أبرز مساهمات رضا في تأطيره لمفهوم السلطة السياسية يتبدى بقدرته على إعادة قراءة التراث الإسلامي بصورة نقدية تعزل النصوص المحدودة القليلة عن الاجتهادات والضغوط التاريخية التي فرضت على الفقهاء القبول بإمامة التغلب وبالخروج عن مسار الحكم الرشيد
شارک :
ضمن مشروع مكتبة الأسرة الذي تصدره وزارة الثقافة الأردنية ، صدرت الطبعة الثانية من كتاب د. محمد أبو رمان، الباحث في الفكر السياسي الإسلامي، بعنوان "بين حاكمية الله وسلطة الأمة: الفكر السياسي للشيخ محمد رشيد رضا".
يناقش الكتاب الأفكار السياسية للشيخ رشيد رضا (۱۸65-۱۹۳5)، الذي يمثّل أحد أبرز رواد الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث، ويشرح الكاتب رؤية رضا للسلطة السياسية وشرعيتها ومفهوم الدولة الإسلامية لديه والأسئلة والإشكاليات التي تثار في هذا السياق، كالموقف من العقد الاجتماعي والحكم الدكتاتوري وحقوق المواطنين غير المسلمين والمرأة.
ويناقش الكتاب، كذلك، تصور الشيخ رضا لإشكالية العلاقة المتداخلة بين الجوانب الدينية والسياسية في عمل السلطة السياسية، وحدود تدخل السلطة السياسية في المجال الأخلاقي والديني وإشكالية العلاقة بين النص والعقل في عملية التشريع التي يقوم بها مجلس الأمة.
فيما يخصص أبو رمان الجزء الأخير من الكتاب لتصور رضا للقواعد التي تحكم السياسة الخارجية للدولة الإسلامية وتحليله لأسباب الحروب العالمية، وتحديداً تلك التي شهدها بنفسه (الحرب العالمية الأولى) وصعود الصراع بين الرأسمالية العالمية والمعسكر الشيوعي.
يقدم أبو رمان للطبعة الجديدة للكتاب بالإشارة إلى أهمية موقع رشيد رضا في الفكر الإسلامي الحديث ودوره في انبعاث الحركة الإسلامية المعاصرة، سواء من خلال تأثيره على تلميذه الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أو تأثر جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بقيادة ابن باديس بخطابه الإصلاحي وبشيخه الإمام محمد عبده.
ويشير أبو رمان في التقديم إلى أنه منذ صدور الطبعة الأولى من الكتاب التي لم تأخذ ما تستحق من الانتشار (لتعثر دار النشر التي أصدرتها) إلى هذه الطبعة الثانية، بعد مرور عشر سنوات، كان يشعر بهاجس وقلق شديد من القراءة المختزلة الخاطئة للشيخ رضا في الأدبيات التي أرّخت للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، والتي جعلته بمثابة نقطة التحول من الفكر الإصلاحي برحابته العقلانية وأفقه الفكري الواسع إلى الفكر الإحيائي الإسلامي، الذي جذّف بعيداً عن التجديد والإصلاح الديني.
ويؤكد أبو رمان أن تلك القراءة الاختزالية غير صحيحة البتة، وأن الرؤية الأكثر عمقاً وإحاطة بإنتاج رشيد رضا الكاملة، والمنثورة في جملة كبيرة من الكتب والأدبيات؛ أبرزها مجلة المنار وتفسير المنار، تكشف أن الرجل أوسع أفقاً من ذلك.
في هذا السياق، يصنف الكاتب الشيخ رشيد رضا بأنه أقرب إلى موقع "السلفية العقلانية"، إذ يجمع بين تأثره بأصول الدعوة السلفية وبكتب ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب التي نقدت البدع الصوفية والخرافات باسم الدين وخلطت بين التوحيد والعديد من المظاهر التي تناقضه من جهة، وبتأثره بأستاذيه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ونزوعهما نحو العقل والانفتاح والاشتباك مع المعرفة والثقافة الغربية.
أبرز مساهمات رضا في تأطيره لمفهوم السلطة السياسية يتبدى بقدرته على إعادة قراءة التراث الإسلامي بصورة نقدية تعزل النصوص المحدودة القليلة عن الاجتهادات والضغوط التاريخية التي فرضت على الفقهاء القبول بإمامة التغلب وبالخروج عن مسار الحكم الرشيد وبالإفادة مما وصلت إليه الأفكار السياسية الغربية في وقته في مجال الديمقراطية، ومن ثم أعاد بناء النظرية السياسية الإسلامية وفق منظور يفتح الأفق لتدشين المسار الديمقراطي عبر الفكر الإسلامي.
في هذا المجال، فإن الشيخ رضا يبني السلطة السياسية على أساس العقد الاجتماعي بين الأمة والحاكم، ويرفض أي تأويل يخرج بالعلاقة السياسية من إطار الاختيار البشري. ويؤسس صاحبنا، كذلك، لمفهوم أهل الحل والعقد في صيغة جديدة تجعل منهم أقرب إلى المؤسسة التشريعية والرقابية، وممثلي الأمة الذين يقومون باختيار الحاكم.
يوضح الباحث مفهوم "المستبد العادل" لدى الشيخ رضا وأستاذه الإمام محمد عبده، وكيف أنهما لم يطلقا هذا المفهوم من دون شروط ودور ووظيفة، إذ جاء ليملأ الفراغ الحاصل نتيجة عدم أهلية المجتمعات العربية حينها، ثقافياً وسياسياً، للانخراط في التجربة السياسية، ما يستدعي وجود حاكم إصلاحي، حتى وإن كان مستبداً يمهد الطريق إلى تأهيل الأمة والمجتمعات المسلمة للوصول إلى هذه الغاية.
في فصل الشرعية السياسية؛ يطرح رضا رؤية متقدمة على صعيد الفكر الإسلامي تجعل من الرضا والقبول والانتخاب بمثابة المعيار الوحيد لشرعية السلطة السياسية، ويرفض في هذا السياق منح الشرعية لحكومة التغلب والدكتاتورية بذريعة الأمن والوحدة، كما فعل التيار الواسع في التراث السياسي السني.
أما في فصل ضوابط السلطة السياسية، فيخصصه الباحث لمناقشة رؤية رشيد رضا لدور الأخلاق وعلاقة النص بالعقل، ويشير الباحث هنا إلى أن رضا يقدم المصلحة على النص في عملية التشريع السياسي على خلاف جمهور السنة.
كما يناقش هذا الفصل مفهوم السنن الاجتماعية الذي منحه رضا وشيخه عبده اهتماماً كبيراً في تفسير تقدم الغرب وتأخر العالم العربي والإسلامي عن ركب التطور والحضارة، ويقدم فيه رضا تصوراً جديداً حول الأسباب التي وقفت وراء الانحطاط الإسلامي وأسباب التقدم الغربي، وفي الوقت نفسه يواجه هنا سؤال المفارقة بين ازدهار الجانب المادي في الحضارة الغربية وتراجع البعد الروحي لديها وأثر ذلك على نشوب الصراعات الدولية وبروز الرأسمالية العالمية والحروب المدنية الغربية التي تختلف عن التصور الإسلامي للحروب وضوابطها الأخلاقية والقانونية.
في فصل وظائف السلطة السياسية، يبرز تمييز رشيد رضا بين الوظائف الدينية والمدنية للسلطة السياسية، وحدود دور السلطة في كل مجال من هذه المجالات المختلفة.