كتاب الفقه الجواهري.. الظروف السياسية والثقافية في عهد صاحب الجواهر
تنا
ينبغي القول إن صاحب (الجواهر ) كان يعيش برهة هي الأفضل من حيث الهدوء، والأمان، والحوزة العلمية في النجف كانت تعيش أفضل أيامها من جهات عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ما جعل وفود الطلاب والزائرين والمهاجرين تغدق على هذه المدينة تلبية لمتطلباتهم الفكرية والنهل من الفقه والثقافة الاسلامية.
شارک :
ينبغي اعتبار ظهور علماء کبار مثل صاحب الجواهِر والشيخ الأنصاري نتائج طبيعية للظروف السياسية الجيدة نسبياً في القرن الثالث عشر. وقد وصف البعض هذا العهد التاريخي المهم بقوله:
(بعد المواجهات السياسية والعسكرية التي دارت بين الدولتين الاسلاميتين المهمتين، أي ايران والعثمانية، (كما هو الحال عهد الامامين الباقر والصادق “عليهما السلام” حيث انتقلت الحكومة من بني أمية إلى العباسيين) وبعد عهد غير قصير من المواجهات، وقَّعا معاهدة صلح بعد وساطة شخصية اصلاحية وعالم رباني هو الشيخ موسى نجل آل کاشف الغطاء، وتم وفق هذه المعاهدة إعادة الأسرى العراقيين في ايران وسمح للايرانيين بزيارة العتبات المقدسة. وفي هذا المضمار تم تصفية المسائل المالية والاقتصادية للعلماء والمراجع العظام المقيمين في کربلاء، واستعادت الحوزة نشاطها العلمي في تلك المدينة تارة أخرى).
من هنا ينبغي القول إن صاحب (الجواهر ) كان يعيش برهة هي الأفضل من حيث الهدوء، والأمان، والحوزة العلمية في النجف كانت تعيش أفضل أيامها من جهات عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية، ما جعل وفود الطلاب والزائرين والمهاجرين تغدق على هذه المدينة تلبية لمتطلباتهم الفكرية والنهل من الفقه والثقافة الاسلامية.
إلى جانب الحركة الفقهية ينبغي الاشارة إلى الحركة الأدبية التي تزامنت معها، وانتجت شعراء مثل آل أعسم، و آل محيي الدين وآل الشيخ عباس ملاعلي، والسيد حيدر علي، والشيخ محسن والسيد جعفر الحلي، والسيد محمد الجعفري، والسيد ابراهيم بحر العلوم، وهؤلاء من بركات الأمان والهدوء والاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي حكم العراق والحوزة العلمية آنذاك.
الثمرات العلمية والفقهية لهذه البرهة هي تدوين أعمال فكرية جبارة، يعد كل واحد منها ذخر فكرية وعلمية للاسلام، فقد دونت في ذلك العهد موسوعات فقهية مثل (مفتاح الكرامة) و (کشف الغطاء) و(ریاض المسائل) و(المكاسب) و(القوانين) و(الفصول) و (هداية المسترشدین) وغيرها من الموسوعات.
وصف المرحوم المظفر الحركة العلمية والثقافية عهد صاحب (الجواهر) بقوله:
كانت الحركة العلمية في عهد شيخنا المترجم له في القمة من الحركات العلمية التي امتاز بها القرن الثالث عشر الهجري في خصوص النجف الأشرف وكربلاء، فإن النهضة العلمية التجديدية في الفقه وأصوله – بعد الفتور العام الذي أصابها في القرن الحادي عشر وأكثر الثاني عشر – ابتدأت في كربلاء على يد المؤسس العظيم الاغا محمد باقر البهبهاني المتوفى سنة 1208هـ.
وبقيت بعده النجف تنازع کربلاء وتشاطرها الحركة العلمية بفضل تلميذیه العظيمين السيد مهدي بحر العلوم المتوفي سنة ۱۲۱۲ والشيخ جعفر کاشف الغطاء المتوفی سنة ۱۲۲۸ إذ تحول قسم من الاتجاه العلمي شطر النجف بسببهما، وإن كانت کربلاء بقيت محافظة على مركزها الأول حتى وفاة المربي العظيم المعروف بشریف العلماء وهو الشيخ محمد شريف المازندراني المتوفي سنة ۱۲۴۵ الذي قيل: إنَّ حضَّار در سه كانوا يبلغون ألف طالب، وكفى أنَّ أحد طلابه وتلاميذه الشيخ الأنصاري.
وبوفاة شريف العلماء فقدت كربلاء تلك المركزية العلمية حتى اتجهت الأنظار صوب النجف لوجود الشيخ صاحب (الجواهر) المترجم له، الذي اجتذب إليه طلاب العلم بفضل براعته البيانية وحسن تدريسه وغزارة علمه وثاقب فكره الجوال وبحثه الدؤب وانكبابه على التدريس والتأليف، ولعل هناك أسباب أخرى لهذا التحول، ولا يبعد أن من أهمها أن کربلاء بالخصوص کانت عرضة للغارات السعودية وضغط الحكومة العثمانية و تعدياتها.
وعلى كل حال، فقد شهد هذا القرن، وهو القرن الثالث عشر، حركة علمية واسعة في كربلاء والنجف مبتدئة بالوحيد البهبهانی، وبلغت غاية ازدهارها في عصر شیخنا المترجم له في خصوص النجف، فإن عصره ازدهر بكبار الفقهاء وفطاحل العلماء من أساتذته وأقرانه و تلاميذه ما لم يشهده أي عصر مضى.
ويكفي أن يكون من نتائج ذلك العصر حبر الأمة وإمام المحققين الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفي سنة ۱۲۸۱ الذي أنسى الأولين والآخرين، إذ تجدد على يديه الفقه وأصوله التجدد الأخير، وخطابهما شوطاً بعيداً قلب فيه المفاهيم العلمية رأساً على عقب. ولا يزال أهل العلم إلى يومنا هذا يدرسون على مدرسته العلمية الدقيقة ويستقون من نمير تحقيقاته، ويتغذون بآرائه، ويتخرجون علی کتبه البارعة الفاخرة».
وعلى أية حال، فقد شهد القرن الثالث عشر حركة علمية شاملة في النجف وكربلاء، بدأها الوحيد البهبهاني، وقد بلغت ذروتها عهد صاحب (الجواهر) فقد ظهر في هذا الزمن فقهاء لم يعهد تاريخ الشيعة بمثليهم، وأكبر شاهد على ظهور حبر الأمة إمام المحققين الشيخ مرتضى الأنصاري وهو فقیه مجدد في علمي الفقه والأصول، ولا زال فقهاء وعلماء عصرنا ينهلون من دراساته ونظرياته.
“وكان شيخنا واستاذنا العظيم میرزا حسین النائيني (۱۳۵۵) يفتخر بأنه من تلامذة مدرسته، وإن كلّ ما عنده من تحقيق ومعرفة فهو فهم أسرار آراء الشيخ الأنصاري و تحقيقاته وعرضها عرضاً مبسطاً وكم صرّح بهذا المعنى على منبر الدرس، معتزاً بذلك»”
إن الاستقرار الذي كانت تتمتع به النجف، والسلام الذي عم العالم الاسلامي وبخاصة بين الدولتين العثمانية والايرانية ووساطة الشيخ جعفر کاشف الغطاء لأجل العفو عن الأسرى العراقيين، وانعقاد معاهدة الصلح بوساطة من قبل المصلح العظيم الشيخ موسی نجل الشيخ کاشف الغطاء والسماح للايرانيين بزيارة العتبات. هذه كلها ساعدت على الاستقرار في النجف، مضافة إلى أنها كانت بمنأى عن غارات الوهابيين، ويعود ذلك إلى أمرين:
الأول: تسلّح الأهالي، وبخاصة رجال الدين بأمر وإشراف من المرحوم الشيخ کاشف الغطاء، فقد جمع ما يكفي من الأسلحة الرائجة في ذلك الزمان، وأمر الناس بالتدرب عليها فكان الناس يخرجون خارج المدينة للتدرب، وقد تم التدريب والتدرب آنذاك واجبة شرعية. حتى أن السيد الجلیل صاحب (مفتاح الكرامة) كتب رسالة في وجوب الدفاع عن النجف.
الثاني: بناية سور وخندق حول النجف بمبالغ هائلة أنفقها الصدر الأعظم نظام الدولة جدّ اسرة آل نظام النجفية، وكان وزيراً لفتح علي شاه، وقد تمَّ البناء عام ۱۲۲6، أي عامان قبل وفاة الشيخ كاشف الغطاء .
تبلورت هذه العوامل في عصر صاحب (الجواهر) وبرزت في ذلك العصر أكثر من أي عصر آخر، ما شجَّع النشاط العلمي وأبلغه ذروته. مع أن النشاط لم يقتصر على العلوم والمعارف الدينية بل تعداها ليبلغ الأدب، فظهر آنذاك شعراء لامعون تقدم ذكرهم. ولاشك أن هذه الحركة والنشاط العلمي والأدبي أثر بشكل ايجابي على مجالات أخرى لهذه المدينة، منها: المجال الاقتصادي.