سياسات سورية قضّت مضاجع أميركا، التي رأت في الحراك العربي فرصة للانتقام والتخلص من هذا الذي تسبب لها مع حلفائه من المقاومين الذين رفعوا السلاح بوجه اسرائيل ومن الدولة التي شكلت القاعدة - المرتكز والعمق الاستراتيجي لمحور المقاومة والممانعة، تسبب لها بخسائر استراتيجية هامة ليس اقلها تعثر في ارساء نظام عالمي قائم على الاحادية القطبية.
شارک :
أمين حطيط
منذ أن قررت أميركا الرد على خسارتها «المفترضة» في بلدان عربية أطيح فيها ببعض من سمتهم اسرائيل كنوزاً استراتيجية لها، توجهت الى سورية لاسقاطها بصفتها حلقة الوسط في محور المقاومة والممانعة، لتعويض ما تخشاه من خسائر، ولتنتقم من النظام الذي بات بمواقفه الوطنية والقومية يشكل «عقدة أميركية» بعد أن أثبتت الوقائع أنه:
١) النظام الرسمي العربي الوحيد من الدول المحيطة باسرائيل الذي لم يوقع معها عقد تنازل وإذعان (لبنان وقع اتفاق ١٧ أيار ١٩٨٢ ثم اضطر الى الغائه بضغط لبناني شعبي، ودعم سوري).
٢) الدولة العربية الوحيدة التي استمرت في دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية اللتين تمكنتا من تحرير الارض في الجنوب وقطاع غزة، وأفشلتا اسرائيل في حربها عليهما بين العام ٢٠٠٦ و٢٠٠٩، واستمرت حاضنة للقيادات الفلسطينية المقاومة، ومشكلة عمقاً استراتيجياً ولوجستياً للمقاومة في لبنان.
٣) الدولة التي دعمت المقاومة العراقية في وجه الاحتلال الاميركي، واحتضنت اكثر من مليون عراقي، لجؤوا الى سورية على موجتين واحدة سببها ظلم الحاكم وثانية تلتها وسببها الاحتلال الاميركي وما تلاه من انهيار الامن والاقتصاد.
سياسات سورية قضّت مضاجع أميركا، التي رأت في الحراك العربي فرصة للانتقام والتخلص من هذا الذي تسبب لها مع حلفائه من المقاومين الذين رفعوا السلاح بوجه اسرائيل ومن الدولة التي شكلت القاعدة - المرتكز والعمق الاستراتيجي لمحور المقاومة والممانعة، تسبب لها بخسائر استراتيجية هامة ليس اقلها تعثر في ارساء نظام عالمي قائم على الاحادية القطبية.
على هذه الخلفية إستغلت أميركا حاجة السوريين الى تطوير نظامهم واصلاحه بما يتناسب ومقتضيات العصر، ووضعت خطة -عدوان محكمة من اجل اسقاط النظام بزمن لا يتعدى الاشهر القليلة (من ٣ الى ٤ اشهر حسب الخطة)، وتصورت انها خطة مضمونة النتائج من خلال ما حشدت لتنفيذها من الطاقات التي توفرها الكيانات السياسية العربية والاقليمية والدولية، التي سخرت كل ما تملك من مال واعلام ونفوذ سياسي وقدرات اقتصادية ودبلوماسية.
وزجت بها في الميدان لتنفيذ المعركة الكونية ضد سورية، ثم إنها جمعت حفنة من السوريين الخارجين على وطنهم ودينهم والمرتبطين – بمعظمهم- باجهزة المخابرات الغربية فشكلت منهم «مجلساً سياسياً سورياً» ووعدته بتسليمه السلطة بعد أن التزم امامها بتحقيق الحلم الاميركي في سورية وعبرها الى المنطقة كلها.
لكن سورية – بشعبها وجيشها وحكمها - خيبت الآمال الاميركية تصدت للعدوان الذي تسبب ولا يزال، بخسائر سورية فادحة في الانفس والاموال وعلى اكثر من صعيد، لكنه لم يتمكن من تحقيق الاهداف الاميركية رغم ان اميركا لم توفر وسيلة مهما كانت بشعة أو غير مشروعة أو غير أخلاقية إلا إستعملتها، وأن لائحة الوسائل والسلوكيات هذه تطول إذا شئنا التعداد.
لقد رفعت أميركا عبر أدواتها من مجلس ما كان يسمى «الجامعة العربية»، او «مجلس اسطنبول السوري» أو حتى على لسان مسؤوليها بدءاً من الرئيس الاميركي الى آخر موظف لديها يتاح الحديث له عن «الأزمة السورية» رفعت شعاراً واحداً أو هدفاً واحداً في سورية هو: «اخراج الرئيس بشار الأسد من موقعه، وإسقاط نظام الحكم الذي يقود» ولفقوا الأمر أو زينوه بالقول انه سيكون استجابة لارادة الشعب السوري، ولما كانت نتائج استطلاعات الرأي التي يجرونها خفية تأتي لغير مصلحتهم فانهم كانوا يخفونها أو يتجاهلونها.
ومن المؤكد الآن أن أميركا حددت معياراً واحداً لانتصارها في سورية هو الاطاحة بالرئيس بشار الأسد، ورأت في كل ما عدا ذلك هزيمة لها لا يمكنها القبول به بما في ذلك الاصلاح والتطوير الذي تجريه الحكومة السورية بقيادة الرئيس مهما كانت مستوياته.
ومن أجل ذلك أمرت دميتها المسماة «مجلس وطني سوري» برفض الحوار لحل الازمة والتمسك بشرط «اعتزال الرئيس»، كما انها امرت دميتها الأخرى المسماة جامعة عربية، - بعد ان ترأستها الدويلة الاداة لاميركا والصديقة الحميمة لإسرائيل (قطر) - امرتها بوضع مبادرة مفتاحها الاساس تنازل الرئيس عن موقعه وتسليم صلاحياته لغيره، وهكذا نجد ان كل الخطط التي دخلت فيها أميركا أو وضعتها مع حلفاء لها وكلفت أدواتها بتنفيذها، كانت تنطلق من قاعدة مفتاحية واحدة هي مغادرة الرئيس لموقعه.
ب- بهذا المعيار دخلت اميركا الى جنيف، حيث انعقد اجتماع لمجموعة العمل حول سورية، وحاولت وانطلاقاً من مبادرة انان السلمية – التي لا تملك حاليا طريقاً علنية سواها – حاولت ان تمرر هدفها وتفرضه على المتحلقين حول طاولة البحث بالازمة السورية – بعد ان اشترطت استبعاد ايران عنها لانها لا يمكنها ان تجمع في السلوك بين سعي لاسقاط فقرة من فقرات عامود المقاومة والممانعة، وتعوم الفقرة الأخرى - دخلت اميركا الى المباحثات وفي ذهنها ما يلي:
١) عجزها عن تحقيق انتصار في سورية بالوسائل العسكرية وبأي وجه من الوجوه سواء عبر مجلس الامن اوخارجه، بالجيوش التقليدية اوبالارهاب وحرب العصابات.
٢) ثقتها بأن الحل السلمي الذي يقوده كوفي انان سيكرس ارادة الشعب السوري الرافضة للاملاءات الغربية بتعيين حكام عملاء لا يعرفون من الشأن السوري – معظمهم منقطع عن سورية منذ أكثر من عقد من الزمن – إلا أمراً واحداً هو كيف سيحصدون المغانم ويطيعون أسيادهم ويريحون إسرائيل بإعطائها ما رفض الرئيس الأسد اعطاءه (الأب ثم الابن).
٣) حاجتها الى صورة وردية تروج فيها لنجاح موهوم لمسعاها والقول بانها في الطريق الصحيح باتجاه الهدف وخاصة أنها تمر في فترة حساسة على الصعيد الداخلي – انتخابات الرئاسة – تمنعها من الظهور في مظهر المهزوم في الخارج.
لكن طاولة البحث في جنيف خيبت الطموحات والآمال الاميركية كما سبق أن كذبها الميدان في سورية، هنا واجهت أميركا رسمياً وواقعياً فشلاً لا تستطيع إحتماله بعد أن عجزت عن الحصول على شيء حقيقي يرضيها، ما إضطرها إلى اللجوء هي وحلفاؤها الفرنسيون إلى التلفيق وتأويل مواقف أونصوص تم التوافق عليها، تأويل يبعدها عن الحقيقة من أجل أن تحقق أمرين:
- الاول: شن حرب نفسية تهدف الى احباط الحكم في سورية والتأثير على معنوياته واقتياده الى الانهيار الادراكي بعد تصوير الامر وكأن كل القوى المؤثرة في العالم باتت ضده وعليه ان يرحل استجابة لهذا الاجماع، و يحقق في اتجاه آخر دعماً لمجموعات الارهاب والمجالس المصطنعة وخداعهم بأنهم باتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمهم بالوصول الى الحكم.
- الثاني: اظهار نفسها - اميركا - انها تتقدم بثبات على خط تحقيق الاهداف التي وضعتها لحربها وعدوانها على سورية وانها «حققت الانتصار الأول» وهو الدخول في مرحلة انتقالية لا يكون فيها الرئيس موجوداً كما تدعي وتحلم وتكون حكومة تمتلك صلاحيات الرئاسة.
ج- هذه هي الصورة التي أرادت أميركا ترويجها بعد جنيف، فأين موقعها من الحقيقة؟ بمراجعة موضوعية لما جرى في جنيف، أو ما تم قبل اجتماع مجموعة العمل وتلاه من مواقف نستطيع أن نؤكد بأن الصورة انتهت وبشكل مؤكد لا يؤثر فيه تضليل أو تلفيق الى ما يلي:
١) التوافق على مرحلة انتقالية يكون فيها حكومة تشارك فيها كل مكونات المجتمع السوري، ولا يستبعد منها إلا من استبعد نفسه اساسا من الحوار.
٢) عدم المس بالمؤسسات الدستورية السورية خلال المرحلة الانتقالية والا اعتبر الامر مساً بالسيادة السورية وتدخلاً غير مقبول في الشؤون السورية، وبالتالي لم يقارب الاتفاق من قريب أو بعيد موقع الرئيس في سورية.
٣) اعتماد الحوار سبيلاً وحيداً للخروج من الازمة السورية، والاقرار بأن الشعب السوري هو الذي يملك قراره ويختار حكامه، وبالتالي ان الصورة التي سينتهي اليها الوضع في سوريا هو ما تقرره أغلبية الشعب السوري، ولن يتحقق ما تريده أميركا من اخراج هذا أو تنصيب ذاك.
٤) وجوب توقف اعمال العنف على انواعها، وفي هذا تأكيد على وجوب وقف الاعمال الارهابية المدعومة من الخارج بقيادة اميركية ووجوب وقف تسليحها، اما قوات الشرعية السورية فان الظروف هي التي تفرض مواقع تمركزها، فإن أخلى المسلحون أوكارهم وتوقفوا عن ارهاب المواطنين وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، عندها تعود القوى الى ثكناتها، وان لم تستجب تلك المجموعات لمقتضيات الخطة، واستمرت في ممارسة اعتداءاتها فان القوى ستستمر في عملياتها لانقاذ المواطنين من شرها.
هذا هو الاساس والجوهر في ما تم الوصول اليه على طاولة البحث في الشأن السوري في جنيف مؤخراً، أما ما أعلنه الغرب على لسان بعض وزراء الخارجية لديه، (كذبته روسيا والصين في اقل من دقائق)، فانه لم يكن اكثر من تلفيق لاخفاء الإخفاق وهو لن يغير الحقيقة ولن يؤثر على الثوابت السورية القائمة على رفض التدخل الاجنبي ورفض الاملاء الخارجي والتمسك بسيادة الشعب وقراره المستقل.
وهكذا تكون اميركا اضافت لمسيرتها في العدوان على سورية وعبر محطة جنيف في ٣٠ حزيران الماضي فشلاً آخر، ولن يكون المشهد السوري بعد جنيف مختلفاً عما كان قبله الا في تسجيل هذا الفشل الذي لن يخفيه تأويل أو تزوير، فشل رافقه إحباط مرير للأدوات والعملاء، أما سوريا وحكومتها القائمة فستجد نفسها ملزمة بالاستمرار في مواجهة الارهاب على اراضيها، وفي حركتها الاصلاحية التي تؤكد انتصارها رغم الثمن الباهظ.