تاريخ النشر2010 28 July ساعة 14:32
رقم : 21849

اسباب إختلاف الفقهاء - القسم الثاني -

فؤاد البرازي
فؤاد البرازي
وكالة انباء التقريب (تنا) :
بسم الله الرحمن الرحيم
٦. الاختلاف في فهم النصوص الشرعية لوجود لفظ مشترك يحتمل أكثر من معنى ، كلفظ : "قروء" في قول الله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء".
فالقرء اسم مشترك يطلق على الحيض ، كما يطلق على الطهر .
وبناءً على ذلك نشأ الاختلاف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم في عدة المطلقة .
فمن فسر القرء بالحيض قال : لا تنقضي عدتها حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها ، وإلى هذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
ومن فسر القرء بالطهر قال : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وإلى هذا ذهبت عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبو ثور وهو رواية عن أحمد. (انظر تفسير ابن كثير١/٤٣٨).
٧. وقد يكون الاختلاف راجعاً إلى المجتهدين أنفسهم وما حباهم الله تعالى من مَلَكات في فهم النصوص واستنباط الأحكام ، كالخلاف الذي جرى بين الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم في تفسير حديث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" ، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فصلاها بعضهم حيث أدركتهم ، وأجلها آخرون حتى باغتوا بني قريظة بعد الغروب . فلما عادوا وذكروا ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يُعنف أحداً منهم ، وهذا يعني إقرارَه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لفهم الفريقين الذين سمعوا منه نصاً واحداً اختلفت حوله أفهامهم.
٨. الاختلاف في الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة : ومن أمثلة ذلك : اختلاف أهل العلم في نكاح الكتابيات ، لورود آيتين قال الله تعالى في الأولى منهما : "ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن" (البقرة/٢٢١) ، فقد حرمت هذه الآية على المسلمين نكاح المشركات. وقال تعالى في الثانية منهما : "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن" (المائدة/٥). فقد أباحت هذه الآية نكاح الكتابيات.
وبناء على ورود هاتين الآيتين اختلف أهل العلم في نكاح الكتابيات :
ـــ فذهب الجمهور إلى جوازه اعتماداً على آية المائدة ،وجمعوا بين الآيتين بأنه لاتعارض بينهما ، لأن آية البقرة في المشركات غير الكتابيات وهؤلاء لايحل زواجهن ، أما آية المائدة فهي في الكتابيات خاصة ، ونكاحهن جائز بحكم هذه الآية.
وذهب ابن عمر إلى أنه لايجوز نكاح الكتابيات استناداً إلى آية المائدة ، ويقول : لاأعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن".
والمتأمل في هذا يجد أن الاختلاف بينهم كان بسبب اختلاف رأيهم في الجمع بين النصين.
وللترجيح بين النصوص أسباب كثيرة استوفاها علماء الأصول في كتبهم ، فليرجع إليها من شاء الوقوف عليها مع أمثلتها
٩. الاختلاف بسبب الاجتهاد فيما لانص فيه : كان الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم يسألون رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عما يعرض لهم . أما بعد وفاته فقد كانوا إذا جدت قضية بحثوا عن حكمها في كتاب الله تعالى ، فإن لم يجدوا لها حكماً في كتاب الله نظروا في سنة رسول الله ، فإن لم يجدوا لها حكماً فيها اجتهدوا رأيهم للوصول إلى حكمها.
ومما يدل على مشروعية ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول r حين بعثه إلى اليمن قال له : (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول الله على صدره ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله). وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم ، وصححه آخرون نظراً لصحة بعض طرقه ، ولاشتهاره وتلقي أهل العلم له بالقبول (وتجد تفصيل ذلك في كتابنا "المستخلص في علم أصول الفقه" ).
وأخرج البيهقي عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين ، وقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا . فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم ، فإن أجمعوا أمْرَهُم على رأي قضى به ".إهـ
وكان الصحابة يسأل بعضهم بعضاً عن معضلات المسائل . قال سعيد بن المسيب : كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن ". يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
وقد سار على هذا النهج التابعون ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين ، فكانوا إذا لم يجدوا للمسألة نصاً في الكتاب أو السنة اجتهدوا رأيهم . ومن الطبيعي أن تتباين اجتهاداتهم تبعاً لتباين مناهجهم في البحث ، ومداركهم التي حباهم الله تعالى إياها.
لهذا اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة ، فذهب ابن عباس إلى أن الجد يحجب الإخوة لإطلاق لفظ الأب عليه . وذهب عمر وعلي وزيد إلى أن الإخوة الأشقاء يقاسمون الجد
في الميراث ، كما اختلفوا في العَول في الفرائض عند تزاحم الفروض ، واختلفوا في قتل الجماعة بالواحد ، وغير ذلك .
فلو كانت هناك نصوص بهذه المسائل لحكَّموها ، ولكن لما لم يكن فيها نص اجتهدوا فيها برأيهم استنادا إلى روح الشريعة ومقاصدها.
١٠. ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية
التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة ، هي : القرآن والسنة والإجماع والقياس .
وذهب جمهور العلماء إلى الاستدلال بها ، وإلى أنها مرتبة في الاستدلال بها على الترتيب المذكور.
والدليل على الاستدلال بها قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }.
والدليل على ترتيبها في الاستدلال : ماروى أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول حين بعثه إلى اليمن قال له:(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله ، قال:فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال:فبسنة رسول الله ، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو . قال: فضرب رسول الله على صدره ، وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)).
وهناك أدلة أخرى لم يتفق جمهور أهل العلم على الاستدلال بها فيما بينهم ، وأشهرها : الاستحسان ، والمصلحة المرسلة ، والاستصحاب ، والعرف ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا ، وعمل أهل المدينة.
وسأذكر باختصار دليلين مما اختلفوا في الاحتجاج بهما (بالرجوع إلى : "أثرالاختلاف في القواعد الأصولية" ):
أ. عمل أهل المدينة : يرى الإمام مالك أن إجماع أهل المدينة على شيء يعتبر حجة يستدل بها على الأحكام الشرعية ، ولهذا فإنه يحتج كثيراً في موطئه بعمل أهل المدينة . أما غيره من المجتهدين فقد يوافقه على العمل بهذا إذا دل دليل على ذلك ، وقد لايوافقه.
ومثال ذلك : " فائتة السفر ، فقد ذهب مالك إلى أن من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر كما وجبت عليه ، قال في الموطأ : " من أدرك الوقت وهو في ســـفر ، فأخر الصلاة ســاهياً أو ناسياً حتى قدم على أهله ، أنه إن كان قدم على أهله وهو في الوقت فليصل صلاة المقيم ، وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصل صلاة المسافر ، لأنه يقضي مثل الذي كان عليه . قال مالك : وهذا الأمر هو الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا". إهـ
وإلى مثل ماذهب إليه الإمام مالك ذهبت الحنفية . أما الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن الفائتة في السفر إذا صلاها في الحضر صلاها صلاة حضر ، وحجتهم في ذلك أن القصر رخصة من رخص السفر فيبطل بزواله ، كالمسح على الخفين ثلاثاً".
ب. القياس : عرف ابن الحاجب القياس بقوله : " هو مساواة فرع لأصل في علة حكمه ".
وقد اختلف العلماء في أمر التعبد بالقياس في الشرعيات ، فكانوا فيه على أربعة مذاهب :
الأول : أنه يستحيل التعبد به عقلاً ، وهذا هو قول إبراهيم النظَّام والشيعة ، وجماعة من معتزلي بغداد.
الثاني : وجوب التعبد به عقلاً ، وهذا هو قول القفال من أصحاب الشافعي ، وأبي الحسن البصري.
الثالث جواز التعبد به عقلاً ، إلا أنه لم يرد التعبد به شرعاً ، بل ورد الشرع بحظره ، وهذا قول داود بن علي الأصفهاني الظاهري وابنه محمد وجميع أهل الظاهر ومنهم ابن حزم ، والقاشاني والنهرواني ، غير أن داود وابنه والقاشاني والنهرواني كانوا يقولون بالقياس فيما كانت علته منصوصة أو مومى إليها.
الرابع : جواز التعبد به عقلاً ووقوعه شرعاً ، وهذا هو قول السلف من الصحابة والتابعين ، والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين .
ولقد كان الخلاف في جواز الاحتجاج بالقياس ، وعدم جوازه ، سبيلاً إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية نكتفي بذكر واحد منها:
ـــ وقوع الربا في الأصناف التي لم تذكر في الحديث : فقد جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". رواه مسلم.
فأجمع المسلمون على تحريم الربا في كلٍ من هذه الأصناف الستة المنصوص عليها ، ولكنهم اختلفوا فيما وراءها ، هل يقع فيه الربا أو لا؟
فذهب الجمهور إلى أن كل صنف يشابه هذه الأصناف في العلة يجري فيه الربا كما جرى فيها ، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه العلة.
وذهب أهل الظاهر إلى أن الربا لايقع في غير هذه الأصناف الستة ، ولا يتعدى حكم الربا إليها بناءً على عدم جواز القياس عندهم ، فلا ربا عندهم في الأرز والحمّص والعدس والذرة وغير ذلك.
هذه هي أهم أسباب الاختلاف ذكرتها باختصار شديد ، وهناك أسباب أخرى لايتسع الوقت لذكرها،ويكفينا في هذا المجال أن نتوصل إلى النتائج التالية :
١. لقد كان اختلاف العلماء أمراً طبيعياً للأسباب المذكورة سابقاً ، أو لاختلاف الأفهام. وفي ذلك رحمة للأمة وتوسعة عليها.
قال عمر بن عبد العزيز : " ماأحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة".
وروى ابن عبد البر في الفقيه والمتفقه (٢/٦٩) عن سفيان الثوري أنه قال : " مااختلف فيه الفقهاء ، فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذوا به ".
٢. لا يجوز الإنكار في مسائل الاختلاف ، فلكل مذهب دليله وحجته ، ولا يصح الإنكار إلا فيما أجمع أهل العلم على إنكاره.
فقد روى أبو نعيم في (حلية الأولياء ٦/٣٦٨) بسنده عن سفيان الثوري أنه قال : "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ".
وقال ابن رجب الحنبلي : "والمنكَر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعاً عليه ، فأما المختلف فيه : فمن أصحابنا من قال لا يجب إنكاره على مَن فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً ، واستثنى القاضي في الأحكام السلطانية : وما ضعف فيه الخلاف".
ولما حج المنصور قال لمالك : "قد عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتُنسخ ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه ،
فقال : ياأمير المؤمنين لاتفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، ودانوا به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم". وتنسب هذه القصة أيضاً إلى هارون الرشيد مع الإمام مالك.
فما أحرى علماءنا في هذا الزمان إلى التأدب بهذه الآداب ، وترك التعصب لأي مذهب من المذاهب ، حتى نئد كل فتنة دهماء ، وعصبية عمياء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين

أ . د . محمد فؤاد البرازي
رئيس الرابطة الإسلامية في الدانمارك
عضو مجمع فقهاء الشريعة

https://taghribnews.com/vdcf1cd0.w6dyjaikiw.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز