أنّنا نشهد تدخُّل العولمة الإعلامية من خلال الجوّ الخانق للمعلومات المتدفّقة عبر مئات المحطات الفضائية والانترنت لتغيير الحقائق، وتثبط الهمم وتبثُّ الشائعات وتمزّق الأواصر، وتغيّر التصوّرات وتشكك في القناعات وتخلق الحزازات. وهذه أمامنا المؤامرة الضخمة التي تعمل على أن يخطئ العالم الإسلامي عدوه الحقيقي ويتوجّه إلى أعداء وهميين، بعد تحريك الكوامن الطائفية والقومية والجغرافية والتاريخية فيه.
شارک :
اية الله الشيخ محمد علي التسخيري المستشار الأعلى لقائد الثورة الإسلامية في شؤون العالم الإسلامي و رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
في القسم الاول من هذا المقال تحدث اية الله التسخيري عن اساليب السلوك الرشيد للأمة وضرورة الابتعاد عن التنميط والتفريد والالتزام بسلوك متوازن في مواجهة التحديات الثقافية والسياسية . وذكر في هذا المجال اربعة عناصر منها ان تعتمد الامة الاسلوب الوسطي المتوازن في مختلف تعاملاتها مع الواقع وتتجنّب الإفراط والتفريط ، والحذر من الوقوع في حبائل العولمة المجنونة التي تريد الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية على الشعوب .
واكد على ضرورة ترسيخ الحوار مع الاخر الداخلي والخارجي والاعتماد على منهج التغيير المستمر للوصول الى الافضل مع الحفاظ على الثوابت الاسلامية .
واليكم ادامة المقال : ٥ ـ أن تمتلك الأمة المناعة الكاملة ضد التآمر على هوّيتها التقنينية وثقافتها الاجتماعية من خلال التأثيرات التي تتركها احتكار المؤتمرات الدولية والجو الإعلامي من قبل قوى التآمر.
وهذا المعنى ينسحب على عملية التقنين والتشريع الثقافي والاجتماعي؛ فها نحن نشهد مؤتمرات التنمية والسكان والمرأة تسعى جاهدة لتعميم الثقافة الغربية والتصوّرات الاجتماعية المنحرفة باسم (الحقوق الجنسية) و(الحرية الفردية للمراهقين) وأمثال ذلك، مضمّنة ذلك في خانة حقوق الإنسان، وهي الباب الواسع الذي تنفذ منه العولمة إلى جميع المجالات.
كما أنّنا نشهد تدخُّل العولمة الإعلامية من خلال الجوّ الخانق للمعلومات المتدفّقة عبر مئات المحطات الفضائية والانترنت لتغيير الحقائق، وتثبط الهمم وتبثُّ الشائعات وتمزّق الأواصر، وتغيّر التصوّرات وتشكك في القناعات وتخلق الحزازات. وهذه أمامنا المؤامرة الضخمة التي تعمل على أن يخطئ العالم الإسلامي عدوه الحقيقي ويتوجّه إلى أعداء وهميين، بعد تحريك الكوامن الطائفية والقومية والجغرافية والتاريخية فيه.
وعلى نفس الوتر نذكر بالمشكلة الأخلاقية التي جلبها لنا إعلام العولمة فجعل الرذيلة والعري والتحلّل وكلّ المحرمات مباحة معروضة في العلن أمام شبابنا وكلّ من تتحرّك فيهم الأهواء. والأنكي أنّه خلق له قواعد ومحطّات داخلية تصبُّ جميعها على الترابط الخلقي بين مجتمعاتنا فلا يستطيع الخيّرون أن يصلحوا الأمر.
وقد ابتلينا أخيراً بالتدخّلات العسكرية الامريكية تحت غطاء العولمة ومساهمة القوى العظمى في دفع الأخطار عن البشرية ومحاربة الارهاب، بعد أن سوقت لمفاهيم عولمية خطيرة من قبيل مفهوم (الحرب الاستباقية) وأمثال ذلك. وكانت التدخّلات الخطيرة في افغانستان وسورية والعراق ولبنان، والقائمة ممتدة، بالاضافة للعدوان الصهيوني المستمر في تطبيق الأجندة الغربية الممتدة.
ولاريب أنّ العالم كله قد شهد ما تركته هذه التدخّلات من آثار ثقافية واجتماعية واقتصادية مدمرة عانت منها مجتمعاتنا كثيراً. وربما كان من سخرية المسيرة اليوم أن نجد نظماً حاكمة تتذرع بالدفاع عن شخصية الأمة ووحدتها وصمودها في قبال العولمة بتشديد الرقابة وزيادة القيود على الحرية وتكميم الأفواه ونشر الاستبداد، فتكون بذلك من قبيل المستجير من الرمضاء بالنار. وما هي في الوقاع إلا ذريعة للتشبّث بالحكم والسلطة وقد توافقها دول العولمة؛ لأنّها تؤمّن لها نفوذها وهيمنتها وهو المقصد الأول في كلّ العملية العولمية.
٦ ـ يجب أن تقوم الأمة بالنظر إلى المستقبل والعمل له دون الغرق في الطوباوية ودون أن تهمل تاريخها؛ لأنّه أيضاً جزء من هويتها والذي يجب توظيفه لصالح التغيير التكاملي بدلاً من البقاء في أسر أحداثه المتلاطمة. إنّه يجب أن يكون عبرة للاعتبار لاوحدة للتخدير وأحياناً للاختلاف المرير.
إنّ الطوباوية في النظرة المستقبلية مثلها مثل الذاتية التخديرية في النظرة التاريخية تضرُّ بالمسيرة أيما اضرار.
٧ ـ يجب أن تمتلك الأمة موقف الأمل بالله مع الاطمئنان ببقاء السنن الكونية. فإنّه على ضوء إيمان المسلم بطلاقة المشيئة الإلهية ينشدّ بالله تعالى في حالاته، ويتعلّق بفضله، ولا ييأس من روح الله تعالى في أشدّ حالات الحرج. ومهما استعصت الظروف وبدا له أنّها لن تتفرج فهو معتقد بقدرة الله على تغييرها، هذا من جهة،ومن جهة أخرى فهو يعمل على سلوك السبيل الطبيعي الذي يحقّق الهدف، نظراً لأنّه يعتقد بأنّ الله <أبى أن تجري الأمور إلاّ بالاسباب> وهاتان الجهتان: عدم اليأس، وسلوك السبيل الطبيعي، تشكّلان عنصرين مهمّين تتوازن بهما الشخصية الإنسانية. فعدم اليأس يبقى الدافع الأصيل ويحافظ على رباطة الجأش، ولا يدع القوى تتفتّت. وسلوك السبيل يرتفع بالإنسان عن العيش في الخيال، ويجعل منه إنساناً واقعياً يتعامل مع الواقع كما يتطلّبه الواقع.
٨ ـ على الأمة أن توازن بين موقف التوكّل على الله وموقف الثقة بالنفس. ولعلّ هذا النوع من التوازن يرتبط كلّ الارتباط بما قبله، فإنّ اعتقاد المسلم بالإرادة الإلهية المطلقة يجعله يوكل أموره إلى الله، ويعتقد أنّه لايملك من أمره شيئاً إلا بإذن الله تعالى فلا هداية إلا من الله تعالى، ولا توفيق إلا به تعالى، ممّا يركّز النظر عليه في كلّ تأثير... إلا أنّ هذا التوكّل على الله لا يفقده الثقة بنفسه وبقدرته على التغيير، بل يمنحه أعظم الثقة بنفسه، ذلك لأنّه يتصور أنّ الله تعالى منحه سلطان التغيير، وجعله خليفته على الأرض، يعمرها وينشئ فيها حضارة السماء أي الحضارة التي تشكّل تعاليم السماء روحها، وأوكل إليه عملية التغيير الكبير.
فهو إذن إنسان يعقل ويتوكّل، يغيّر ونظره مركّز على السماء، يبني وهو يعلم أنّ المدد الحقيقي من الله تعالى. وما أروع الثقة المنبعثة في النفس التي تتوكّل على الله تعالى خالق الكون فتقتحم الصعاب وتقدّم التضحيات.
٩ ـ وعليها أن تقف موقف العلوِّ على المشاكل التاريخية مع تقدير دور كلّ عامل. فبعد إيمان المسلم بأنّ العوامل المحركة للتاريخ مختلفة تتراوح بين القوانين التكوينية المحركة وغير المحسوسة إلى الفطرة بغرائزها، وفوق كلّ ذلك الإرادة الإنسانية التي تهيئ للإنسان مجال التحكُّم في مسيره... يكون قد علا على المشاكل التاريخية، بعد أن علم بأنّ له اختيار تنظيم حياته، وبيده صنع حضارته، فليست المشكلة التاريخية مفروضة عليه من الأعلى بحيث لايمكنه أن يتحرّك تجاهها، وإنما يمكنه ـ متى لاحظ عدم صلاح واقعه ـ أن يغيّره.
وهذا التصوّر يعطيه حركية دائمة على التطوير والتقدم التكنيكي، كما تعمل على التكامل المعنوي والفكري، كلّ ذلك ضمن تخطيط سماوي رائد يوضح له ما يجب أن يريده ويرشده لئلا يضلّ، ويعين له الهدف الذي يجب أن يسوق التغيير باتجاهه. ومن هنا فهو ليس عبداً لعامل تاريخي معين، ولا لكل العوامل، بل كلّ العوامل التاريخية مسخرة لصالحه، وكل القوانين التكوينية المحسوس منها المحسوس قنّنت لصالحه، ويستطيع أن يستفيد منها في صنع حضارته ورقيه، تماماً كما يستفيد من قوانين: الضغط، والإزاحة، والجاذبية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو يحسب لكلّ عامل حسابه على ضوء التشريع الإلهي، فلا ينسى مثلاً دور العامل الاقتصادي ولا دور العامل الجغرافي أو العامل الغريزي الجنسي وغير ذلك، وهو يستهدف التشريع ليستثمر هذه العوامل لصالحه. فهو هنا ـ إذن ـ يوازن تقدير عمل العوامل والعلوّ على جميع المشاكل التاريخية، فيكون واقعياً في سلوكه.
١٠ ـ وعلى الأمة أن تقف موقف الدقة في اختيار سبيل الخير مع الحذر من سبل الشر وذلك، لأنّه لما كانت السبل كثيرة، والإغواءات متوفرة، والشيطان يقعد للإنسان بكل مرصد فإنّ الإنسان المسلم يصمم على خوض تجربة الحياة.. ويتأكد بين الحين والآخر من صحة اختياره متسلحاً بسلاح الوعي مستمعاً لإرشادات الوحي، متجنّباً مزالق الضلال، مطمئناً بأنّه ليس للشيطان عليه أي سلطان، وأن سعادته تكمن في رجمه ورجم كلّ ما يمثله. وتـأتي التعاليم الإسلامية فتذكره بطرق الخير دائماً وأهمّها العبادات التي تشدّه شدّاً بالله تعالى، وتركّز على أن ينفي الشر عن حياته، وهذا ما يبدو بوضوح في رجم الجمرات مثلاً. وعليها بالتالي أن تقف موقف الخوف والرجاء.
ويكاد هذا النمط من التوازن يشكّل معلماً بارزاً من معالم الشخصية المسلمة. فعن الصادق(ع) أنه قال: "كان أبي يقول: ليس من عبد مؤمن، إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا". فالرجاء العظيم برحمة الله تعالى يدفع الإنسان المسلم نحو الحياة ويفتح قلبه للمستقبل، والخوف العظيم من عقابه يدفعه لأن يحقق مقتضيات الرحمة الإلهية. ويرتفع مقياس الخوف والرجاء كلما تعمقا في النفس الإنسانية وتجلّت لديها المعقولات فقربت من عالم الحس ومن ثمّ انعكست على السلوك الخارجي. كما يقول الإمام الصادق (ع): "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولايكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو". والملاحظ هنا ـ كما لاحظ ذلك بعض الكتّاب ـ أنّ الإسلام قبل أن يستفيد من خاصيتي الخوف والرجاء والتأثير بهما في النفس الإنسانية، لجأ إلى توجيههما الوجهة الصحيحة، فنفى كلّ متعلقاتهما الباطلة التي تحرف النفس عن الهدف، بل وتشكّل مصدراً للقلق الممزّق للنفس الإنسانية، المميّع لكل تماسك وتوازن فيها، وهو الداء الذي ابتلي به الماديون ففقدوا توازنهم الروحي وعاشوا مع الخوف حتى من الأمور الوهمية.
نعم، نفى الإسلام تعلُّق الخوف بأمور لا ينبغي الخوف منها، إلا في حدود الخوف من الأمر الصحيح. كما نفى الرجاء ولم يسمح له أن يتعلّق إلا في حدود الرجاء للأمر الذي ينبغي أن يرجى.
وبتعبير آخر: إنّ الخوف الحقيقي يجب أن يكون من عذاب الله وغضبه، والرجاء الحقيقي يكون لرضا الله ورحمته، فكل خوف أو رجاء لا يؤطّره هذان الأمران لا قيمة له في الحساب القرآني ويجب أن ينتفي من حياة الإنسان؛ لأنّه مصدر قلق بعد أن تعلّق بأمور غير منضبطة بل وخرافية أحياناً.
الصحوة الإسلامية الحاضرة ودور العلماء ان ما نشهده اليوم على مستوى العالم الإسلامي عموماً وعلى صعيد العالم العربي بالخصوص يشكل بلاريب صحوة إسلامية رائعة حيث استعادت الشعوب وعيها بدورها الأصيل في صنع مستقبلها ورفض تحكم الطغاة في مصيرها وربطها بعجلة المصالح الغربية والصهيونية العالمية من جهة ومن جهة اخرى ادركت دورها الذي اراده الله لها باعتبارها أمة شاهدة على الحضارة حيث قال تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والملاحظ ان الاية تتحدث بهذه الروح العالمية في وقت يحاصر فيه الإسلام من قبل كل القوى المعادية. إن كل المؤشرات على الساحة تؤكد على هوية هذه الصحوة، فالشعارات إسلامية والمنطلقات هي محال صلوات الجمعة والانتخابات تصب في مصلحة الإسلاميين.
وهنا ينبغي ان نذكر بدور العلماء الواعين في قيادة هذه الحركة التغييرية واعطائها المناعة الكاملة ضد كل عمليات التسلل والخيانة والانحراف، وترشيدها باستمرار لتصل إلى الهدف المنشود مختارة لسبل الخير متوكلة على الله.
ان الصحوة الإسلامية اليوم هي حالة طبيعية تعيشها الأمة رافضة كل مظاهر التخلف والانحراف والاستبداد والتبعية ومن هنا ينبغي لكل العلماء في العالم الإسلامي ان يقوموا بواجبهم في ترشيد الصحوة في كل مكان وتقويتها لكي تصمد في وجه مؤامرات اعداء الأمة ولتبقى على الخط الصحيح بعيدة عن الإفراط والتفريط محافظة على قوتها وزخمها وإصالتها.
كما ويجب ان يسعى العلماء إلى تطوير الوضع المعاصر للأمة إلى الحد الذي يحقق الصورة التي رسمها القرآن الكريم لها وعمل على تجسيدها رسول الله(ص) من حيث الاحساس بالاخوة الدينية، والتعاون على البر والتقوى والوقوف صفاً واحداً أمام التحديات والتواصي بالحق والصبر والابتعاد عن التفرق والتنازع وكل ما يؤدي إلى وهن المسلمين وفشلهم. ومن اللازم ان يقوم العلماء بواجبهم في توعية المسلمين ليشخصوا عدوّهم المتمثل بالاستكبار العالمي والصهيونية الحاقدة وكل قوى الطاغوت بشتى اشكاله وبالتالي يجب أن يتحوّل التهديد الشيطاني إلى فرصة لاستعادة الأمة خصائصها وتقوية ايمانها بربها وثقتها بالنصر. واخيراً؛ يجب توعية الجماهير الإسلامية بواجباتها تجاه بعضها البعض ولزوم اداء الحقوق وتحقيق التكافل الاقتصادي والتلاحم الاجتماعي والدفاع عن المقدسات والجهاد الواعي صفاً واحداً ضد اعداء الأمة.