أنَّ الحياة عندما تتطوَّر على أساس مفاهيم خاصَّة معيَّنة خاضعة لمبادئ مميَّزة، لا يمكن أن تفرض نوعيَّة هذا التطوّر على مبادئ أخرى تختلف في مفاهيمها عن تلك المبادئ الّتي ساعدتها الظّروف على تخطيط برنامجها للحياة، استناداً إلى القوّة أو أيّ شيء آخر غيرها، ولذا فإنَّ من يطلب من الإسلام التَّغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر، كمن يطلب من الاشتراكيَّة أن تتغيَّر وتتطوَّر على أساس المفاهيم الرأسماليَّة وأفكارها.
شارک :
المرجع الفقيد السيد محمد حسين فضل الله
إنَّ قضيّة التّطوّر الفكريّ والتّشريعيّ في حياة كلّ أمَّة، ليست وليدة حركة حتميَّة خارج نطاق الأفكار والمبادئ المطروحة في الحياة، وليست عملاً غيبيّاً ينطلق من المجهول، بل هي قضيّة سنَّة الله في الأرض الّتي جرت على أن تتقدَّم الأفكار والمبادئ إلى السَّاحة، من خلال كونها ردود فعلٍ لواقعٍ فاسد، أو لارتكازها على قوّةٍ ماديّةٍ أو ظروفٍ طبيعيّةٍ طارئة، ما يجعل لحركة الإنسان الّذي يؤمن بالفكرة أساساً قويّاً في وجودها ونموّها واستمرارها، ويبعد القضيَّة عن أن تكون حركةً تخضع لما يسمَّى بالحتميَّة التاريخيَّة أو أيّة حتميّة أخرى، مما تعارف النّاس على أن يفسّروا به تطوّر التيارات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وهكذا، تتحوَّل الأفكار إلى واقعٍ حيٍّ يدخل وجدان النّاس وعاداتهم وتقاليدهم، ثم تمتدّ لتكون الطّابع المميَّز للعصر، بفعل سيطرة القوى الّتي تدعمها وتؤيِّدها على مقدّرات العصر في الجوانب التشريعيّة والتنفيذيّة، فيخيَّل إلى النّاس أنّه الواقع الحتميّ الّذي لا يمكن تجاوزه والانحراف عنه إلا على حساب تقدّم الحياة وتطوّرها، باعتبار أنَّ الواقع المطروح هو الّذي يمثّل مقياس التقدّم والرقيّ في نظرهم.
وعلى أساس ذلك، يُطلَب من الإسلام، باعتباره من التيّارات الدينيّة الروحيّة الاجتماعيّة، العمل على الاندفاع في حياة النّاس ومواكبة تطوّرهم، باعتبار ذلك من الأمور الحتميَّة الّتي يتطلَّبها العصر.
وبناءً على الإشكال الَّذي طرحناه حول مفهوم الحتميَّة، حيث اعتبرناه أمراً متعلّقاً بموازين القوى، وبظروف محدَّدة، وليس نابعاً من طبيعة الأشياء، فقد يكون من وجهة نظر المفكّرين المسلمين، أنَّ التطوّر الّذي ينطلق من خلال الأفكار الماديّة في اتجاهاتها الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، لا يسير في الاتجاه الصَّحيح لمصلحة الإنسان، لأنّه يفرز الكثير من المخاطر والآلام والمتاعب في حياة البشريَّة، من دون أن يقدِّم لها الراحة النّفسيّة الّتي تجعل من الحياة شيئاً مريحاً معقولاً، الأمر الَّذي يدعونا إلى القيام بتغييره إلى مسارٍ آخر يأخذ في حسابه حياة الإنسان ككلّ، ولا يركّز على جانبٍ واحدٍ من جوانبها، لتسير الحياة على إرادة الله.
إنّنا لا نعرف أيَّ معنى لموافقة الكثيرين على إفساح المجال لمفاهيم الثّورة والتّغيير ضدّ الواقع الرأسماليّ، لمصلحة التَّفكير الماركسيّ والاشتراكيّ، وذلك لحرف اتّجاه التطوّر إلى مسارٍ آخر ينسف أعمدة الحضارة الرأسماليَّة لمصلحة الحضارة الجديدة، ولكنَّهم في الوقت ذاته، لا يوافقون على إفساح المجال لمفاهيم الإسلام أن تقوم بعمليَّة التّغيير الشّاملة.
إنَّ الفكرة الَّتي نريد أن نقرّرها باختصار، هي أنَّ الحياة عندما تتطوَّر على أساس مفاهيم خاصَّة معيَّنة خاضعة لمبادئ مميَّزة، لا يمكن أن تفرض نوعيَّة هذا التطوّر على مبادئ أخرى تختلف في مفاهيمها عن تلك المبادئ الّتي ساعدتها الظّروف على تخطيط برنامجها للحياة، استناداً إلى القوّة أو أيّ شيء آخر غيرها، ولذا فإنَّ من يطلب من الإسلام التَّغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر، كمن يطلب من الاشتراكيَّة أن تتغيَّر وتتطوَّر على أساس المفاهيم الرأسماليَّة وأفكارها.
لا لاستبعاد الدِّين
إنَّ الفكرة الَّتي تحاول استبعاد الدِّين عن دائرة الصِّراع من أجل التطوّر والتّغيير، انطلقت من الذهنيَّة العامَّة المنحرفة الَّتي حصرت دوره في نطاق ضيّق ودائرة محدودة، لا تتّسع إلا بقدر ما تتَّسع له الأخلاقيّات القائمة، أي العمل على التَّخفيف من قساوة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وبؤسها، لكن من بعيد، ومن دون أن تلامس المشاكل بواقعيَّة وقوّة، وهو طرح مثاليّ يمنح الإنسان الشّعور بالرّاحة من غير حلٍّ للمشكلة.
ولهذا، فإنّنا نعتقد بضرورة التَّخطيط لإخراج الوعظ والتوجيه الإسلامي إلى دائرة المواجهة المباشرة لقضايا الحياة ومشاكلها، لأنَّ ذلك هو السَّبيل لوضع التغيير الإسلامي في إطاره الطّبيعيّ، الّذي لا يبتعد عن النّصوص في الكتاب والسنَّة، ولا يخرج عن روحها، ويبقى في الوقت ذاته ليحقّق للحياة السّعادة والخير والسّلام، وقد يكون هذا هو الهدف الّذي سعى إليه المفكّرون المسلمون الملتزمون، الّذين يعتبرون أنَّ الإسلام يقدِّم رؤية شاملة عن الكون والحياة عندما يطرحون قضيَّة الاجتهاد المعاصر.
لعلَّ من أولى مهمَّات حركة الاجتهاد المعاصر، أن تواجه النّصوص في الكتاب والسنَّة مواجهةً مستقلَّةً واضحة، تنطلق من الفهم الواعي المستند إلى ثقافةٍ علميَّةٍ دقيقةٍ واسعةٍ في المجالات الّتي تتحرَّك فيها القواعد اللّغويَّة والأصوليَّة، ومن التركيز على دراسة الأجواء العامَّة الّتي انطلقت فيها، ثم ملاحظة الظّروف الموضوعيَّة الّتي نعيشها، مما أحدث لنا أوضاعاً جديدة في العلاقات العامّة وفي أساليب الحياة، للتعرّف من خلال ذلك إلى طبيعة الموضوعات الّتي تتوفَّر النصوص الشرعيَّة الكفيلة بمنحها الحكم، ليعالجها معالجةً واقعيَّة، لأنَّ الخطأ في فهم الموضوع يؤدّي بالتَّالي إلى الخطأ في طرح الحكم، وقد رأينا بعض المجتهدين الّذين تحيَّروا في الإفتاء في بعض الموضوعات، نظراً إلى عدم اطّلاعهم على طبيعة الموضوع.
إنّنا نركّز ونؤكِّد على استبعاد القداسة للشخص وللرأي الفقهيّ من دائرة الاجتهاد، واعتبار الآراء الفقهيّة في أيِّ مجال علميّ قابلة للمناقشة، فلا تمنع المصير إلى رأي مخالف، ولا توجب الارتباط برأيٍ موافق، مهما كانت درجة أصحابها من العلم والمعرفة والمركز الروحيّ، إلا بمقدار ما يكون للرّأي من قوّة الحجّة وسلامة البرهان، لأنَّ إعطاء الآراء القديمة القداسة التي لا يدَّعيها أصحابها لأنفسهم، يجعلنا نواجه تقليداً فكريّاً باسم الاجتهاد.
نماذج اجتهاديّة تطبيقيّة
أمّا إذا أردنا الوقوف في المساحة الّتي لا تحمل نصوصاً خاصَّة، فإنَّ علينا التحرّك لدراسة النصوص العامّة الّتي تعالج القواعد الشّاملة، للتعرّف إلى مدى إمكانيّة انطباقها على واقع الحياة، فقد نجد في بعض النّصوص انفتاحاً تامّاً على المجالات الجديدة في المعاملة والعلاقات الماليَّة والاجتماعيَّة، في ظلّ الشّروط الإسلاميّة، كما ربما نلاحظ ذلك في الآية الكريمة: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، والآية الكريمة: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}.
فقد يفهم منها بعض الفقهاء، أنَّها تتَّسع لإقرار كلِّ ما كان هناك من عقود بين النّاس في الماضي وما يتجدَّد منها في المستقبل، مع الاحتفاظ بالشّروط الشّرعيَّة العامّة الّتي فرضتها نصوص وقواعد أخرى، مثل قاعدة النّهي عن الغرر وأشباهها، مما يدور الحديث عنه في الأبحاث الفقهيَّة، وبهذا لن يتركَّز البحث في طبيعة شرعيّة العقد من حيث كونه عقداً جديداً، لتتَّجه المحاولة إلى الحديث عنه من حيث حصوله على عنوان المعاملات السابقة عليه، كما حاول بعض الفقهاء ذلك عندما واجهوا عقود التّأمين وأمثالها، فحاولوا أن يرجعوها إلى عناوين الهبة المعوضة والصّلح وغيرها، فيما المطلوب تركيز البحث على خصائصها الواقعيّة وانسجامها مع الشّروط الشرعيّة للمعاملات أو اختلافها عنها.
في المقابل، قد نجد مثلاً على ذلك في الجانب الآخر الّذي يواجه فيه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم حالات الحرج الشّديد في امتثاله لبعض الواجبات أو تركه لبعض المحرَّمات، مما يكون الحرج ناشئاً من طبيعة جعل الحكم، لا من طبيعة النّوازع الذاتيّة التي يعيشها الإنسان داخل نفسه، مما يشكِّل للإنسان ضيقاً شخصيّاً لا ارتباط له بطبيعة الحالة الصحّيّة والعمليّة العامّة.
ففي هذه الحال، يمكن للباحث والمجتهد أن يدرس قاعدة نفي الحرج المستفادة من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، أو قاعدة نفي الضّرر المستفادة من الحديث النبويّ الشّريف: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
وقد تدور الدّراسة حول ما إذا كانت هاتان القاعدتان حاكمتين على الواجبات والمحرَّمات، أو تقتصران على الواجبات، مع ملاحظة مجالاتهما الموضوعيَّة، ثم دراسة طبيعة الحرج والضّرر، هل هو الحرج والضّرر الشخصيّان لتكون القاعدتان متحركتين في حياة الإنسان الشخصيَّة، أو الضّرر والحرج النوعيّان لتكونا حاكمتين في حياة الإنسان العامّة بقطع النظر عن حالته الخاصّة.
وهكذا نجد في القواعد العامّة مجالاً للبحث والاجتهاد في الأوضاع الطارئة التي تفرض على الإنسان وضعاً معيّناً ضاغطاً، مع التركيز على نقطة حيويّة جدّاً، وهي أن لا يكون الدافع هو التخلّص من حالة معيّنة ضاغطة، بحيث يكون ذلك مبرّراً للخروج من الحكم الشرعي الواقعي، لتكون عمليّة الاجتهاد عمليّة تبرير للواقع وليست عمليّة دراسة حقيقيّة له، بل يكون الدافع هو معرفة حكم الله من دون ملاحظة لأيّ رد فعل من ناحية ذاتيّة أو من ناحية أخرى.
الاجتهاد لا التَّبرير
إنّنا لا نؤمن بالاجتهاد التوفيقيّ الَّذي ينطلق في تبرير الواقع القانونيّ لكثيرٍ من حالات الانحراف، من أجل إعطاء الإسلام صفة الدين الذي ينسجم مع حاجات العصر، لأنّ فهمنا للانسجام مع حاجات العصر، هو تقديم الحلول لمشاكله، من خلال قواعده الأصيلة، لا تقديم الحلول على أساس الحلول المطروحة في الواقع المعاش على أساس غير إسلاميّ.
إنّنا نعتقد بضرورة تحرك الاجتهاد في الطّريق المستقلّ لمواجهة الحالات العامّة والخاصّة للحياة على أساس شريعة الله، من دون الخضوع لأيِّ ضغط، وخصوصاً ضغط الآراء السابقة، التي لا تكون موضوع قناعة، فذلك وحده هو الّذي يمنح حركة الاجتهاد حيويّتها، بعيداً عن التّقليد الفكريّ والضّغط الواقعيّ.
مواجهة النّزعة الفرديّة
إنَّ علينا أن ندرس الفرق بين مواجهة الحالات الفرديّة في ظلّ النظام غير الإسلاميّ، ومواجهة الحالات العامّة في إطار النظام الإسلاميّ، لأنَّ ذلك قد يغيّر موضوع الحكم الّذي قد يغيّر الحكم نفسه، وقد يكون من الطبيعي لنا في هذا المجال، أن نقرّر أنّ الاجتهاد في العصور المتأخّرة كان يواجه الواقع من خلال الحاجات الفرديّة، بعيداً عن وجود حكم إسلامي يتحرك في التشريع للنّاس في إطار الدولة، الأمر الّذي جعل الأبحاث الإسلاميّة لدى الدارسين، تأخذ الفكرة من خلال الأحكام المستنبطة في هذه الاجتهادات، وقد تغلّبت النزعة الفرديّة على الذهنية الفقهيّة، ما جعل من مسألة التّعامل مع الانحراف عن الدّين، يتّخذ شكلاً حادّاً وعنيفاً انطلاقاً من الحسابات الفرديّة، ليأتي التحريم وعدمه، في إطار "الخوف من الضّرر"، و"عدم جواز إلقاء النفس في التهلكة" وغير ذلك، مما يدخل في حساب الحياة الفرديّة الخاصّة.
ولذلك، لا نجد هناك أيَّ معنى للبحث في النّظام الاقتصاديّ أو السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الماليّ الإسلاميّ، فالبحث في هذا المجال أو ذاك، في ظلِّ الأحكام الفرديّة، لا يظهر لنا حقيقته إلا في إطار النّظام الإسلاميّ ككلّ، لأنّ ذلك هو السّبيل الوحيد لمعرفة الجانب المضيء من الصورة عندما يتطلّع الدّارسون إلى كلّ جوانبها.
على أنّه تنبغي الإشارة إلى أنَّ حركة الاجتهاد المعاصرة قد استطاعت في النّطاق الإسلاميّ بشكل عامّ، وفي النّطاق الإسلاميّ الشيعيّ بوجه خاصّ، أن تواجه الحاجات المطروحة في السّاحة بحلول جيّدة، ما جعل الإنسان المسلم يشعر بوجود أجوبة لكثير من تساؤلاته عن قضايا مهمَّة، من قبيل عقود التّأمين، وتنظيم النَّسل، والتّلقيح الصناعي، وغيرها من المسائل المستحدثة.
وربما بقيت بعض الأمور الَّتي لا يزال المسلم يشعر بالحرج أمامها، كقضايا البنوك وغيرها، مما لا يمكن للتَّشريع الإسلاميّ أن يواجهها بحلّ إسلاميّ، انطلاقاً من التحفّظ على طبيعتها المستمدَّة من النظام الرأسمالي، لأنَّ ذلك يعني الإقرار بشرعيَّة هذا النظام، ولذلك، فإنَّ العلاج الفرديّ لا بدَّ من أن يخضع لنوعيّة الحالات الصَّعبة التي يمرّ بها الفرد المسلم.