>> سموّ الامام عليّ(ع) في خلقه وروحانيَّته وعلمه | وكالة أنباء التقريب (TNA)
تاريخ النشر2021 25 February ساعة 02:01
رقم : 494362
في ذكرى مولد الامام علي (ع)

سموّ الامام عليّ(ع) في خلقه وروحانيَّته وعلمه

تنا
وفي يوم عليّ(ع)، نتطلَّع إليه وهو يعيش عقله كلَّه وحياته كلَّها مع الله، فليس فيه شيء لغير الله، وليس فيه شيء حتّى لنفسه، فلقد كانت نفسه لله، وكان عقله في خدمة الحقّ، وقلبه في خدمة الخير، وحياته في خدمة الإنسان كلِّه، باعتبار أنَّ النّاس كلّهم عيال الله، فهو(ع) يقول عن الناس إنّهم "صنفان؛ إمّا أخ لك في الدّين"، تعيش معه آفاق دينك، "وإمَّا نظير لك في الخلق"، تعيش معه آفاق إنسانيَّتك.
سموّ الامام عليّ(ع) في خلقه وروحانيَّته وعلمه
في يوم عليّ(ع)، نكبر ونسمو ونصفو، وتتفتَّح لنا آفاق الرّوح كلّها، وتتعمَّق فينا مواقع العقل كلّها، ونشعر بإنسانيَّتنا كيف تنفتح على الإنسان كلّه من خلال انفتاحها على الله بكلّها.

وفي يوم عليّ(ع)، نتطلَّع إليه وهو يعيش عقله كلَّه وحياته كلَّها مع الله، فليس فيه شيء لغير الله، وليس فيه شيء حتّى لنفسه، فلقد كانت نفسه لله، وكان عقله في خدمة الحقّ، وقلبه في خدمة الخير، وحياته في خدمة الإنسان كلِّه، باعتبار أنَّ النّاس كلّهم عيال الله، فهو(ع) يقول عن الناس إنّهم "صنفان؛ إمّا أخ لك في الدّين"، تعيش معه آفاق دينك، "وإمَّا نظير لك في الخلق"[1]، تعيش معه آفاق إنسانيَّتك.

البطولة الرّوحيّة

وعندما نقرأ القرآن فيما نزل في عليّ(ع) بما يرويه رواة السنّة والشيعة، فإنَّنا نجد أنَّه يتحدَّث في آيات بارزة عن علاقة عليّ(ع) مع الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}. وفي الرّوايات، أنَّ هذه الآية نزلت في عليّ(ع) عندما بات على فراش النّبيّ(ص) ليلة الهجرة، وهي لم تتحدَّث عن الواقعة، ولكنَّها تحدَّثت عن سرِّ عليّ(ع) في هذه التّجربة الإيمانيَّة الفدائيَّة، بأنَّه شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، والشِّراء هنا بمعنى البيع، ويمكن أن يأخذ الشِّراء معناه ويصحّ الإيحاء.

إذاً، سرّه(ع) هو هذا: أنّه باع نفسه لله، فلم يفكِّر، وهو الشابّ الذي لم يتخطَّ العشرين إلاّ بسنة أو سنتين، في نفسه وهو يبيت على فراش النبيّ(ص) ليغطّي انسحابه، كما نقول في المصطلح العسكري المعاصر، وكانت هناك عشرة سيوف مسلطة فوق رأسه، وهذا هو الَّذي يفسِّر حياة عليّ(ع) كلّها، فعندما حمل سيفه في سبيل الله، لم يحمل في نفسه عقدة أن يقتل النّاس، فليست بطولته في هذا ـ وإن كانت في ميدان الحرب لا تضاهى ـ بل كانت بطولته الحقيقيّة هي البطولة الرّوحيَّة، وهي أن يهدي النّاس إلى سبيل الرَّشاد، وأن يتَّخذ الحرب وسيلةً من وسائل الضَّغط على النّاس الذين عاشوا تحت تأثيرات معقَّدة أبعدتهم عن الله ليعودوا إلى الله، ولقد قالها في صفّين: "فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليَّ من أن أقاتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها"[3]. وكانت بطولته الرّوحيَّة هي أنّه كان يتحرَّك من أجل أن يخترق جسد الكافر بعقله، قبل أن يفكّر في أن يخترقه بسيفه.

علم عليّ(ع) وحركته

ولقد عاش عليّ(ع) عقله الَّذي اتَّسع لعلم رسول الله(ص) كلّه، الَّذي قال فيه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" ، وحرّك ما أعطاه رسول الله من العلم في آفاق جديدة وإيحاءات جديدة وتجارب جديدة، حيث قال: "علَّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب". فلم يكن عليّ(ع) يحفظ علم رسول الله(ص) حفظ الكلمة، ولكنَّه كان يحرّك علم رسول الله في كلّ ما استحدثه الناس من قضايا ومشاكل وتجارب، ولذلك كان يحدِّق في المستقبل من أجل أن يعطي هذا العلم حركيَّته وامتداده ورحابته للمستقبل، لأنّه لم يجد أناساً يفهمون علمه في مرحلته، ولذلك أطلق علمه للأجيال القادمة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "إنَّ ههنا لعلماً جمّاً (وأشار إلى صدره)، لو أصبت له حملة"[6]. ولم يصب له حملة، وكان علمه كلّه لله.

وكانت حركيَّته لله، فلم يتعقّد عقدة ضدّ الَّذين تقدّموه، ولكنَّه أعطاهم في سبيل الله، ولمصلحة الإسلام، كلّ العلم الَّذي يحتاجونه في القضايا الشّائكة الصَّعبة، وكلّ النّصيحة فيما كانوا يستنصحونه به. وكان(ع) في تلك الفترة، وهي من أقسى الفترات الّتي عبّر عنها في الخطبة الشقشقيّة، يلاحق قضايا المسلمين كلّها، ولم يلتفت أو يفكّر، انطلاقاً من رحابة الإسلام في عقله، ورحابة المسؤوليَّة عن الإسلام في رساليته كلّها ومسؤوليته كلّها، بمن الَّذي يحكم المسلمين في الموقع الَّذي يملك شرعيَّته هو، بل كان يفكّر، والمسلمون يخوضون حروباً، والإسلام يتلقّى التحدّيات الثقافية والسياسيَّة والعسكريَّة، كيف يحضن الإسلام كلَّه، وكيف يحضن المسلمين بعقله وفكره وحركته، وإنما قال: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة"، وقال: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة"، وحدِّقوا في كلمة (المصيبة) التي تعبّر عن أحاسيس عليّ(ع) في لهفته على الإسلام، "به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه الّتي إنَّما هي"، في الحسابات الذاتيَّة، "متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السَّراب، أو كما يتقشَّع السّحاب".

وكان(ع) يشعر بأنّه في موقع الخلافة وهو خارجها، لأنَّ الخلافة لم تكن لديه كرسيّاً يجلس عليه، بل رسالة يتحرَّك فيها. ولذلك، كان عليّ(ع) في الأفق الأعلى والواسع والكبير، ومن خلال علوّه، كان يعيش مع الله ابتهالاته كلّها ودموعه كلّها وخشوعه كلّه، وكان يمرّغ وجهه لا جبهته بالتراب، حتى مرّ النبيّ(ص) ذات يوم ليقول له: انهض أبا تراب،‍‍ وكانت أحبّ كناه إليه، كما ورد في السيرة.

حبّ عليّ(ع)

وعندما نتذكَّر عليّاً، فإننا لا نستطيع أن ندخله في الدّهاليز التي حاول الكثيرون أن يدخلوه فيها، لأنّ عليّاً(ع) لم يعرف الدّهاليز في حياته، فلقد كان الرَّحب في عقله، وكانت رحابته تتَّسع وتتَّسع وتضيء وتضيء، حتى قال: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"، فلقد استطاع أن يندمج في بحار المعرفة بالله، حتّى استطاع أن يعرف الله بالمقدار الَّذي يمكن أن يصل إليه البشر، ولم يتقدَّمه أحد في ذلك إلا رسول الله(ص).

من خلال كلّ ذلك، وتأسيساً عليه، لا نملك إلا أن نحبّ عليّاً(ع)، لا من ناحية مذهبيَّة، وللمذهب دوره في إعطاء الصّورة والفكرة، ولكنَّني لا أتصوَّر إنساناً يفهم عليّاً أو يطلّ على آفاقه إلا ويحبّه، أمَّا الذين أبغضوه، فإنهم لم يلتقوا بالله، لأنَّ من يحبّ الله، لا بدَّ من أن يحبّ عليّاً، لأنَّ عليّاً(ع) أحبَّ الله ورسوله، وذلك هو قول رسول الله(ص): "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله"، وذلك هو قول عليّ(ع) للنّاس في خلافته: "ليس أمري وأمركم واحداً، إنّني أريدكم لله"، فليس لي عمل معكم من خلال ما تملكون مما يملكه النّاس من امتيازات، بل عملي معكم هو عملي مع الله، لأقرّبكم إليه، ولأرفعكم إليه، ولأجعلكم تعرفونه أكثر، وتعبدونه أكثر، وتطيعونه أكثر، وتحبّونه أكثر، وتقومون بمسؤوليَّتكم إزاء الله أكثر.

كان(ع) وحده، ولكلِّ صحابيّ ممن سار في الخطّ الرّساليّ فضله.. كان وحده الَّذي عاش رسول الله(ص) كلّه، حتى إنَّ طفولته استطاعت أن تختزن شباب رسول الله(ص)، ولذلك كبر عليّ(ع) في طفولته فكان شابّاً، لأنَّ رسول الله أعطاه شباب عقله وروحانيَّته وقلبه، حتى إذا بعث الله رسوله بالنبوَّة، كان عليّ(ع) أوّل من أسلم، لا من الصّبيان، بل من الشبّان والرّجال، فلقد كان جسده جسد الصّبيّ، ولكنّ عقله كان عقلاً شابّاً حيّاً متحركاً.

ولقد قيل له، كما نقل في بعض الرّوايات: "هل استشرت أباك عندما أسلمت؟ فكان جوابه(ع): إنَّ الله لم يستشر أبي عندما خلقني، فهل أستشير أبي إذا كنت أريد أن أسلم لله؟‌". وكان العقل الشّابّ، وشباب عقله هو ما تعلّمه من شباب عقل رسول الله(ص). وقد قال(ع) في (نهج البلاغة) عن ذلك: "يرفع لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به".

عليّ الحاضر أبداً

لذلك ـ أيّها الأحبَّة ـ لا تدخلوا عليّاً في خلافاتكم، ولا تحتجّوا لعليّ بحديثٍ هنا وحديثٍ هناك، فعليّ(ع) أكبر من الاحتجاج، لأنَّ النّظرة إلى عليّ(ع) في عقله وروحانيّته وقضائه كلّه، تعطينا الفكرة أنّه هو وحده الذي يملك أن يقود المسيرة الإسلاميّة بالإسلام كلّه. وكان الآخرون ممن تقدَّموه وممن تأخّروا عنه، يحتاجون إلى أن يسألوا عالماً هنا وعالماً هناك عن حكمٍ إسلاميٍّ هنا وعن حكمٍ إسلاميٍّ هناك في زمانه، وهذا ما جاء على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي، مخترع علم العروض، وصاحب أوّل قاموس في اللّغة: "احتياج الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكلّ".

إنّنا ـ أيّها الأحبّة، لا نشعر بأنّ عليّاً(ع) غائب عنّا، وإنني لأنقل إليكم تجربتي في ذلك، فلم أستطع أن أشعر في حياتي كلّها بأنَّ عليّاً(ع) ميت مع الأموات، بل هو أكثر حياةً من الكثير من الأحياء، فهو يعيش معنا، لأنّ عقله وروحانيّته وفكره لا يزال معنا، لذلك، فإنّ الانتماء إلى علي(ع) يكلّف كثيراً من عقلٍ نحمله من خلال عقله، ومن قلبٍ نعيشه من خلال سعة قلبه، ومن خطٍّ مستقيمٍ نتحرّك فيه من خلال خطّه المستقيم، فلنرتفع إلى عليّ حتى نرتفع إلى الإسلام.

تواضع عليٍّ لله

ومع ذلك، كان عليّ(ع) على جلالة قدره وسموّ مكانته وعظيم منزلته، المتواضع لله. وتعالوا لنقرأ بعض أدعيته الّتي كان يدعو الله بها، لنعرف كم يعيش عليّ(ع) التّواضع في نفسه، فهو يقول: "اللّهمّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك"، يا ربّ، عندما يستوحش أولياؤك في غربتهم الروحيّة كلّها، وعندما يعيشون في ظلمات الواقع، فإنهم يتطلَّعون إليك ويأنسون بك، وربما يأنسون بمن يملك قربى منهم، ولكن لا أنس كالأنس بك ـ يا ربّ ـ لأنك الفرح كلّه، ولأنك السرور كلّه، فأية سعادة تفيض على أوليائك عندما تطلّ عليهم برحمتك وتؤنسهم بلطفك؟!

"وأحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك"، وهم الَّذين يعيشون حضورك كما لا يعيشون حضور أحد، ويتحسَّسون كفايتك في كلّ ما أهمّهم، وفي كلّ ما احتاجوه من أمور الدّنيا والآخرة. وفي الدّعاء عن الإمام زين العابدين(ع): "يا من يكفي من كلّ شيءٍ ولا يكفي منه شيء"، فكيف يتصوَّرونك؟

"تشاهدهم في سرائرهم"، والسّرائر مغلقة في صدورهم، ولكنَّهم يشعرون بأنَّك تشاهد سرائرهم وأنت تشاهدهم في جميع وجودهم، "وتطَّلع عليهم في ضمائرهم"، فيما يضمرونه، فيحسّون بحضورك في قلب السّريرة، ويحسّون برقابتك عليهم في حركة الضَّمير، "وتعلم مبلغ بصائرهم"، فيما يضمرونه من فكر، ولذلك يحذرون أن لا يكون فكرهم فكراً منحرفاً عمّا أردته لعبادتك من الحقيقة في الفكر، "فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة"، لأنَّ قلوبهم تعيش الحبّ، وما أشدَّ لهفة الحبيب لحبيبه! "إن أوحشتهم الغربة"، فعاشوا في غربة الرّوح، أو غربة الوطن، أو غربة الأهل، "آنسهم ذكرك، وإن صبّت عليهم المصائب" من هنا وهناك، وكاد اليأس يزحف إليهم، وكاد السّقوط يطبق عليهم، "لجأوا إلى الاستجارة بك، علماً بأنَّ أزمَّة الأمور بيدك"، لأنَّك تقدر على ما لا يقدر عليه غيرك، "ومصادرها عن قضائك"، وقضاؤك لا يجري إلا بالخير لأوليائك.

"اللّهمّ إنّي فههت عن مسألتي"، فلم أستطع أن أعبّر عمّا أسألك عنه، "أو عميت عن طلبتي"، فعشت في الحيرة الَّتي تجعلني لا أعي جيّداً، ولا أبصر ما أطلبه منك، "فدلّني على مصالحي"، اجعلني يا ربّ أدرك ما يصلحني، حتى لا أطلب منك شيئاً يمكن أن يفسدني، ووجِّه ـ يا ربّ ـ مطالبي، وأعط مسائلي، وعِ الحقّ كلّه، حتى لا أطلب منك إلا ما يصلح أمري في ديني ودنياي، "وخذ بقلبي" عندما ينبض ويخفق بحبّ هذا وبغض ذاك، فلا تجعله يعيش فوضى العاطفة أو متاهات المشاعر والأحاسيس، ولكن ـ يا ربّ ـ أرشد قلبي حتى يحبّ الحبّ الّذي ترضاه، وحتى يبغض البغض الذي ترضاه، "وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكرٍ من هداياتك"، فأنت الّذي تهدي عبادك كلّهم إلى الخير، "ولا ببدعٍ من كفايتك"، عندما تكفي عبادك ما يثقلهم في حياتهم.

"اللَّهمَّ احملني على عفوك"، فلقد أخطأت ـ يا ربّ ـ في القيام بحقِّك، والأولياء وهم يطيعون الله ويعبدونه ويحبّونه، يشعرون بالتّقصير، ويطلبون من الله أن يعفو عنهم تقصيرهم من خلال طموحاتهم فيما يريدون أن يقوموا به من حقوق الله، ولا يستطيعون ذلك من خلال قدرة البشر، ولذلك، فإنهم يطلبون عفواً لا عن ذنب، ولكن عفواً عن قصور في حركة الطّموح: "ولا تحملني على عدلك يا ربّ".

موقف عليّ من المديح

وتعالوا نتطلّع إلى عليّ(ع) في تواضعه له سبحانه وتعالى، فلقد التقى ذات يوم قوماً مدحوه في وجهه، ونحن عندما نسمع المديح ننتفخ، وتتضخّم شخصيَّتنا، ونبحث عن لقبٍ أكبر وأعظم، لأنَّ عندنا عقدة ضعف نشعر بأنها تتنفَّس من خلال الكلمات الّتي نسمعها، فالكثيرون منّا لا يستطيعون أن يسيروا على أقدامهم، بل يحتاجون إلى عربة من الألقاب، نتيجة عقدة ضعف لا عقدة قوّة. لذلك، قال عليّ(ع): "اللّهمّ إنَّك أعلم بي من نفسي"، لأنّك تحيط بنفسي بما لم أحط بها، ولأنَّ هناك في نفسي الكثير من الأسرار الّتي لم أكتشفها، ومن العيوب التي لم أطَّلع عليها، ولذلك فأنا لا أستعير معرفتي بنفسي من النّاس، ولكني أريدك ـ يا ربّ ـ وأنت تعلم ما في نفسي في العمق، أن تدلّني على نفسي، فمنك أريد أن أعرف نفسي.

"وأنا أعلم بنفسي منهم"، لأنني جلست مع نفسي كثيراً، وحدّثت نفسي كثيراً، وحاسبت نفسي وجاهدتها كثيراً، حتى اطّلعت على آفاقها كلِّها بقدر ما أستطيع من المعرفة بنفسي، خلافاً للّذين لا يجلسون مع أنفسهم، بل يجلسون مع غيرهم أكثر من جلوسهم مع أنفسهم، ولذلك فهم لا يفهمون أنفسهم، وتلك هي مشكلة الكثير من النّاس الّذين لا يعرفون أنفسهم، ولذلك يستطيع الخدّاعون والغشّاشون والمضلّون أن يضلّوهم عن الحقّ عندما يقدّمونه لهم في صورة الباطل.

"اللّهمَّ اجعلنا خيراً مما يظنّون"، إنهم يتحدَّثون عنّي بالخير، وربما يتصوّرون فيَّ درجةً محدَّدةً من الخير، فإذا كانت هذه الدّرجة الّتي يتصوَّرونها فيّ هي الحقيقة، فارفعني درجات أكثر، وساعدني ـ يا ربّ ـ على أن أرتفع أكثر، وأن أجعل نفسي تنطلق في مدارج الكمال أكثر، "واغفر لنا ما لا يعلمون"[15]، ونحن نعرف أنَّ عليّاً(ع) كان في ملكاته كلّها العصمة كلّها، ولكنّه يتواضع لله.

رفض الامتيازات الظّاهريَّة

ونقرأ نصّاً آخر يتحدَّث فيه عن تواضعه لله: "اللّهمّ إنّي أعوذ بك من أن تحسِّن في لامعة العيون علانيتي"، أعوذ بك ـ يا ربّ ـ من أن تلتمع عيون النّاس وهم يحدّقون بي كيف أتحدَّث، وكيف أتصرَّف، وكيف أسلك، وكيف أعيش معهم في هذه العلانية الّتي تبدو أمامهم، فيرون فيها الحسن كلّه والخير كلّه، فتلتمع عيونهم دهشةً وإعجاباً عندما يحدّقون في ذلك كلّه، "وتقبّح فيما أبطن لك سريرتي". لا تجعل ـ يا ربّ ـ علانيتي مخالفة لسريرتي، لتكون علانيتي التي أظهرها حسنة، وسريرتي التي أبطنها سيّئة، بل اجعلها يا ربّ منفتحةً على الانسجام على علانيتي، "محافظاً على رئاء النّاس من نفسي بجميع ما أنت مطّلع عليه منّي، فأبدي للنّاس حسن ظاهري، وأفضي إليك بسوء عملي، تقرّباً إلى عبادك، وتباعداً من مرضاتك".

إنَّ عليّاً لا يتحدَّث في ذلك عن عليّ الإمام والوليّ، لأنَّ عليّاً كان باطنه أكبر وأرفع وأصفى وأحسن من ظاهره، وإن كان ظاهره قد أخذ بالألباب وفرض الهيبة، ولكنّ النّاس كانوا يعرفون من عليّ(ع) شيئاً محدوداً، وكان باطن عليّ(ع) ينفتح على آفاقٍ لا ينفتح عليها الناس ولا يكتشفونها، لأن سرّ عليّ مع الله كان في عمق العمق، ولكنّ عليّاً(ع) يتحدَّث عن الإنسان الّذي يختلف ظاهره عن باطنه، وعن المرائي الّذي يقدِّم نفسه للنّاس بصورة حسنة، ولكنَّه يختزن في داخل شخصيّته صورة سيئة.

ولقد لاحظنا أنّ عليّاً(ع) كان يرفض الامتيازات الظّاهريّة، ففيما ينقله السيّد الرضي في (نهج البلاغة): خرج حرب بن شرحبيل الشّامي، وكان من وجوه قومه، يمشي معه وهو(ع) راكب، فقال(ع): "ارجع، فإنّ مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلّة للمؤمن"، فأنا لا أقبل أن تمشي وأنا راكب، فأنت مؤمن، وهذا مظهر للذلّة في المؤمن، وهو نوع من أنواع الفوقيّة، كما أنَّ ذلك عندما ينطلق كسنّةٍ في الولاة وهم يشعرون بانسحاق النّاس أمامهم، فإنّه مما قد يفتنهم ويضخّم شخصيَّتهم ويشعرهم بالفوقيّة على الناس.

وقال(ع)، وقد لقيه عند مسيره إلى الشّام دهاقين الأنبار ـ وهم زعماء الفلاحين في العجم ـ فترجّلوا له ـ وهو راكب ـ واشتدّوا بين يديه في عمليّة انسحاق وتواضع خائف، فقال: "ما هذا الّذي صنعتموه؟"، فقالوا: "خلقٌ منّا نعظّم به أمراءنا"، أي أنَّ هذه هي تقاليدنا في تعظيم أمرائنا، فقال: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم"، فلو ترجَّلتم أو ركبتم، ما يزيد ذلك بي في شأن من شؤوني، "وإنّكم لتشقّون بذلك على أنفسكم في دنياكم"، فهذه التقاليد التي تسقط نفوسكم، تتعبكم وتتعب المجتمع والواقع، "وتشقون به في آخرتكم"، لأنكم تعظّمون الظّالمين والطّغاة والمستكبرين، وسيحاسبكم الله على هذا التَّعظيم.

"وما أخسر المشقَّة وراءها العقاب"، فتعب وراءه الجنّة يستحقّ منّا أن نجهد أنفسنا، ولكن ما بالكم بتعبٍ يصل إلى درجة المشقَّة، ويواجه الإنسان عليه العقاب! "وأربح الدّعة معها الأمان من النّار".

برنامج أخلاقيّ للولاة

وفي ختام الحديث، ننقل هذا النصّ الّذي يعطي فيه الإمام أمير المؤمنين(ع) برنامجاً للولاة، يعلّمهم كيف يتواضعون، وكيف يعيشون ويتحركون مع النّاس، كما لو كانوا واحداً منهم، كما قال (ضرار) في وصفه لعليّ(ع) عندما طلب منه معاوية ذلك: "كان فينا كأحدنا". ومع ذلك، كانوا يتطلّعون إليه وهو في حياته العادية معهم، فلا يملكون الكلام معه، هيبةً له لما عاشوه في أنفسهم من الإحساس بعظمته.

يقول في خطبةٍ له وهو في موقع الخلافة: "وإنَّ من أسخف حالات الولاة"، وكلمة (أسخف) تمثّل سخافة الولاة الّذين يبحثون عن التّعظيم، وهم يتصوّرون أنّ ذلك يمثّل مواقع العظمة عندهم، "عند صالح النّاس، أن يظنّ بهم حبّ الفخر ـ أن يفخروا بما عندهم من جاهٍ ومن سلطةٍ وما إلى ذلك ـ ويوضع أمرهم على الكبر"، أي في مواقع الكبر الّتي يتميّزون بها على الناس، "وقد كرهت أن يكون جال في ظنِّكم أنّي أحبّ الإطراء واستماع الثّناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحبّ أن يقال ذلك"، ولست أحبّ، ولكن لو كان ذلك في نفسي، "لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء"، فالله هو الّذي يجب أن يحمد ويمدح ويثنى ويطرى عليه، لأنّه أهل لذلك كلّه، ولا أريد أن أكون في هذا الموقع، "وربما استحلى النّاس الثناء بعد البلاء"، بعدما تتقدّم التجارب، "فلا تثنوا عليّ بجميل ثناءٍ لإخراجي نفسي إلى الله".

إنني لست مشغولاً بما يقوله النّاس عني، ولكنّي مشغول بحقوق الناس كيف أقوم بها، وحقوق الله كيف أحافظ عليها، "وإليكم من التقيّة في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بدَّ من إمضائها، فلا تكلّموني بما تكلّمون به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا منّي بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة"، بحيث تخافون الكلام معي كما يخاف النّاس الحديث في حضرة أهل السّلطة والسّيف، "ولا تخالطوني بالمصانعة"، أي بالمجاملة والمداهنة، بل كونوا صرحاء معي، "ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي"، فإذا رأيتم أنَّ هناك حقّاً قصّرت فيه، وتريدون أن تقولوه لي، فلا تتصوّروا أنني أستثقل ذلك، "ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقَّ أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه"، فالّذي لا يبدي استعداداً لسماع كلمة الحقّ وكلمة العدل، كيف يمكن أن يقوم بالحقّ وبالعدل، فكلمة الحق أخفّ عندما يتحرّك الإنسان بالحقّ، وإنّ كلمة العدل أخفّ من حركة العدل في تنفيذه في الواقع.

"فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ"، وهو هنا يدعوهم إلى أن ينقدوه، "أو مشورةٍ بعدل، فإنّي لست بفوق أن أخطئ" في إنسانيّتي، وإن كان عليّ(ع) فوق أن يخطئ في عصمته، "ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي"، وقد كفاه الله ذلك كلّه، "فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربٍّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنَّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة من العمى".

التّوازن في حبّ عليّ

ذلك هو عليّ(ع) بسموّه كلّه.. عليّ الّذي لا يحتاج إلى أيّ كلمةٍ أخرى لكي تنحني بعقلك أمام عقله، وبروحك أمام روحه، وعلينا ـ أيّها الأحبّة ـ أن نعيش مع عليّ(ع)، ونتحرّك في خطّه بالتّوازن في حبّه، فقد قال وهو يشير إلى الناس في موقفهم معه: "هلك فيّ رجلان؛ محبّ غال، ومبغض قال". وقال: "سيهلك فيَّ صنفان، محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير النّاس فيَّ حالاً النّمط الوسط، فالزموه"، فلا تعلوا بي فوق بشريّتي، وافهموني في نطاق ما أنا فيه.

ويقول(ع): "لو ضربت خيشوم المؤمن"، وهو أقصى الأنف، "بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني"، لأنَّ الإيمان يفرض عليه أن يحبّ عليّاً(ع)، فهو يمثّل سرّ الإيمان في معانيه كلّها، "ولو صببت الدّنيا بجمّاتها"، أي بكلّ ما فيها، بجليلها وحقيرها، "على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني"، لأنَّ المنافق يختزن في داخل نفسه كلّ هذا السّواد الروحيّ، وكلّ هذه الظّلمة النفسيَّة، والظّلام لا يمكن ـ بحال ـ أن يحبّ النور.

"وذلك أنّه قضي، فانقضى على لسان النبيّ الأمّيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: يا عليّ، لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق". والله تعالى يقول: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.

وما أحسن ما قاله الشّاعر المسيحيّ بولس سلامة:
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي             واخشعي إنّني ذكرت عليّاً


ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


/110
https://taghribnews.com/vdch-knki23nwxd.4tt2.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز