نحن في الاسبوع الأخير من شهر محرم الحرام 1446 هـ.. الشهر الذي شهد في العاشر منه سنة 61هـ واقعة كربلاء. وقد وقفنا عند اثنين من أبطال الواقعة هو الحسين بن علي واخته زينب بنت علي عليهم السلام، ونقف هنا عند رمز كبير آخر من رموز هذه الواقعة هو العباس بن علي عليه السلام.
شارک :
تميّز العباس بأنه فتى كربلاء ورأس فتوة السقائين في التاريخ الإسلامي.
الفتوة في التاريخ الإسلامي من مظاهر حياة هذه الأمة، ومن معطيات ثقافتنا التي تحفّز دائمًا على الاستنهاض والحركة على طريق الكمال الإنساني.
الفتوة خصلة فطرية في الإنسان تحفّزه على الخروج من ذاتيته وأنانيته ليسخّر نفسه في سبيل مثله الأعلى عن طريق خدمة الناس، وليقدّم التضحيات من أجل ما يحبّ ويعشق. والإنسان الراسف في أغلال ذاتيته ومتطلبات بهيميته ميّت، لأنه ليس بعاشق، وليس بحيّ، وحافظ الشيرازي يفتي بإقامة صلاة الميت عليه!!
هركه در اين حلقه زنده نيست بعشق
بـــــــر او بفتـــــــــــــــواى مـــــن نمـــــاز كنيد
أي : كل من ليس في جمعنا حيًا بالعشق
أقيمــــوا عليه – بفتواي – صلاة الميــــــــــت
وهذه الفتوى ليست طبعًا فتوى فقهية، بل هي فتوى حضارية ترى الإنسان حيًا بالعشق، أي بالحركة نحو المثل الأعلى المعشوق، ومن يفتقد هذه الحركة التكاملية فهو ميّت.
من هذا المنطلق الإحيائي نشأت سلسلة الفتوات في العالم الإسلامي، وأُلّفت حولها الكتب والرسائل والدراسات قديمًا وحديثًا، وجمع المستشرق براون عدة رسائل بالفارسية حول الفتوة تحمل اسم «فتوّت نامه» أي كتاب الفتوّة.
ويلاحظ فيها جميعًا أن أصحاب الفتوة نهضوا في الفترات العصيبة من حياة الأمة ليثبتوا رجولتهم، ولا نعني طبعًا الرجولة الجنسية، بل الرجولة الروحية، أي ليثبتوا أنهم يعيشون من أجل خدمة الناس، ويضحون براحتهم بل وبنفسهم أحيانًا في سبيل إسعاف حالة فردية أو اجتماعية في أوطانهم.
ويلاحظ في هذه الكتب أن أصحاب الفتوات متعالون على انتماءاتهم الضيقة القومية أو الطائفية. ففي السلسلة الواحدة تجد عربًا وعجمًا، وتجد سنّة وشيعة، وتجد خطابًا يجعلك تنظر إلى هذه الجماعة بأنها ارتقت إلى مستوى الملائكة!!
وتجد بين سلاسل المنتمين إلى الفتوات من العاملين في الحقول المختلفة. وأخصص الحديث هنا عن سلسلة السقائين.
هذه السلسلة كانت تحمل الماء في زمن شحّ الماء إلى المحتاجين لتروي الظمأى، وكان في هذه السلسلة رجال كبار تشرّفوا بحمل قربة الماء وخدمة الناس ومنهم سعدي الشيرازي الشاعر الإيراني الذي أنشد بالعربية والفارسية، وقدم أروع الآثار العالمية في أثريه: گلستان = روضة العطر، وبوستان، روضة الورد.
ومن الملفت للنظر أن هؤلاء السقائين يتشرفون في انتساب سلسلتهم إلى فتى كربلاء العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) والعباس مدفون في كربلاء، وضريحه مزار للعاشقين، ويقع على بعد 500 متر تقريبًا من ضريح أخيه الإمام الحسين بن علي(ع).
حول العباس يروي أبو مخنف في كتابه مقتل الحسين :
عن الضحاك بن قيس أن الحسين عليه السلام لما خطب خطبته على راحلته ونادى في أولها بأعلى صوته : أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني، سمع النساء كلامه هذا فصحن وبكين وارتفعت أصواتهن. فأرسل إليهن أخاه العباس وولده عليًا وقال لهما : اسكتاهنّ فلعمري ليكثرنّ بكاؤهن ، فمضيا يسكتاهن حتى إذا سكتن عاد إلى خطبته، فحمد الله واثنى عليه وصلى على نبيه. قال : فوالله ما سمعت متكلمًا قط لا قبله ولا بعده أبلغ منه منطقًا. قال أهل السير : وكان العباس ربما ركز لوائه أمام الحسين وحامى عن أصحابه أو استقى ماءا فكان يلقب السقاء ، ويكنى أبا قربة بعد قتله . قالوا : ولما رأى وحدة الحسين عليه السلام بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته قال لإخوته من أمه : تقدموا لاحتسبكم عند الله تعالى فانه لا وَلَد لكم، فتقدموا حتى قتلوا ، فجاء إلى الحسين عليه السلام واستأذنه في القتال. فقال ( ع ) له : أنت حامل لوائي ، فقال : لقد ضاق صدري وسئمت الحياة ، فقال له الحسين ( ع ) . إن عزمت فاستسق لنا ماءًا ، فأخذ قربته وحمل على القوم حتى ملأ القربة. قالوا واغترف من الماء غرفة ثم ذكر عطش الحسين(ع) فرمى بها، وقال :
يا نفس من بعد الحسين هوني
هــــــــذا الحسيــــــــــن وارد الـمنـــــــــــــــــــون
وبعده لا كنت أن تكوني
وتشــــــــــــــربين بـــــــــارد الــمعيـــــــن؟!
ثم عاد فأخذوا عليه الطريق فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول :
لا أرهب الموت إذ الموت رقا
إنــــــي أنـــــــا العبــــــــاس أغــــــــدو بالسقا حتى أُراني في المصاليت لقى
ولا أهاب المــــــــوت يــــــــــوم الملتقــــــى
فضربه حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:
والله إن قطــــــــــعتمُ يميـــــــــــــــــــــنــــــــــي إنـــــــي أحــــــــامي أبـــــــدًا عن ديني
فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها، فضم اللواء إلى صدره (كما فعل عمه جعفر إذ قطعوا يمينه ويساره في مؤتة فضم اللواء إلى صدره) وهو يقول :
ألا تــــــــــرون معـــشـــر الفــــــجّــــار قــــد قطعــــوا ببغيهم يســـــاري
فحمل عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم ، فضربه بعمود على رأسه ، فخر صريعًا إلى الأرض ، ونادى بأعلى صوته : أدركني يا أخي ، فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم، فوقف عليه منحنيًا وجلس عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه ثم حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يمينًا وشمالا ، فيفرّون من بين يديه وهو يقول : أين تفرون وقد قتلتم أخي . أين تفرّون وقد فتتّم عضدي . ثم عاد إلى موقفه منفردًا وكان العباس آخر من قتل من المحاربين لأعداء الحسين عليه السلام. وفيه يقول الكميت بن زيد الأسدي :
وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو
قتــــــــل الأدعيـــــــــاء إذ قتلــــــــــــوه شفــــــــــاء النفوس في الأسقام
أكـرم الشاربين صوب الغمام
ويقول حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيدالله بن العباس ( ع ):
إني لأذكر للعباس موقفه
يحمى الحسين ويحميه على ظمأ
ولا أرى مشهدًا يومًا كمشهده
أكـرم بــــــــــــــــــه مشهــــدًا بانت فضيلتـــــــــه بكـــــــربلاء وهـــــــام القوم تختطف
ولا يـــــــولى ولا يثــــــــــــنى فيختلف
مع الحسين عليهالفضل والشرف
ومــــا أضــــــــــاع لـــــــــــه أفعـــــــــــاله خلــــــــــــف
ومن رثاء أمه فاطمة أم البنين ما أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل، وقد كانت تخرج إلى البقيع كل يوم ترثيه وتحمل ولده عبيدالله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، و فيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجى الندبة . قولها رضى الله عنها :
لا تدعونّي ويك أم البنين
كانت بنونٌ لي أُدعى بهم
أربعة مثل نسور الربى
تنازع الخرصان أشلاءهم
يـــــــاليـت شعرى أكَمــــــا أخبروا
تذكّرينى بليوث العرين
واليوم أصبحت ولا من بنين
قد واصلوا الموت بقطع الوتين
فكلهم أمسى صريعًا طعين
بـــــأن عبـاسًا قطيعُ اليمين؟!!
(انتهى ما نقلناه من مقتل أبي مخنف ملخصًا)
والعباس دخل في الوجدان الشعبي بأنه ساقي عطاشى حرم الحسين، وبأنه وَعَدَ بنات أخيه أن يأتي لهنّ بالماء، وظلّ يجدّ في إيصال الماء إلى الخيام حتى بعد أن قطعت يمينه ويساره، إلى أن جاء سهم فأصاب القربة. فانهارت قوى العباس على أثر النزف في يديه وعلى أثر الجراح في بدنه والضربة على رأسه وأفظع من ذلك إراقة الماء الذي وعد بإيصاله إلى حُرَمِ رسول الله(ص). فوقع في مكانه ودُفن حيث سقط ولذلك كان مرقده على مسافة من الحسين وسائر الشهداء.
وهكذا أصبح هذا الرجل المثل الأعلى للفتوّة عامة، ولسلسلة السقائين بشكل خاص.
وما أجدر بأمتنا أن تحيي هذا المثل الأعلى في وجدانها، خاصة ونحن نعيش في عصر تكاد تغيب فيه «الشهامة» و«الرجولة» و«الفتوة»، بل وفي عصر يحاصر فيه أهل الشهامة والفتوّة، ويُرشقون بألسنة حداد ويُقتلون وتهدّم بيوتهم ظلمًا وعدوانًا.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية