مشاهير علمائنا : السيد محي الدين فضل الله العاملي (قده)
تنا
هو السيد محيي الدين بن فضل الله الحسني العاملي العيناثي، كان من مشاهير العلماء في عصره، ومن أعلام القرن الثالث عشر الهجري، ومن أبرز المساهمين في نهضة جبل عامل العلميّة، على الرغم من الفترة الصعبة التي مرّ بها الجبل الأشمّ.. حاز على محبة الناس والعلماء واحترامهم وثنائهم على خلقه وعلمه وسيرته وسلوكه وتقواه وورعه وزهده.
شارک :
محمد عبدالله فضل الله
أشرف أخوه السيد رضا على دعمه مادياً ومعنوياً كي يتابع تحصيله العلمي، وقد عاصر زمن النكبة التي حلّت ببلاد عاملة، واستفاد من قوّة حضوره المتعدد الجوانب، كي يثبت الحياة العلمية ويرفدها، كي لا ينطفىء نورها جراء الأعمال الهمجيّة في زمن الجزار.
تقول الكاتبة خديجة أيوب في سياق كلامها عن تاريخ بلدة عيناثا وإسهاماتها العلمية، وعن نشاط السيد محي الدين فضل الله فيها: "أعاد السيد محي الدين فضل الله تجديد مدرسة عيناثا الدينية القديمة أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، بعد أن توقّفت عن التدريس في عهد الجزار الذي فتك بعلمائها وأحرق مكتباتها، وهجّر علماءها، ومن تلامذتها في جبل عامل برز: "الشيخ محمد سليمان، وابنا عمه الشيخ درويش المعروف بالحاج عبد الله، والشيخ حسين حسن درويش"، والعالمان كاظم فضل الله ونجيب فضل الله.
لعبت المدارس الدينية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر دوراً مهمّاً في مواجهة الولاءات الاستعمارية، وقد أسّس مدرسة عيناثا الدينية الحديثة السيّد نجيب فضل الله العام 1894، نجل السيّد محي الدين، وجدّ العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض).
هذا، وساهمت المدارس، من القرن 14 م حتى 17م، في تنمية الحركة الأدبية والفكرية في جبل عامل وتعزيزها ونشرها. وكانت عيناثا وميس وجزين ومشغرة وجبع وكرك نوح وغيرها غاصّة بالمدارس وطلاب العلم، في تلك الفترة.
فقد عرفت "عيناثا التعليم منذ أكثر من خمسمائة سنة، فكانت محجّة ومقصداً"، وذلك بفضل حوزاتها العلمية التي أنشأها آل خاتون في أواخر القرن التاسع الهجري (الرابع عشر ميلادي)، ما جعلها مقراً لأعلى الدراسات الإسلامية، وطلاب العلم، كانوا يفدون إليها، لا من جبل عامل وحده، بل من أقصى البلاد الإسلاميّة. ففي مدرستها، كان أول من قام بتعليم النحو على أصول الأجرومية في جبل عامل، ظهير الدين بن الحسام العيناثي سنة 853 هـ.
ونظراً إلى مكانتها الأدبية والعلمية، فقد قصدها من إيران العديد من طلاب العلم والعلماء، منهم "ناصر بن إبراهيم البويهي، والمحقق الأصولي عبد الله التستري"، ومن جبل عامل، "الشيخ علي بن يونس النباطي البياضي"، والعلامة بهاء العاملي، والعلامة الحرّ العاملي. كما قصد العديد من علماء مدارس عيناثا الكثير من الحواضر العلميّة الإسلاميّة المنتشرة في إيران والهند وحيدر أباد، ومنهم "الشيخ محمد بن خاتون، ابن أخت العلامة البهائي الذي تولى في حيدر أباد منصب الصدارة العظمى وإمارة المملكة بأسرها العام 1628م.
وقد ترك علماء مدارس عيناثا العديد من المؤلفات والتصنيفات التي تناولت الفقه والعلوم العقليّة وعلم الرجال والتاريخ والحساب، وباللّغتين العربية والفارسية، ومعظمها "مازال من أمّهات كتب التدريس في كليات النجف والهند وإيران وبلاد الروس"، فيما أحرقت معظم مؤلّفاتهم أثناء حملة الجزار على جبل عامل العام 1780.
أمَّ مدرسة عيناثا الدينية جمعٌ من طلاب العلم من جبل عامل، أبرزهم: العلامة السيّد محسن الأمين، الشاعر محمد الأمين، العلامة محمد حسن الأمين، والشيوخ محمد دبوق، يوسف الفقيه الحاريصي، عبد الأمير شرارة، أحمد توبة، عباس مراد، عبد الرضا شبلي، علي شرارة، عبد الرضا الحانيني، محمود مغنية. والعلماء: عبد الحسن فضل الله، عبد الحسين فضل الله، عبد اللّطيف فضل الله، محمد حيدر الحسيني، محمد حسن فضل الله، صدر الدين فضل الله، محمد سعيد فضل الله، وعبد الرسول إبراهيم. (من كتاب "تاريخ عيناثا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي 1920 – 1978" لخديجة أيوب) .
عالمنا المشهور السيد محي الدين فضل الله (قدس سره) ذكره الشيخ محمد آل مغنية في كتابه "جواهر الحكم"، فقال: قرأ أوّلاً على والدي الشيخ مهدي بن محمد، وقضى خمساً وعشرين سنة بقرية طيردبّا يفيد ويستفيد، وبعدها توجه إلى العراق في عصر شيخ الطائفة الشيخ مرتضى الأنصاري، ثم عاد إلى جبل عامل، ونقل أن الشيخ مرتضى كان يُرجع الناس إليه، وما عثر على زلّة ولا نقم أحد عليه في كلية أو جزئية، وكان شيخاً حفاظاً فاضلاً عفيفاً متواضعاً، ما خرج من بيته منذ جاء من العراق إلا قليلاً.
يذكر أنّ السيد محي الدين قد لزم أستاذ الفقهاء مرتضى الأنصاري خمس سنوات، الذي رأى فيه مثال العالم الفذّ والورع، ونال ثقته وثناءه، وجعله موضع رعايته في العلم والسلوك، ونقل السيد محسن الأمين (قدس سره) في "أعيان الشيعة" ج 10: "وأرسل له الشيخ مرتضى الأنصاري كتاباً على يد الشيخ كاظم ابن الشّيخ حسين محفوظ، نورد جملاً منه نموذجاً لما كان يكتب عن لسان علماء العراق في ذلك العصر. فقد جاء فيه:
"سلام كأنفاس الخزامى إذا جاءها الغيث تحدوه النعامى، وثناء أوسع الدهر العبوس ابتساماً، إلى من بنى في ذروة الفضائل مقاماً، وأصبح لجميع الأفاضل مرجعاً وإماماً.. كيف لا، وهو علامة الأمّة، وعلم الأعلام الأئمّة، وبدر العلوم المجلي بنور علومه ظلم الجهالة المدلهمّة، جامع المعقول والمنقول، وخاتمة أكابر الفقهاء الفحول، السيد محيي الدين فضل الله، أدام الله تعالى علاه، وأولاه مزيد اللّطف في أخراه وأولاه، ونفع بعلومه كافّة المؤمنين، ورفع به راية الدّين في العالمين. حامل الفقرات ولدنا الورع التقي النقي كاظم نجل سلمان زمانه، وأبي ذر أوانه، المرحوم المبرور الشيخ حسين محفوظ العاملي، توجّه إلى جهتكم وفسيح ساحتكم، لينال الحظّ الأوفى من سماح راحتكم... إلخ.
6 شوال سنة 1234هـ التوقيع الخاتم الراجي لطف ربّه، لا إله إلا الله الملك خادم الشريعة الغرّاء، الحقّ المبين، مرتضى الأنصاري عبده مرتضى الأنصاري.
وكتب له الشيخ رضا بن زين العابدين العاملي إجازةً هذه صورة أكثرها:
الحمد لله الذي هدانا لدين الاسلام، وسنّ لنا شرائع الأحكام على لسان نبيّه محمد(ص) خاتم الرسل وسيّد الأنام، ثم استودعها من بعده أمناءه في أرضه، وحجّته على بريّته، وخلفاءه في أمّته، عليّاً والغرّ الميامين من أبنائه وذرّيته الأئمّة الأمناء الأعلام، والهداة المهديين الكرام، وسادات الناس من بني حام وسام، ولما أن جرت حكمته في غيبة إمام العصر عن عباده، مع افتقارهم في جميع أمورهم إلى هدايته وإرشاده، جعل من بعده نوّاباً عنه، حافظين لشريعته، علماء الفرقة المحقّة المجاهدين في حفظ الشريعة حقّ الجهاد، المتوّجين بتاج الرياسة والنيابة عن خليفة ربّ العالمين، والمتحلين بحلية وجوب الطاعة على الخلق أجمعين.
وقد ظهر ـ والحمد لله ـ في زماننا الصادق الأفكار، والصائب الأنظار، والغواص في بحار محكمات الآيات والأخبار، المستخرج من دقائق أحكامها ومشكلاتها الفرائد الأبكار، العالم العلامة، والفاضل الفهامة، المرجع فيما يجهل من أحكام الشرع المبين، السيد النبيل، السيد محيي الدين فضل الله. فلعمري قد أخبرته مراراً في حال التدريس والبحث بما يشكل حلّه على العلماء، فوجدته ذا ملكة قدسيّة، وقوّة يقتدر بها على ردّ الفروع إلى الأصول، فلقد ارتقى من مراتب الفضل والاجتهاد أقصاها، وقد استجازني فأجزت له أن يروي عني ما أجازني مشائخي عن مشائخهم، إلى أن يتصل ذلك بالرواة عن الأئمّة الهداة من مقروءاتي عليهم، ومسموعاتي منهم، من كتب الحديث الأربعة وغيرها من كتب الأخبار، كغوالي اللآلي، وما يرويه من غيرها في الوسائل ومستطرفات السرائر والبحار، وكتب الفقه لأصحابنا وفقهائنا رضوان الله عليهم أجمعين، والصحيفة السجادية، على صاحبها ألف صلاة وتحية، لأجل اليمن والتبرك والدخول في هذه السلسلة الشريفة.
وأوصيه بالجد والسهر، وإتعاب الفكر والنظر في آثار سادات البشر، والتروّي في الفتوى، والتأمل والتدبر في كلمات الفقهاء، والفحص عن إجماعاتهم، كي لا يقع في مخالفتها، وأن يقف عند شهرتهم، ويتحرّز عن مخالفتها مهما أمكن، بتكرير النظر بتقوى الله، ومراقبته في السرّ والعلن، والاهتمام في أمور الآخرة، والإعراض عن الدنيا. وأرجو منه الدعاء لي بالعفو والمغفرة في أدبار صلواته، وأوقات تهجداته، سيما بعد صلاة الليل، فإن الدعاء لا يرد فيها، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ورضي الله عن علمائنا ومشائخنا أجمعين، وعن رواتنا المحسنين، وسلك بنا سبيلهم. كتبه بيده الفانية الأقلّ خادم الشريعة".
عاد إلى بلدته عيناثا مفتياً وقاضياً وأستاذاً وواعظاً ومبلّغاً ومرجعاً للناس والعلماء في عصره، وكان قدوةً في السيرة والسلوك.
رحم الله علماءنا الأبرار، وجعلهم من المقرَّبين عنده في رفيع الدّرجات، وكلّ الأمل أن يعكف الدارسون والعلماء والناس على سيرة هؤلاء الكبار، كي يستلهموا منها الخير كلّه.