سطوة الفقد أقوى من كل كلام. وذلك عيب لا مناص منه, في لحظة حزن مستجدّة. حيث يجيء الموت العاصف ليفسد قابليتك وملاكاتك على البوح والإفضاء. ترجع العبارات خاسئةً حاسرة, ويخيب المعنى في مسارات جراحاتنا التي تزداد تغوّراً كلما ارتحل عالم كبير من علماء هذه الأمة.
سطوة الفقد أقوى من كل كلام. وذلك عيب لا مناص منه, في لحظة حزن مستجدّة. حيث يجيء الموت العاصف ليفسد قابليتك وملاكاتك على البوح والإفضاء. ترجع العبارات خاسئةً حاسرة, ويخيب المعنى في مسارات جراحاتنا التي تزداد تغوّراً كلما ارتحل عالم كبير من علماء هذه الأمة. على امتداد سنوات طويلة شكّل السيد محمد حسين فضل الله استثناء في الفكر واستثناء في الحضور واستثناء في السياسة واستثناء في حركة الاجتهاد الفقهي. يمشي بركبته الجريحة إلى المناطق المؤهولة بالأسئلة الكبرى الأكثر احتمالاً للتفاعل والتوّقد بجرأة أدبية مثيرة في حدّيتها وصراحتها. حركته ظلّت في توّهج وتألق, هو الصاعد من أرض احتراقاته وقلقه وهجسه كإنسانٍ يقيم شعبه في العذاب والحرمان, وتلازمه لعنة الاحتلال عقداً بعد عقد. حتى كاد من شغفه حباً بهذا الشعب أن يكون قاب قوسين أو أدنى من الشهادة. إحساسه الكثيف بالعصر وارتحاله فيه من أفق إلى أفق كان تعبيراً عن جهد واعٍ, وعن إدراك متواصل لحركة المتغيرات والمعطيات التي تلهج بها مفردات الحياة الثقافية والسياسية والإجتماعية التي تتعشق البدائل والإحالات والمقاربات المختلفة. وكان السيد الذي تملكته رغبة مستهيمة بصناعة الأفكار يطل في كل وقت ليملأ الفراغات بخزين علمه وثقافته الواسعة. شقّ لنفسه طريقاً خاصاً تبلور وتمنهج بأبعاد شكلانية ومضمونية تقوم على فهم جديد في تنظيم الأولويات, وبرؤية تنطبع بجملها بطابع الهموم المعاصرة التي تتيح له الإطلالة على الواقع بكل انشغالاته ومآلاته. وقد أغناه المراس والمثابرة والتواصل اليومي مع الناس في إنضاج تجربته التي تنجّزت بكثير من التصميم والمكابدة والفرادة. ولم يكن تثويره لكثير من النصوص التراثية في موضوعات الفقه والفكر والسياسة والاجتماع والمرأة إلا ضمن هذا المسار الذي ينطوي على إيقاع اجتهادي مفتوح على المغايرة والإضافة, والتي لا يسعنا سوى الإشادة بتلك المحاولات الحراكية مهما تقاطعت معها رُؤانا أو تناقضت. ماذا يمكن القول في مسيرة سماحة السيد الطويلة وفي حركة تطوره الذاتي التي تستلفت الانتباه, وفي قدرته الخوض في الممنوعات والمستغلقات وفي الذهاب إلى الكشف المباشر عن صوت ظل إلى حين يخاف أن يعانق العلن ويطلق كوامنه إلى الفضاء. واستباقه إلى كسر الحلقات العدمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية وفي العقم الطائفي الذي يكرر التشوهات ولا ينتج إلا العداوات والبغيضة, فيما كان سماحة السيد يطرق باب الإنسانية المفتوحة ويعمّق الاتجاه الإنساني في الإسلام ليلاقي الأفكار والاتجاهات الأخرى. في جعبتي الكثير من الذكريات لكن الحدث الأليم لا يسعفني لذكرها، ولا شك أنّ شريط الحياة الجهادية والفكرية والسياسية ماثل أمام الكثير من عارفي السيد ومحبيه وجمهوره الواسع خصوصاً أبناء المقاومة وكوادرها والذين يقدرون رصيده الكبير في مسيرتها وفيما وصلت إليه من منجزات عظيمة. رحمك الله يا أبا علي برحمته الواسعة وحشرك مع النبيين والصديقين والأولياء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. بقلم العلامة الشيخ عفيف النابلسي