تاريخ النشر2012 7 August ساعة 15:58
رقم : 103998
عضو تجمّع العلماء المسلمين الشيخ حسين غبريس لـ "تنا"

ليلة القدر هي أوج الرّحمة الإلهية

"خاص تنا" - مكتب بيروت
الرسول (ص):من كان منكم ملتمساً ليلة القدر، فليلتمسها في العشر الأواخر، فإن ضعف أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي
الشيخ حسين غبريس تحاوره الزميلة ياسمين مصطفى
الشيخ حسين غبريس تحاوره الزميلة ياسمين مصطفى
هو شهر الله وفرصة عباده لبناء إستراتيجية شاملة لتحركاتهم وأعمالهم في الحياة الدنيا. في شهر رمضان الكريم، تنتفض الروح الإنسانية لتزيل عنها غبار المعاصي، ويتنفس الإنسان الصعداء لتنكسر كل الحواجز التي تقف حائلاً بين وصال العبد والمعبود.. هو نافذةٌ لانعتاق الروح من كل الرواسب المادية وعروجها للملكوت الأعلى. 

أما الفرصة الذّهبية فيه، فهي ساعاتٌ قليلة تُفتح فيها أبوابُ الرحمة الإلهية المطلقة على مصراعيها، ساعات قليلة من ثلاثمئة وخمس وستون ليلة، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (الدخان/٤)، وفيها يُكتب كل محتوم للسّنة التّالية، من خير أو شر، طاعة أو معصية، وأرزاق.. فلنغتنم الفرصة ونتوجّه بإخلاص لنيل الغفران كما وعدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال:«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر الله ما تقدّم من ذنبه»  تفسير مجمع البيان ١٠/٤٠٩ .

ولمعرفة مكانة ليلة القدر عند الله سبحانه وتعالى، وتأثيرها على نفسية وروحية الإنسان كذخر يكفيه طيلة عام كامل، إلتقينا مع عضو تجمع العلماء المسلمين في لبنان الشيخ حسين غبريس الذي تحدّث لموكالة أنباء التقريب عن هذه الليلة المباركة، وكيفية تحصيل الرحمة فيها.

١- بداية سماحة الشيخ يقال أن شهر رمضان هو شهر التّمحيص والطّهور، فما معنى ذلك؟
التمحيص هو أن يمحِّص الإنسان في أعماله ويحاسب نفسه عليها، وهو درجة أسمى من التوبة أي أن يصبح من المستحيل أن يعود الإنسان الى سابق عهده من ارتكاب المعاصي. أما الطّهور فيعني أن يتطهر هذا الإنسان من الذنوب ليعود كما ولدته أمه، وبإمكان الصّائم الذي يخرج من شهر رمضان، أن يجلس مع نفسه احدى عشر شهراً ويصل الى نتيجة، ويكتشف أنه فعلا خرج من المعاصي والمنكرات، فيُطهّر نفسه ويعود الى الفطرة الاولى. 

ومن هنا، نقول أنّ على المسلم أن يعود الى نفسه ويرى الواقع ويقول "كما كنت اقوم بالمعصية هذه، فما المطلوب لعدم العود إليها؟". وأنصح الجميع بإقامة لائحة في شهر رمضان تحوي المعاصي التي يرتكبها خلال اليوم أو الشهر أو السنة، يكتبون كل المعاصي ويتركون صفحة مقابلها، عندما يأتي شهر الصوم يعملون على إزالتها.

٢-كيف يمكن لليلة القدر أن تكون "ليلة ذهبيّة"؟
العشر الأواخر كلها تشابه ليلة القدر، هذه مسالة تربوية لدى الإنسان، أي ترويض نفسه في اللّيالي العشر وصولاً إلى ليلة القدر، والتي تعتبر ذروة هذا الشهر الفضيل. وإذا أصاب أحدنا ليلة القدر، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. ومن لم يتوفّق لها، فلينتظر للعام المقبل أو أن يشهد عرفة.

٣- تقول الآية الكريمة "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" (البقرة/١٩٧)، فما هو الزاد المقصود؟
إنّ الله سبحانه وتعالى لم يطلب منّا الشيء الكثير أبداً، فلو اكتفى البعض في هذه الليلة بدعاء من أدعية عديدة، حتى لو جلس الإنسان يتفكر في رحمة الله فتلك عبادة حتى من لا يملك الصبر على قراءة الأدعية الطويلة، فأنا أدعوه الى التّفكير في جزء من هذه اللّيلة حيث أنّ ملايين من القلوب العاشقة تحيي هذه الليلة في كل بقعة من بقاع الأرض، يعبدون فيها الله تعالى، وكم من الملايين يبكون تضرعا لله عزّ وجلّ، فسيشعر أنّه مساوٍ لهؤلاء النّاس. وبالتّالي هي عملية تربويّة تساعده على ترويض نفسه لتحصيل الأجر المطلوب. 

٤- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من كان منكم ملتمساً ليلة القدر، فليلتمسها في العشر الأواخر، فإن ضعف أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي" مستدرك الوسائل، ج٧، ص٤٧٦. هل هناك من مقدمات في الأيام السّابقة لنيل الموفقية في هذه الليلة؟
النّاس دائماً تحتاج إلى طرح مقبول وأن نطرح الأمور هوناً هوناً على قاعدة أن هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق. إذاً حتى الذين فاتهم اغتنام الفرص في اللّيالي السّابقة من شهر رمضان، يمكن أن تكون الليالي العشر الأواخر وخصوصا ليلة القدر محطة ليتأملو كيف يستطيعون أن يخرجوا أنفسهم من العبث والمعاصي التي لتكون هذه الليلة وقفة خشوعٍ تأخذ بأيديهم إلى رحمة الله الواسعة. 

٥- الإمام جعفر الصّادق عليه السلام يقول "نزلت التّوراة في ستّ مضت من شهر رمضان، ونزل الإنجيل في إثني عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ليلة ثماني عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر" الفروع من الكافي، ج٤، ص١٥٧.
 من أم الكتاب واللوح المحفوظ الى عالم الدنيا، ما هي دلالة هذا الأمر في ظل التّفسيرات التّي تقول أن القرآن نزل تدريجياً، فيما ترى تفسيرات أخرى أنه نزل نزولاً معنوياً بصورة دفعية على قلب النبي محمد ص؟
 

بسم الله الرحمن الرحيم " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (طه/١١٤)"، وفي آية أخرى 
" وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (الإسراء/١٠٦)". 

إن كل الديانات السماوية جاءت كتمهيد للدّين الإسلامي الحنيف وكانت على خُطى الدّين الإسلامي. وفي هذا الإطار نحن متّأكدون من نزول القرآن بشكل تدريجي على ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشر مكّية وعشرٍ منها مدنية، أي أثناء مكوث النّبي ص في مكّة، وهذه السّور نزلت لبناء العقيدة. 

والمنطق البشري يقتضي أن ينزل القرآن نزولاً تدريجياً كي يكون في مقدور النّاس تقبّله. ومن هنا نقول إنّ نزول القرآن في ليلة القدر الى عالم الدّنيا لا يتنافى مع حقيقة نزوله تدريجياً، أي أنّه نزل على النّبي صلوات الله عليه وآله دفعة واحدة ولكنه جاء على دفعات لعامة الناس. 

٦- تقول الآية الكريمة في القرآن، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (الشورى/٢٥). ما معنى التوبة الى الله تعالى في ليلة القدر؟
لنذكر قصة من عهد الامام الحسين، عن الحر الرياحي الذي أرعب الاطفال والنساء من اجل منع الحسين وأهله من الوصول الى الكوفة، عندما جاء الحر الى الامام يسأل هل لي من توبة فقال الامام إن تبت تاب الله عليك، بهذه البساطة. 

هذا يعني أن ذروة المعاصي التي يرتكبها الانسان في حياته يمكن أن تُغتفر وتُختزل في كلمة واحدة هي التوبة النصوحة الفعلية أي عدم العود الى سابق العهد بالمعاصي. 

وهناك الكثير من الآيات والروايات التي تتحدث عن التوبة، "إن الله لا يغفر اأن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشار"، "إن الله يغفر الذنوب جميعاً" أي أن التوبة ليست أمراً تعجيزياً وهي في متناول الجميع وليلة القدر هي الفرصة اللامعة الفريدة للانسان حيث أبواب الجنة مفتوحة والاعمال مقبولة وهي ليست حكراً على أحد من العالمين.

٦- يذكر القرآن الكريم، " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (الدخان/٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (الدخان/٤). ويقول الإمام محمد الباقر عليه السلام: يقدر في ليلة القدر كلُّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل؛ من خير أو شر، أو طاعة أو معصية، أو مولود أو أجل، أو رزق؛ فما قدّر في تلك الليلة وقضي، فهو من المحتوم ولله فيه المشيّة. بحار الأنوار، ج٩٤، ص١٩. 

فما معنى تقدير الحق تعالى لأمور العباد في هذه الليلة وهل يعني ذلك سلب الانسان لإرادته؟
الرّوايات التّي تؤكّد التّرابط بين العبادة والرّزق كثيرة، وهنا نقول حتماً في ليلة القدر يُقسم كل شيء وليس فقط الأرزاق، وبالعودة إلى روايات الأئمة عليهم السّلام يعين في هذه اللّيلة مقادير العالم والإنسان من دون أن يعني ذلك سلب الإنسان إرادته في الإختيار بتاتاً. ولذلك حتماً هناك أعمال وأمور تتبدل عن إخلاص الانسان لله عزّ وجلّ فيدفع الله تعالى عنه بلاء كان سيصيبه ويزيد في رزقه وراحته.

٨- إذاً هل نستطيع الإستنتاج أنّ كفّة الرّحمة الإلهيّة تعلو كفّة العدل الإلهي في هذه اللّيلة المباركة؟
في ليلة القدر تكون النّافذة إلى رحمة الله عزّ وجلّ مشرّعة، وباب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، من هنا تأتي قدسيّة هذه اللّيلة. 

حيث أنّ هناك الرّحمة والرّحمة فقط، والإنسان بطبعه وبطبيعة حاله يتأمّل رحمة الله عزّ وجل وليس عدله، كما أنه عز وجل يتعامل معنا على أساس رحمته الواسعة المطلقة، لذلك يجب إن نتحلّى بالتّفاؤل ونتخلى عن نظرة التّشاؤم في مجال الرحمة الالهية، فالله عزّ وجلّ عندما أوجد الرّحمة، أسمى نفسه الرّحمان الرّحيم لا ليوصد هذا الباب على أحد، لكن بعض النّاس هم الذين يوصدونه على أنفسهم بالتّشاؤم والابتعاد عن الباري. ولنسع أن لا نكون كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر/١٩). 

إعداد وحوار: ياسمين مصطفى
https://taghribnews.com/vdcjhtevouqeyhz.3ffu.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز