنيدنا وهم لا يُجنِّدون العرب؟ نحن أكثر كراهية لهم من العرب، وإذا أعطونا سلاحا فسنطلق النار عليهم". كما أنها الحركة الأكثر دفاعا عن حق الفلسطينيين في أرضهم، ففي حديث أجراه الحاخام "ديفيد فلدنان" مع جريدة الوطن القطرية عام 2005، قال: "إن الشعب الفلسطيني له الحق باستعادة أرضه كيفما شاء، ونحن واثقون بأن اليهود الذين يقطنون إسرائيل سيتركونها إذا عرفوا أن العرب لن يعمدوا إلى قتلهم، بعكس ما تشيع الصهيونية منذ عام 1948".
وفي هذا السياق قال الحاخام "ديفيد وايس": "منذ قيام دولة إسرائيل ونحن نقوم بمظاهرات ضد الدولة ويضربوننا أثناء المظاهرات بلا رحمة". وفي فبراير/شباط عام 2015، وجَّهت الحركة رسالة إلى الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" بعد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" يهود أوروبا إلى الهجرة الجماعية، قالت فيها: "إن رئيس الوزراء الإسرائيلي تصرَّف مرة أخرى وكأنه حامي يهود العالم ومُمثلهم، الصهاينة يعتبرون أنفسهم منقذي اليهود، لكنهم في الحقيقة يُشكِّلون خطرا كبيرا عليهم، وهم السبب في زيادة العداء لليهود في العالم، ومشروعهم الصهيوني هو سبب كراهية اليهود".
الحاخام "ديفيد وايس"
لذا تعمل الحركة دوما على تحذير اليهود من الهجرة إلى فلسطين، وهو ما نجده جليا على لسان الحاخام "ديفيد وايس" المتحدث باسم الحركة، إذ يقول: "الحاخامات الكبار في حركتنا دعوا إلى أنه لا يجب العيش في ظل الصهيونية، هناك عشرات الآلاف الذين تركوا فلسطين حتى لا يعيشوا في ظل الصهيونية… لكن توجد مدرسة فكرية أخرى في الجالية اليهودية لا تريد أن تترك إسرائيل على أساس أنها تريد أن تحارب إسرائيل والصهيونية من الداخل".
وتعقيبا على ذلك، يقول "عمارة" إننا لا يجب أن نلجأ إلى المُسلَّمة البسيطة التي تقول: ما دام هناك يهود يرفضون الصهيونية في فلسطين فليتركوها ويرحلوا، لأن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؛ فهناك فريق منهم يرى أنه يتحتم محاربة الصهيونية من الداخل، وهم يعتزلون الدولة تماما، وهناك مَن يراها أرضا مقدسة للعبادة بصرف النظر عن إسرائيل، كما أنه كانت هناك أقلية يهودية فلسطينية، وتلك الأقلية تعتبر نفسها فلسطينية لدرجة أن حركة "ناطوري كارتا" قاطعت الرئيس الراحل "ياسر عرفات" ومنظمة التحرير الفلسطينية -لبعض الوقت- بعد اعترافهم بإسرائيل عمليا مقابل سيطرة المنظمة على الضفة وقطاع غزة، إلى جانب دعم الحركة لأهالي المعتقلين والمصابين الفلسطينيين ماديا وتعاطفهم معهم؛ إذ يذكر "ديفيد لانداو" في كتابه "الأصولية اليهودية" إحدى رسائل الحركة التي ورد بها: "نحن اليهود الفلسطينيون المناهضون للصهيونية نُعبِّر عن تعاطفنا معكم ومودتنا لكم، نحن إخوانكم الفلسطينيون".
مع هذا، يؤكد "عمارة" أن الرفض اليهودي للصهيونية يتفاوت بين الجماعات والأحزاب، ولا يجب تفسير كل المواقف الرافضة على أنها تعاطف مع الحقوق العربية المسلوبة، فبعض الحركات الرافضة للصهيونية -كحركتَيْ "ساطمر" و"حبد"- تتبنَّى رؤى عنصرية للآخر بصفة عامة، وللعرب بصفة خاصة، وترى أنه لا وجود للدولة اليهودية المقدسة إلا بعد طرد العرب من أرضهم.
حركة "حبد"
أيضا يُشير إلى أن الإغراءات المادية التي يُقدِّمها الكيان الصهيوني تلعب دورا كبيرا في تبديل بعض الحركات الدينية لمواقفها، حيث تتجه نحو الذوبان في الدولة، وأن الأساس العِرقي الذي قامت عليه هذه الحركات هو ما جعل من العسير جدا توحيدها، فكانت عملية استمالتها -تباعا- أسهل بكثير.
في النهاية، لا تنفك العلاقة بين اليهودية والصهيونية، وما يتمخض عنها من إشكاليات، أن تعلن عن نفسها مرة بعد مرة، فالصهيونية لا تكف عن توظيف الدين سياسيا، والمتدينون لا يكفّون عن إعلان رفضهم للصهيونية وفضح زيفها[36]، لذا يبقى السؤال: هل تحمل إسرائيل عوامل فنائها بداخلها؟ أم أن هذا الصراع يمكن احتواؤه وصهينة طرفه الأخير المُتمثِّل في الحريديم الأصوليين؟