ما غيّب الموت سماحة السيد محمد حسين فضل الله إلا بعد أن انتهى من إعداد مشروعه الفكري مخلفا وراءه تراثا فكريا راقيا، ومدرسة للحوار جند لها خيرة تلامذته ممن سيواصلون السير على النهج نفسه في المستقبل المنظور.
شارک :
وكالة أنباء التقریب (تنا ) محمد حلمي عبد الوهاب – كاتب مصري ما غيّب الموت سماحة السيد محمد حسين فضل الله إلا بعد أن انتهى من إعداد مشروعه الفكري مخلفا وراءه تراثا فكريا راقيا، ومدرسة للحوار جند لها خيرة تلامذته ممن سيواصلون السير على النهج نفسه في المستقبل المنظور.
واقع الأمر، أن ثمة ملمحين بارزين في مشروع فضل الله الفكري: أولهما اعتماد نهج الحوار لحل القضايا التاريخية العالقة على مستوى العلائق التي تربط الإسلام بالغرب بصفة عامة، والسنة بالشيعة على وجه الخصوص. ثانيهما الوقوف ضد ما سماه بقوى الاستكبار ومشاريع الهيمنة الغربية التي تسعى جاهدة لنهب مقدرات الشعوب الإسلامية، وهي بذلك تعد امتدادا للمشاريع الاستعمارية. وقد اعتمد سماحته «الرؤية القرآنية» كأساس في الاجتهاد والاستنباط بوصفه الأساس التشريعي والدستوري الأول في سلم مصادر التشريع، مما مكنه من الوصول إلى معطيات فقهية جديدة تمثل فهما قرآنيا أصيلا. كما توزع مشروعه الفكري على محاور شتى في مقدمتها: التآليف الفقهية التي سعى فيها إلى تخليص الفقه من التعقيدات التي أفرزها تأثر الممارسة الاستنباطية والتنظير الأصولي بالفلسفة التجريدية، مما أدى إلى تشويش الفهم العرفي في تعامله مع النص في معطياته ودلالته العملية.
وقد امتاز طرحه في هذا المجال بشمولية الرؤية الفقهية، حيث تتحرك العملية الاستنباطية لتجمع جميع المفردات المترابطة التي تشكل المنظور الإسلامي المتكامل، خلافا للمنهج التجزيئي الذي يعمل على تقطيع أوصال الأحاديث التي تنتمي إلى مجال واحد. وإلى جانب تآليفه الفقهية التي كتب فيها السيد بحكم تكوينه وموقعه الديني، هناك التآليف الإسلامية العامة التي اهتم فيها بمعالجة التحديات التي يطرحها العصر على الإسلام والمسلمين، ومن أبرزها: «تحديات الإسلام بين الحداثة والمعاصرة»، «الإسلام وقدرته على التنافس الحضاري»، «قضايانا على ضوء الإسلام»، «الحركة الإسلامية: هموم وقضايا».. إلخ.
على أن «الحوار» يعد بمثابة الملمح الأبرز في مشروع سماحة السيد فضل الله. فإلى جانب مؤلفه الأبرز: «الحوار في القرآن: قواعده، أساليبه، معطياته»، الذي أكد في مقدمته أنه لم يجد في المكتبة الإسلامية في حدود قراءاته كتابا يبحث في هذا الموضوع بشكل متكامل؛ توزع اهتمامه بالدعوة إلى الحوار على أغلب مصنفاته، فضلا عن دروسه ومحاضراته. كما أنه لم يكتف بالدعوة إلى الحوار على المستوى النظري فحسب، وإنما ساهم بدوره في دعم وإثراء وتوسيع نطاق الحوار ليشمل جميع أهل المذاهب والأديان والثقافات المتباينة.
ففي معرض حديثه عن ظاهرة «الأصولية الإسلاموية»، عاب سماحته على أتباعها أنهم لا يتدبرون النص القرآني، ولا يتفاعلون مع العنصر التاريخي الكامن فيه. مؤكدا أن المعايير الأساسية الحاكمة للعلاقة مع الآخر يجب ألا تخرج عن حدود ما جاء في القرآن الكريم من تأكيد على عدم جواز قتل المسالمين من غير المسلمين، فالله تعالى يقول: «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»، والحق هو حالة الدفاع عن النفس، وحالة الدفاع عن المستضعفين في الأرض الذين لا يستطيعون حيلة ولا يجدون سبيلا، وحالة مواجهة الذين يقطعون الطريق ويثيرون الفساد في الأرض بحيث يختل نظام المجتمع ككل.
فالمسألة ليست أن يكون الآخر كافرا لتقتله أو لتقاتله، بل أن يكون محاربا فتدافع عن نفسك إذا قاتلك أو طردك من أرضك أو تحالف مع الآخرين على إخراجك منها. وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالقول: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون».
وفي إطار تأكيده ضرورة الحوار بين مختلف المذاهب الإسلامية، يعول سماحته على قول الله تعالى: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها». مؤكدا أن الخلافات الموجودة بين المسلمين في الأبحاث الكلامية، وفي الحسن والقبح العقليين، وفي قضية الخلافة والإمامة، وفي النظرة إلى الشخصيات التي يقدسها فريق دون آخر، إلى غير ذلك من المسائل الفقهية؛ ينبغي أن يكون فصل الخطاب فيها وفقا لما قاله سبحانه وتعالى: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول»، بمعنى أنكم ما دمتم أيها المسلمون تؤمنون بالكتاب والسنة، فادرسوا في اختلافاتكم ماذا يقول الكتاب لتلتقوا عليه، وما تقول السنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلتقوا عليها، واعتمدوا الأسلوب العلمي، وتحركوا بالحوار الموضوعي العقلاني لدرس القضايا من مصادرها، ولا تحاولوا أن تتحركوا في خلافاتكم كي يسجل كل فريق نقطة على الفريق الآخر؛ فالمسألة هي كيف يمكن أن نلتقي على القضايا التي توحدنا وتقارب بيننا إذا لم نستطع أن نتوحد كليا.
وفي تقييمه لموجات الإصلاح والتجديد الديني، يؤكد سماحته أن كلا من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني حاولا، بعد سقوط الخلافة العثمانية، أن يفتحا آفاقا جديدة لفهم النص القرآني، معتبرا أن هذين القياديين الكبيرين قد استطاعا أن يمثلا بداية عصر النهضة الحديثة في العالم الإسلامي. ثم نشأت بعدهما «حركة الإخوان المسلمين» على يد حسن البنا، الذي كان وحدويا يدعو إلى أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه. ويستطرد سماحته قائلا: «ونحن نعلق فنقول: بل يحاور بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه، على أساس النص القرآني في رد الأمر إلى الله ورسوله».
ثم جاءت حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي قادها الشيخ محمد تقي القمي، بإشراف المرجع الديني السيد حسين البروجردي في إيران، وأيضا العلماء الأزهريون مثل الشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت. معتقدا أن هذه الحركة لو قدر لها أن تمتد لاستطاعت أن تركز الخط الإسلامي الأصيل من الناحية الثقافية، ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، في الاتجاه السليم.
على أن قضية المذهبية العصبية في الواقع الإسلامي تتحرك - على نحو ما لاحظ سماحته - في خطين رئيسيين: الأول هو خط الوعي الثقافي الذي لا بد أن نركز عليه، وأن نفتح آفاقه في الواقع الإسلامي، حتى يفهم المسلمون دينهم على أساس ما يوحدهم وليس على أساس ما يمزقهم، وبحيث تكون الخلافات الاجتهادية مصدر غنى لا مصدر احتراب واقتتال. والخط الثاني هو مسألة التحرر من ضغط الدول الكبرى، بحكم أن المسألة الإسلامية أضحت مرتبطة أساسا بالمسألة السياسية، بحيث إننا إذا استطعنا أن نتحرر سياسيا، فسنتحرر أيضا في وحدتنا الإسلامية.
وفي كل الأحوال، يجسد سماحة السيد فضل الله نموذج «العالم العامل» باقتدار، إذ لم يقتصر نشاطه على الدعوة النظرية فحسب، وإنما امتد إلى تقديم الكثير من الخدمات وإنشاء المؤسسات الخيرية، وفي مقدمتها: المعهد الشرعي الإسلامي، والحوزة العلمية للنساء في منطقة النبعة، ومستشفى السيدة الزهراء، ومبرات للأيتام، فضلا عن المراكز الدينية والثقافية، كمجمع الإمامين الحسنين، ومكتبته العامة.