>> تطورات صفقة القرن ومساراتها المحتملة (تقدير استراتيجي) | وكالة أنباء التقريب (TNA)
تاريخ النشر2018 6 October ساعة 14:11
رقم : 365466
الإجماع الفلسطيني على رفض "الصفقة"

تطورات صفقة القرن ومساراتها المحتملة (تقدير استراتيجي)

تنا
بالرغم من عدم وجود نصوص رسمية حول ما عرف بـ"صفقة القرن"، إلا أن التسريبات الأمريكية والإسرائيلية والعربية حولها تحمل مضامين خطيرة؛ تجعلها أقرب إلى "تصفية" القضية الفلسطينية، منها إلى تسويتها.
تطورات صفقة القرن ومساراتها المحتملة (تقدير استراتيجي)
تواجه "الصفقة" بعد نحو عام من التسريبات حالةً من التعثُّر، في ضوء الإجماع الفلسطيني على رفض "الصفقة"، وحالة التراجع و"البرود" العربي تجاهها، وحالة الارتباك في أداء السياسة الخارجية الأمريكية. غير أن ذلك لا ينبغي أن يُقلل من خطورة المحاولات الأمريكية الجارية لحسم بعض قضايا الحل النهائي، بما يخدم التصور الإسرائيلي، من خلال فرض الحقائق على الأرض، وخصوصاً القدس واللاجئين؛ كما لا ينبغي أن يقلّل من خطورة حرف بوصلة الصراع، من خلال تشكيل تحالف عربي إسرائيلي، بما يعزز الصراع الطائفي ويقطع الطريق على قوى التغيير والإصلاح في المنطقة.

نص التقدير كاملًاوتبدو فرص نجاح الصفقة ضعيفة في الظروف الراهنة، بينما يبقى سيناريو فشل الصفقة أمراً مرجحاً. وفي الوقت نفسه، فإن ثمة سيناريو ثالثًا يجب أن يبقى "تحت المراقبة"؛ وهو محاولة تمرير الصفقة بعد "تأهيل" الحالة الفلسطينية والعربية لقبولها، بـ"تلميع" طرف فلسطيني ملتزم بمسار التسوية، باعتباره صامداً ومحافظاً على الحقوق الفلسطينية، ثم تحقيقه لتسوية يبدو أنه أنجز فيها مكاسب مهمة، بينما يتم تمرير قضايا خطيرة مرتبطة بالقدس واللاجئين والسيادة والاستيطان، باعتبارها تضحيات ضرورية لإدارة المرحلة.


مقدمة:
يبدو أن مشروع "صفقة القرن" الذي يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump وفريقه تسويقه لتسوية سلمية نهائية متعلقة بالقضية الفلسطينية، يعاني من التعثر بعد نحو عام من الحديث والتسريبات حوله.

قدمت الإدارة الأمريكية مشروع التسوية هذا بشكل يحمل مدلولاً "تجارياً تسويقياً تشويقياً"؛ ربما بشكل يتناسب مع عقلية تاجر العقارات التي يحملها ترامب. لكنه في كل الأحوال لم يكن مصطلحاً جديداً، إذ سبق استخدامه قبل عدة سنوات. غير أن الوجه البئيس للمصطلح هو أنه تعامل مع أهم وأخطر قضية صراع عالمية باعتبارها مجرد "صفقة"، وحاول نزع حساسية ومكانة وحيوية وقدسية فلسطين، ليتعامل معها كسلعة، وليس كقضية حرية وعدل وكرامة. كما أن "الصفقة" في جوهر أفكارها المطروحة هي عملية "تصفية" وليس "تسوية" للقضية الفلسطينية.

يحاول هذا التقرير مناقشة كيف يبدو مشهد "الصفقة" بعد نحو عام؟ وما هي مساراتها المحتملة؟


أولاً: معالم الصفقة:
يظهر أن حالة الضعف والتردّي الشديد في البيئة العربية والإسلامية، وحالة الضَّعف والانقسام الفلسطيني، قد شجعت الإدارة الأمريكية بخلفياتها اليمينية والشعبوية، على محاولة تقديم مشروع تسوية يتناسب مع المعايير الإسرائيلية؛ ومحاولة قطف ثمار حالة العلو التي يشهدها المشروع الصهيوني، في مقابل حالة التردي التي تشهدها الأمة.

من ناحية ثانية، فإن ما تسرّب من الصفقة التي لم تُنشر رسمياً حتى الآن، هو أقرب إلى حزمة أفكار إسرائيلية أعدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، مقدَّمةً في ثوب أمريكي، كما أشار إلى ذلك شاؤول أرئيلي Shaul Arieli في مقال له في جريدة هآرتس في تموز/ يوليو 2018. ولعل بعضاً من أفكارها المسربة يمكن إرجاعه إلى ما طرحه في سنة 2010 جيورا آيلاند Giora Eiland مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق. ولأنها "تسريبات" فليس هناك ما يمكن إثباته أو نفيه من مضامينها.

وبالرغم من أنه ليس بين أيدينا نصٌّ رسمي يُرجع إليه، إلا أننا من مجمل متابعاتنا للتسريبات التي نُشرت عن طريق الأمريكان أو المسؤولين العرب والإسرائيليين أو بعض الشخصيات والمؤسسات القريبة من صُنَّاع القرار، يمكن أن نخرج بخلاصة تشير إلى أن أبرز معالم هذه "الصفقة" تتلخص في:

1. حكم ذاتي للفلسطينيين تحت السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة (يمكن أن يُسمى شكلياً دولة)، وبالتالي إسقاط مشروع الدولتين (وفق الحد الأدنى الفلسطيني)، وإغلاق الطريق أمام تحوّل السلطة الفلسطينية إلى دولة ذات سيادة؛ مع الإعلان عن "جزرة" هي إمكانية تطوير الحكم الذاتي بناءً على "حُسن سلوك" الفلسطينيين!!

2. إخراج قضايا الحل النهائي من التسوية السلمية، وحسمها لمصلحة المعايير الإسرائيلية، وأبرزها:

‌أ. بقاء القدس (بما في ذلك البلدة القديمة التي تحوي المسجد الأقصى) تحت السيادة الإسرائيلية؛ واصطناع "قدس جديدة" للفلسطينيين مركزها أبو ديس؛ وانسحاب إسرائيلي من بعض أحياء القدس.

‌ب. لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ويتم حلّ قضيتهم من خلال التوطين والتعويض.

‌ج. بقاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية (نحو 190 مستوطنة)، وشرعنة البؤر الاستيطانية القائمة (نحو 100).

‌د. لا سيادة "للدولة الفلسطينية" المقترحة (الحكم الذاتي/ الكانتون) على الأرض، ولا سيطرة له على الحدود، ولا على مجاله الجوي، ولا على المياه.

‌هـ. لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي إلى حدود ما قبل حرب حزيران/ يونيو 1967، وستبقى السيادة الإسرائيلية على المستوطنات وما وراء الجدار العنصري العازل (نحو 12% من الضفة)؛ مع طروحات أن تبقى السيادة على جميع مناطق ج في الضفة أي 60% من مساحتها الكلية (تحت النقاش).

‌و. لن يكون للفلسطينيين جيش عسكري، وإنما قوة شرطة تحافظ على الأمن الداخلي.

3. اعتراف العالم أجمع بـ"إسرائيل" دولة قومية لـ"لشعب اليهودي"، وبـ"الكيان الفلسطيني" دولة قومية للشعب الفلسطيني.

4. التركيز على "السلام الاقتصادي"، ومحاولة تقديم الصفقة في صورة عملية تنموية اقتصادية للفلسطينيين وللمنطقة.

5. التطبيع قبل التسوية: من خلال إيجاد موافقات من الدول العربية الرئيسة المعنية بالشأن الفلسطيني (خصوصاً: مصر، والسعودية، والأردن) على الصفقة، بحيث يحاصَر الفلسطينيّون ويُعزلون، وتُنزع ورقة القوة العربية من أيديهم، باتجاه فرض التسوية عليهم.

6. حرف بوصلة الصراع؛ بالسعي لإنشاء تحالف إقليمي عربي – إسرائيلي ضدّ إيران من جهة؛ ويستهدف من جهة أخرى تيارات "الإسلام السياسي"، وحركات وقوى التغيير والثورة في المنطقة، بما يضمن استقرار الأنظمة السياسية المتوافقة مع السياسة الأمريكية في المنطقة.

من ناحية أخرى، هناك نقاط ما تزال محلَّ نقاش مثل:

– المساحة التي ستُسلم للفلسطينيين من الضفة الغربية، ووفق أي مراحل وشروط؟!

– والممر بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وطبيعته، وإدارته.

– وما إذا كان ستتم عملية "تبادل أراضٍ" لتعويض الفلسطينيين عن الأراضي التي تقع عليها المستوطنات الإسرائيلية، أو لا ترغب قوات الاحتلال بالانسحاب منها. فهل سيكون التعويض من أرض فلسطين 1948، أو من أرض سيناء (ما "أُشيع" عن إمكانية اقتطاع 720 كم2 من سيناء بين رفح والعريش، بحيث تعوَّض مصر عنها بمساحة مماثلة من النقب في منطقة أم الفيران؛ وهو ما نفاه الجانب المصري)؛ أم أنه لن يكون هناك تعويض أساساً.

– وكيف سيتطور الشكل الانتقالي للكيان الفلسطيني الذي سيسمى "دولة".

– وما إذا كان هذا الكيان، سيُضم إلى كونفدرالية مع الأردن أم لا؟!

– وكيف سيتم إنهاء "حكم حماس" في قطاع غزة؟!

– وما هي الأحياء التي يمكن أن تُضم إلى أبو ديس لتشكل عاصمة فلسطين (مثلاً الأحياء التالية أو بعضها: شعفاط، وجبل المكبر، والعيسوية، وبيت حنينا، ورأس خميس، وكفر عقب).

وأياً تكن الصورة التي يروَّج لها، فنحن في النهاية وباختصار أمام عملية "تصفية" للقضية الفلسطينية، وأمام قيام "دولة إسرائيلية" بنظامين أحدهما خاص باليهود يستمتع بالمزايا كافة، وآخر عنصري "أبارتهايد" خاص بالفلسطينيين.

ثانياً: إدارة الصفقة:
يلاحظ أن الإدارة الأمريكية سعت إلى إدارة "الصفقة" بشكل مختلف عن النمط التقليدي السابق لطرح مبادرات التسوية. ومن أبرز معالم إدارتها للصفقة:

1. إن روح الصفقة مبنية على فرض "الإملاءات" بدلاً من المفاوضات وهي أقرب إلى محاولة فرض مسار من طرف واحد، أكثر منها وصولاً لاتفاق بين طرفين. وبالتالي فهي تُفقد كلمة "التسوية" معناها ومضمونها. ولذلك تسعى لحسم عدد من الجوانب الجوهرية على الأرض، من خلال وضع الثقل الأمريكي باتجاه محدد، ليدفع بعد ذلك الأطراف الدولية والعربية للقبول بالأمر الواقع، وجعل النزاع عليها أمراً من الماضي. وهو ما يفعله الطرف الأمريكي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" ونقل سفارته إليها؛ وهو ما يقوم به هذه الأيام من محاولة لإغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين، كما ظهر في سعيه لإغلاق الأونروا UNRWA، وفي ضغطه على الدول العربية لتوطين اللاجئين، وإلغاء صفة اللاجئ عنهم. وفي هذا السياق يأتي ما ذكرته مجلة الفورين بوليسي Foreign Policy أن جاريد كوشنير Jared Kushner حاول الضغط على الأردن لإلغاء صفة اللاجئ عن مليوني فلسطيني يحملون الجوازات الأردنية.

2. عدم الإعلان عن الصفقة رسمياً، والمحافظة على قدر من الغموض والتأخير والتسريبات، لمتابعة الضغوط، وتحقيق قدر من التهيئة النفسية، ومحاولة إيجاد بيئات قبول مناسبة.

3. السعي لممارسة ضغوط قاسية على الطرف الفلسطيني من خلال محاولة عزله، ونزع ورقة القوة العربية من يده، واستخدامها للضغط عليه.

4. محاولة الحصول على قبول الأطراف على الخطوط الرئيسة للصفقة، قبل الإعلان الرسمي عنها؛ سعياً لقطع الطريق عن الاحتمال المبكر لفشلها وسقوطها.

5. إعطاء "الصفقة" نوعاً من المرونة، بحيث تبدأ من السقف الإسرائيلي الأعلى، ويتم "التراجع" أو التخفيف باتجاه الطرف الفلسطيني باعتبارها "تنازلات"، دون أن يصل ذلك إلى الحد الأدنى الذي تطرحه قيادة المنظمة والسلطة.

6. خلط الأوراق، من خلال التركيز على "السلام الاقتصادي"، أو مدخل "غزة أولاً" بحجة تخفيف معاناة القطاع، والاستفادة من ذلك لإضعاف حماس وخط المقاومة، وكذلك للضغط على عباس، للإيحاء بإمكانية تجاوزه إذا لم يتجاوب مع الصفقة.

ثالثاً: الوضع الراهن للصفقة:
يظهر أن "الصفقة" بعد نحو عام من الحديث عنها تُعاني من التعثّر. ومن الواضح أن حالة الحماس الأمريكية للصفقة التي ظهرت مطلع سنة 2018، مترافقة مع حماسة عربية خليجية قد تراجعت بالتدريج.

1. الموقف الأمريكي: كان الطرف الأمريكي يتحدث في كانون الآخِر/ يناير 2018 بثقة وتعالٍ عن فرض الصفقة بغض النظر عن موافقة الفلسطينيين أو رفضهم؛ وعن بيئة عربية تسعى لسلام إقليمي تكون "إسرائيل" شريكة فيه، في مواجهة إيران ومواجهة "التطرف الإسلامي" حسب زعمهم. غير أن الأمريكان قرروا تأجيل الإعلان عن الصفقة أكثر من مرة هذا العام… إلى آذار/ مارس… ثمّ إلى أيار/ مايو… ثمّ إلى أيلول/ سبتمبر… ثمّ إلى تشرين الآخِر/ نوفمبر بعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي.
وقد تشهد الصفقة تأجيلاً آخر… مع تزايد المصاعب الحقيقية التي تواجهها… ومع تَعَرُّف فريق المفاوضات الأمريكي النّزق والجاهل بحقائق المنطقة، والمتبني للرؤية الإسرائيلية، على مزيد من الحقائق على الأرض. وقد ظهرت تصريحات لكوشنير وجيسون جرينبلات Jason Greenblatt خصوصاً منذ حزيران/ يونيو 2018 تعبّر عن حالة إحباط من عدم تجاوب الطرف الفلسطيني أو من برود التفاعل العربي. كما ظهرت تصريحات جديدة لترامب تتحدث عن إدراك متزايد لصعوبة التسوية، وضرورة أن تدفع "إسرائيل" ثمناً كبيراً لها؛ وكان آخرها تصريحه يوم 26/9/2018، على هامش لقائه بنتنياهو في نيويورك، أنه يفضل "حلّ الدولتين"، وأنه سيؤجل طرح الصفقة عدة أشهر، غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن الطرف الأمريكي لم يتوقف عن المحاولة، وما زال يسعى لاستخدام نفوذه للوصول إلى ما يراه مقاربة معقولة.

2. الموقف العربي: في أوائل هذا العام، بدا أن ثمة موافقة عربية من وراء الكواليس على الخطوط العامة (ربما المطاطة وغير نهائية المعالم) على الصفقة، مع بعض مظاهر الحماس الدول الخليجية وخصوصاً السعودي لها، غير أن الحماس العربي أخذ في التراجع في ربيع هذه السنة، وعندما استقبلت السعودية مؤتمر القمة العربية في نيسان/ أبريل 2018 أسمته قمة القدس، وأعطت للقدس اعتباراً خاصاً، وانتشرت أخبار أن الملك سلمان سحب من ابنه محمد بعد ذلك الملف الفلسطيني أو ما يتعلق بصفقة القرن. أما الصمت العربي لدول "الاعتدال" الرئيسة الأخرى، والذي كانت تترافق معه شائعات بموافقات ضمنية؛ فقد أخذت تصدر عنه اعتراضات على نقاط محددة، أو ربط للموافقة بموافقة الفلسطينيين (مع العلم المُسبق برفض الفلسطينيين).
فظهر نفي مصري واضح لإمكانية التنازل عن أجزاء من سيناء لمصلحة صفقة القرن. وتتالت التأكيدات العربية برفض التنازل عن شرقي القدس، وبالتمسك بالمبادرة العربية أساساً للتسوية السلمية، وهي تقوم على دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة سنة 1967 (الضفة والقطاع). وكان واضحاً أن الإجماع الفلسطيني على رفض ما تسرب من مضمون الصفقة، والبيئة المتعاطفة مع غزة والمقاومة والمعادية لـ"إسرائيل" والتي ظهرت في مسيرات العودة الكبرى، وكذلك البيئة المعادية لأمريكا نتيجة نقل سفارتها للقدس… كل ذلك أسهم في إضعاف الدعم الرسمي العربي المحتمل للصفقة، وهو ما دفع مصر والسعودية والأردن (حسبما ذكر الإعلام الإسرائيلي في أوائل آب/ أغسطس 2018) إلى طلب تأجيل الصفقة من أمريكا.

وبشكل عام، فيبدو أن الأنظمة العربية، لم ترغب في مواجهة الجموح الأمريكي، ولا رعونة ترمب، ففضلت أن تترك الأمر لحركة الأحداث، وأن يصطدم الجانب الأمريكي بنفسه بالحقائق على الأرض؛ بدلاً من أن يصُبّ جام غضبه على الأنظمة التي أخبرها أنها مدينةٌ ببقائها له، وأن عليها أن تدفع ثمن ذلك.

3. الموقف الفلسطيني: ثمة إجماع فلسطيني رسمي وشعبي وعلى مستوى الفصائل والقوى الفلسطينية على رفض "صفقة القرن" أو ما تسرّب منها على الأقل. وقد تعزز هذا الإجماع طوال الأشهر الماضية من خلال مئات الفعاليات، كما لعبت مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت من غزة منذ 30/3/2018 وعلى مدى أسابيع متواصلة، وما ترافق معها من فعاليات شعبية وطائرات ورقية وبلالين حارقة، دوراً كبيراً في تأجيج الغضب ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وتم إفشال مساعي الشركاء في حصار القطاع في توجيه الغضب نحو حماس وقوى المقاومة، وقد أسهم ذلك في إيجاد بيئة غير مواتية ومعادية لصفقة القرن، مع تزايد صعوبة إنزالها على الأرض أو تسويقها.

من جهة أخرى، فإن سلوك "القيادة الفلسطينية" أصبح محل تساؤل لدى مختلف القوى الفلسطينية ومتابعي الشأن السياسي الفلسطيني، ففي مقابل السلوك الرسمي المعارض للصفقة، كان هناك ثلاث ملاحظات:

أ. أن محمود عباس عندما التقى الرئيس ترمب للمرة الرابعة، في العام الأول لرئاسته في 20/9/2017 في نيويورك، قال في حديث متلفز وهو إلى جانبه: إن هذا اللقاء إن دلّ على شيء "فإنما يدلُّ على جدية فخامة الرئيس أنه سيأتي بصفقة العصر في الشرق الأوسط، خلال العام أو خلال الأيام القادمة إن شاء الله". (انظر: الحياة الجديدة، رام الله، 20/9/2017).

وكان عباس قد نبّه قبل ذلك بأربعة أشهر في مؤتمر صحفي مشترك مع ترمب بالتزامه بالعمل مع ترمب من أجل التوصل إلى صفقة "سلام" تاريخية (وكالة وفا، 3/5/2017). فهل كان حديث عباس عن صفقة العصر (القرن) من عفو الخاطر، وما المعطيات التي كانت بين يديه عنها في تلك الأيام؟ وهل ما تكشَّف عنها بعد ذلك هو غير ما فهمه عباس؟ وهو ما تسبّب بمعارضته؟

ب. إذا كانت الرئاسة الفلسطينية تستشعر المخاطر الحقيقية الناتجة عن "الصفقة" وإجراءات نقل السفارة الأمريكية للقدس، وتضييع حقوق اللاجئين؛ فلماذا لم تقم بالخطوات الطبيعية والضرورية اللازمة لتقوية الصف الفلسطيني ولإنفاذ اتفاق المصالحة؟ ولماذا أصرّ عباس على عدم الدعوة لعقد الإطار القيادي المؤقت، وهو الجهة الوحيدة الممثلة حالياً لجميع القوى الفلسطينية، والقادرة على العمل المنسق على الأرض؟ ولماذا أصر على عقد المجلس المركزي بدلاً من ذلك بغياب الفصائل الفاعلة غير حركة فتح (غابت الجبهة الشعبية في المجلسين الأخيرين، وغابت الجبهة الديموقراطية في المجلس الأخير، مع عدم مشاركة حماس والجهاد أصلاً في المجلس…)؟ ولماذا أصر على عقد المجلس الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال، وبخلاف اتفاق بيروت في كانون الآخِر/ يناير 2017، وبخلاف اتفاق المصالحة 2011، بحيث تحول إلى مجلس انقسام وإضعاف للحالة الفلسطينية بدلاً من تقويتها، وبمقاطعة الجبهة الشعبية وكذلك الفصائل خارج المنظمة وتحديداً حماس والجهاد.

ج. إذا كانت الرئاسة الفلسطينية تستشعر المخاطر الحقيقية على قطاع غزة ومحاولات فصله وعزله، فلماذا تعقّد الأمور وتزيد التوتر والاحتقان من خلال إجراءاتها العقابية على قطاع غزة، والإصرار على الإبقاء على معاناته الهائلة… والوقوف في وجه حالة إجماع وطني من القوى والفصائل الفلسطينية كافة (عدا فتح) ضدّ إجراءات عباس.

ومهما يكن من أمر، فإن هذا السلوك يُضعف الحالة الوطنية الفلسطينية، في بيئة هي في أَمَسّ الحاجة للوحدة وتجاوز الخلافات.


رابعاً: السيناريوهات المحتملة:

السيناريو الأول: فشل الصفقة: بناءً على أن الصفقة وفق ما تسرب عنها هي في جوهرها مشروع إسرائيلي، وهي لا تصل إلى الحد الأدنى الذي يقبل به أي طرف فلسطيني، بمن فيها الأطراف المؤيدة لمسار التسوية، وما دام لا يوجد طرف فلسطيني مؤهل للموافقة والحديث باسم الفلسطينيين، فلن تكون هناك تسوية أو صفقة، لأن الطرف المعني ليس جزءاً منها.

كما أن الطرف الفلسطيني من خلال وجوده على الأرض، ومن خلال مقاومته قادر على إفشال الصفقة، كما أفشل عشرات مشاريع التسوية طوال السبعين سنة الماضية، وليس من المتوقع أن يتمكن أي طرف عربي من فرض إرادته على الشعب الفلسطيني، كما أن البيئة العربية نفسها غير متحمسة، وغير مؤهلة لإنفاذ الصفقة.

السيناريو الثاني: تمرير الصفقة بعد "تأهيل" الحالة الفلسطينية والعربية والإسلامية لقبولها: ويعتمد ذلك على تسويق وتلميع الطرف الفلسطيني الملتزم بمسار التسوية، باعتباره صامداً ومحافظاً على الحقوق الفلسطينية، في الوقت الذي يتم فيه تخفيف عدد من النقاط التي تمّ تسريبها وإظهار "تراجع" الطرف الإسرائيلي والأمريكي عنها، وتقديم ذلك كانتصارات للطرف الفلسطيني والعربي، في الوقت الذي يتم فيه تمرير قضايا جوهرية عالقة أو تأجيلها، بحيث تكون المحصلة النهائية اتفاقاً جديداً بتنازلات جديدة؛ وخصوصاً في مواضيع القدس واللاجئين والسيادة على الأرض.

فمثلاً يتم تخفيف التشدد الإسرائيلي فيما يتعلق بمساحة السيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية من 60% إلى 40% أو 12% أو حتى 6%… وتتم جدولة "إعادة الانتشار" الإسرائيلي بطريقة يُمكن تسويقها.

أو يتم توسيع دائرة النفوذ الفلسطيني في شرقي القدس، وإعطاء قدر من الإدارة المشتركة فيما يتعلق بالبلدة القديمة.

أو يتم الاكتفاء بالمستعمرات القائمة دون ضمّ البؤر الاستيطانية…

أو تتم الموافقة على إعلان الدولة الفلسطينية في إطار زمني قريب، مع توفير بعض أشكال "السيادة" والاستقلال الاقتصادي، ورفع الحصار عن القطاع والموافقة على إنشاء الميناء والمطار، وتوفير ممر آمن بين الضفة والقطاع،…إلخ.

وقد يتضمن ذلك الدخول في كونفدرالية بين الدولة الفلسطينية والأردن.

ويجب وفق ذلك، أن تسلّم حماس قيادة السلطة في القطاع إلى حكومة رام الله (ما فوق الأرض وما تحت الأرض) التي ستسعى لنزع أسلحة المقاومة، وتوفير البيئة المناسبة لمسار التسوية.

السيناريو الثالث: نجاح الصفقة وفق الشروط والمعايير الأمريكية المعروضة حالياً أو حسبما تسرب من الصفقة: على أساس متابعة الولايات المتحدة إصرارها على إنفاذ خطوط التسوية عملياً على الأرض، ومتابعة الضغط على الأنظمة العربية لإجبارها على دعم الصفقة، مع تهديدها بتركها إلى مصيرها في صراعاتها الإقليمية أو في نزاعاتها مع شعوبها. وعلى أساس تهديد عباس باستبداله، وتوفير زعامة فلسطينية جديدة تُوفر الغطاء اللازم فلسطينياً لمسار التسوية.

الخيار المرجح: يبدو وفق المعطيات الحالية أن الخيار الأول الذي يتحدث عن فشل الصفقة هو الخيار المرجح، حيث ما زال الوضع الفلسطيني مجمعاً على رفضها، وما زالت المقاومة قوية على الأرض، كما تراجع الحماس العربي بشأن الصفقة، مع حالة الارتباك التي يشهدها الأداء السياسي الأمريكي في المنطقة.

ومن جهة أخرى، فإن الخيار الثالث ما زال مستبعداً، وإن كان البعض يُلوّح بأسماء من داخل المؤسسة الأمنية للسلطة، أو بأسماء مدعومة من أنظمة عربية، أو حتى برجال أعمال وشخصيات تسعى لتسلق المشهد السياسي.

أما الخيار الثاني فهو خيار ينبغي أن يظل "تحت المراقبة"، خصوصاً وأن أداء قيادة السلطة والمنظمة على الأرض لا يسير بشكل متسق مع ضرورة توحيد الصف الوطني وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بل يخالف الاتفاقات الموقعة، وحالات شبه الإجماع الفلسطيني. بل إنه يزيد الوضع الفلسطيني تأزيماً وإضعافاً؛ ويُصرُّ على هيمنة "زعيم" وفصيل محدد، في بيئة لا تحتمل إلا مشروعاً وطنياً موحداً على أسس راسخة.


خامساً: خلاصة:
إن "صفقة القرن"، وفق التسريبات المتداولة، تواجه مأزقاً حقيقياً بسبب صمود الشعب الفلسطيني وقواه الإسلامية والوطنية الفاعلة، وبسبب تراجع و"برود" البيئة العربية التي قد تُقدم دعماً محتملاً للصفقة، وبسبب ارتباك أداء السياسة الخارجية الأمريكية. غير أن ذلك كله، لا ينبغي أن يُقلّل من خطورة المحاولات الجارية لفرض الحقائق على الأرض، وخصوصاً السعي لإضاعة الحق الفلسطيني في القدس وفي عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي أُخرجوا منها، وما زالت إمكانات إسقاط الصفقة وإفشالها عالية، طالما أنه لا يوجد طرف فلسطيني يوافق على أن يُقدم غطاء لتمريرها.

سادساً: توصيات:
1. تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتنسيق الجهود كافة في مواجهة "الصفقة".

2. إصدار ميثاق تتعاهد فيه القوى والفصائل والرموز الفلسطينية على المحافظة على الثوابت، ورفض "صفقة القرن" وأي صفقة أو تسوية تنتقص من الحقوق الفلسطينية.

3. إنفاذ اتفاق المصالحة الفلسطينية الموقع في 2011، وتوافقات بيروت في 2017، وعقد مجلس وطني فلسطيني توحيدي، وإعادة بناء منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بما يتوافق مع إعادة القوة والحيوية للمشروع الوطني الفلسطيني.

4. رفْع "أبو مازن" للإجراءات العقابية عن قطاع غزة فوراً.

5. الدعوة العاجلة إلى عقد الإطار القيادي الموحد للشعب الفلسطيني، وتفعيله إطارًا لحماية الحقوق والثوابت الفلسطينية، إلى حين إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

6. تفعيل مؤسسات العمل الشعبي والنقابي في الداخل والخارج.

7. وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.

8. رفع سقف الحريات في مناطق سيطرة السلطة، وحماية كرامة الإنسان الفلسطيني وعزته، وتفعيل دوره في التنمية السياسية والمجتمعية والنضالية.


* أعدّ الدكتور محسن محمد صالح نصَّ هذا التقدير.

/110
 
https://taghribnews.com/vdcjmietmuqemxz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز