إن الانسحاب الأمريكي من سوريا والعراق، في ظل عملية طوفان الأقصى، هو فصل آخر من تورط الولايات المتحدة المعقد في الشرق الأوسط.
شارک :
إن عملية طوفان الأقصى، رغم أنها تركز في المقام الأول على إسرائيل، إلا أنّ لها آثار أوسع على الديناميكيات الإقليمية، بما في ذلك الدور المستقبلي وخريطة التحالفات المحلية للولايات المتحدة في العراق وسوريا ومنطقة الشرق الأوسط.
بشكل عام، أدت الشبكة المعقدة من الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى تسليط الضوء مرة أخرى على تعقيدات السياسة الخارجية الأميركية، وخاصة في ضوء التطورات الأخيرة المحيطة بعملية طوفان الأقصى. وتثير هذه العملية، المتشابكة بعمق مع الوجود الأمريكي في سوريا والعراق، تساؤلات حاسمة حول استراتيجية الولايات المتحدة طويلة المدى في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بعلاقتها مع الحلفاء الأكراد في سوريا والعراق.
لا بد من التذكير بأنّ التأثير المشترك لهجمات محور المقاومة والمقاومة الإسلامية في كل من العراق وسوريا وإيران ولبنان واليمن وفلسطين أدى إلى مراجعات جدية داخل الولايات المتحدة حول وجودها العسكري وسياساتها في هذه المناطق. إن الطبيعة المستمرة والمنسقة لهذه الهجمات، إلى جانب آثارها السياسية والعسكرية، شكلت تحدياً لاستراتيجيات الولايات المتحدة وأثارت تساؤلات حول استدامة وجودها على المدى الطويل في الشرق الأوسط. وقد استخدم محور المقاومة استراتيجيات معقدة للوصول إلى هذا الهدف فهو كثيراً ما لجأ إلى توجيه ضربات عسكرية ضد المواقع الأمريكية في قاعدة عين الأسد أو قاعدة التنف أو حقل العمر للنفط وغيرها من المواقع التي تتجمع فيها القوات الأمريكية. وعادةً ما يتم تصميم هذه الضربات لتكون عالية التأثير وغالبًا ما يتم تنفيذها بدقة. والهدف هو خلق تكلفة كبيرة للوجود الأمريكي في هذه المناطق، سواء من حيث الخسائر المادية أو المخاطر التي يتعرض لها الأفراد.
وإلى جانب الضربات العسكرية، مارس محور المقاومة حرباً نفسية ضد الولايات المتحدة حيث تهدف هذه الحرب النفسية إلى تآكل معنويات القوات الأمريكية والتأثير على الرأي العام في كل من الشرق الأوسط والولايات المتحدة.
بالإضافة إلى جميع ما تقدم فإن عشرات السنوات من مقاومة الاحتلال خلق لمحور المقاومة قاعدة شعبية محلية داعمة ضد قوات الاحتلال الأمريكي، هذا الأمر بالتحديد ساهم في تكبيد هذه القوات خسائر فادحة وأكسب محور المقاومة الشرعية اللازمة لمقاومة القوات الأمريكية التي دمرت البنى التحتية لهذه المناطق ونهبت خيراتها.
وفي قلب هذه التطورات أشارت تقارير وسائل إعلام أميركية تشير إلى تحول استراتيجي من جانب وزارة الدفاع الأميركية. ويُقال إن البنتاغون قدم خطة إلى قوات سوريا الديمقراطية، يقترح شراكة مع الحكومة السورية لمحاربة داعش. هذه الخطة ليست مجرد مناورة تكتيكية، ولكنها تشير إلى إعادة تقييم أوسع لسياسة الولايات المتحدة في سوريا. وبحسب “المونيتور”، فإن هذه التغييرات هي جزء من مراجعة أوسع للسياسة تجري حاليًا داخل وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع. علاوة على ذلك، تم إرسال هذه المداولات إلى تركيا، الحليف الرئيسي لحلف شمال الأطلسي والدولة التي لها مصالح خاصة في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية.
إن الشراكة المقترحة بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية، إذا تحققت، يمكن أن تمثل محوراً مهماً في ديناميكيات القوة الإقليمية. لسنوات، كانت قوات سوريا الديمقراطية حليفًا حاسمًا للولايات المتحدة، حيث لم توفر القوة البشرية فحسب، بل قدمت أيضًا رؤيتها الخاصة بالمشهد الاجتماعي والسياسي المعقد في المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الخطة الجديدة، إذا تم تنفيذها، يمكن أن تعيد تنظيم ولاءات واستراتيجيات قوات سوريا الديمقراطية، وتقربها من الحكومة السورية، وهو سيناريو لم يكن من الممكن تصوره في السابق نظراً لموقف الحكومة السورية التاريخي تجاه الحكم الذاتي والطموحات الانفصالية من جهة وتعويل قسد على التواجد الدائم للولايات المتحدة في سوريا.
ومما يزيد من تعقيد هذا التحول المحتمل في التحالفات هو الصمت الكردي إزاء التصرفات الإسرائيلية في غزة، والذي يفسره البعض على أنه موقف براغماتي، وإن كان مثيراً للجدل، في منطقة حيث الولاءات والعداوات غالباً ما تكون معقدة ومتعددة الطبقات. ويمكن اعتبار هذا الصمت خياراً استراتيجياً خاطئاً من جانب القيادة الكردية، يهدف إلى الإبحار في المياه الغادرة لسياسة الشرق الأوسط، حيث يمكن أن يكون للدعم أو الإدانة عواقب بعيدة المدى. ويجب القول بأنّ هذا الصمت يأتي في سياق تاريخي مخالف للحقائق حيث على سبيل المثال فإنّ الموساد هو من ساعد تركيا في القبض على “أوجلان” الزعيم الكردي المعروف.
علاوة على ذلك، فإن الوضع الحالي يعيد ذكريات الاستفتاء الفاشل على استقلال كردستان العراق. وهذا الحدث، الذي شابه خدعة أميركية وإسرائيلية، يعد بمثابة تذكير مؤثر بعدم استقرار التطلعات الكردية في المنطقة وعدم صوابية تحالفاتها العابرة للحدود، حيث أدى الاستفتاء، في نهاية المطاف إلى رد فعل عنيف من بغداد والدول المجاورة، مما ترك الحلم الكردي بإقامة دولة في طي النسيان. هذا السياق التاريخي ضروري لفهم الديناميكيات الحالية وضرورة تعلم الدروس التاريخية من الغدر الأمريكي والإسرائيلي.
إن الانسحاب الأمريكي من سوريا والعراق، في ظل عملية طوفان الأقصى، هو فصل آخر من تورط الولايات المتحدة المعقد في الشرق الأوسط. وهو يعكس نمطاً تؤدي فيه المصالح الاستراتيجية في كثير من الأحيان إلى تحولات في التحالفات والدعم، مما يترك في بعض الأحيان الحلفاء القدامى مثل الأكراد في موقف ضعيف. ويبدو أن الولايات المتحدة، المعروفة بنهجها المتذبذب في السياسة الخارجية، تعيد ضبط موقفها في المنطقة، ربما على حساب القوات الكردية التي طالما كانت حليفة لها.
في الختام، إنّ تأثير عملية طوفان الأقصى على الانسحاب الأمريكي من سوريا والعراق، والتخلي المحتمل عن الحلفاء الأكراد، هو سرد معقد ومتطور. فهو يسلط الضوء على عدم القدرة على التنبؤ بالعلاقات الدولية والحقائق القاسية في كثير من الأحيان للاستراتيجيات الجيوسياسية. وكما أظهر التاريخ، في لعبة السياسة الدولية المعقدة والقاسية غالبا، تكون التحالفات مائعة، ويصبح السعي إلى الاستقرار والاستقلال محفوفا بالتحديات والفشل.
________________________________________________
* كاتب فلسطيني / باحث السياسة العامة والفلسفة السياسية