هاني ادريسي كاتب وباحث من المغرب، عضو اتحاد الكتاب العرب
شارک :
الانقسام بين المسلمين قديم فما العجب منه اليوم نتساءل إذا ما كان المسلمون قد انقسموا حقا إلى مذاهب وطوائف شتّى منذ فجر الإسلام أو لنقل ضحى الإسلام، لا مشاحة في الاصطلاح ـ وأحب أن أقول إنه انقسام مسلمين لا انقسام إسلام ـ فلماذا نتعاطى مع موضوع الاختلاف بنزعة غارقة في الدهشة، وكأن لسان حالنا إن هذا لشيء عجاب! أقول: إن هذا انقسام مسلمين في التأويل لا انقسام إسلام في نفس الأمر. فالأمة لا تجتمع على ضلالة ؛ من هنا يصبح اختلاف المسلمين رحمة، وكان أحرى أن نخشى من وحدة وتماهي على الباطل. إن الاختلاف يترك مساحة للذهاب والإياب وتلاقح الفكر والنظر والاجتهادات. وثمة بون شاسع بين الحقيقتين.
صحيح أنه بالنتيجة نتحدث عن إسلامات بعدد المذاهب والمدارس الإسلامية، لكنه تعدد تأويلات وتعبيرات ووجهات نظر طبيعية، طالما انحصر الخلاف في حدود الدليل الذي هو مناط الاعتبار في الاختلاف. المشكلة تبدأ حينما نتعاطى مع ظاهرة تعدد وانقسام المسلمين بحسب آرائهم بنزعة الدهشة والغرابة بعد مرور أكثر من ۱۴ قرن على هذا الاختلاف. كما أن الأزمة تبدأ متى تناولنا إشكالية الاختلاف من باب التمركز على إحدى التعبيرات بوصفها الحقيقة الإسلامية كلها وباعتبار أن الآخر ليس على شيء؛ أي بتعبير أضبط: حينما نتعاط مع إشكالية الاختلاف من باب أحكام الملل والنحل والأهواء.
كلنا يعلم أن هذا الاختلاف بدأ مع رجالات الإسلام الأوائل، فهم المؤسسون. وحينئذ ليس الطبيعي أن لا يختلف الخلف بعد أن اختلف السلف. واختلاف السلف كانت له أسباب عديدة؛ واحدة منها بل أهمها التحاق صاحب الدعوة ( ص ) بالرفيق الأعلى، فكان لابد حسب منطق ختم الرسالة أن يحدث نوع من الانتقال من مرحلة التنزيل ـ محك المورد الأول ـ إلى مرحلة التأويل ـ محك النوازل ـ؛ وبالجملة حدثت صدمة تاريخية يعلم تفاصيلها كل من اطلع على حوادث الصدر الأول وما بعده. إنه خلاف سياسي بالدرجة الأساس. ثمة من لم يستطع استيعاب إكراهات النقلة من مرحلة التنزيل إلى مرحلة التأويل؛ باختصار كانت فتنة.
الأجيال التي جاءت تباعا ورثت آثار هذه الفتنة، لكن الجسم الإسلامي الكبير والقوي استطاع أن يحافظ على المفاهيم والأطر العامة والكبرى للإسلام، تلك التي لم يدب إليها الاختلاف. فهي ما دامت مجملة تظل موضع اتفاق. الاختلاف مس التفاصيل ولم يمس الكليات. وهذا منشأ الأمل في تقارب الأمة ووحدتها. إن التوحيد والنبوة والقرآن والإيمان باليوم الآخر ظلت مسلمات اعتقاديه عند المسلمين كافة.
أما ما تعلق بالاختلاف في كيفية فهم التوحيد، فكان اختلافا في تصور التنزيه. الدارسون للعقائد الإسلامية والخلافات الكلامية بين أقطاب الكلام الإسلامي يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الاستنتاج، حتى أولئك الذين خانهم التجريد ووقعوا فيما يؤدي إلى التجسيم أو الظلم وما شابه ما فعلوا ذلك بوعي وتصميم مسبق، بل هي النتيجة التي انتهى إليها وهمهم الخاطئ. نحن في النقاشات التفصيلية نستطيع أن نناقش ونعالج أسباب هذه الاستنتاجات، وهذا ما أدى إلى هذا التراث الكلامي الهائل الذي هو ثمرة علمية مفيدة ومعبرة عن أننا أمة تفكر. لكن المشكل حينما تنزل تلك التفاصيل إلى الجمهور بلغته ومداركه وشروطه في التعاطي الساذج مع المعرفة، بدل أن يصعد الجمهور إليها بلغتها ومفاهيمها وشروطها المعقدة، حيث قلما يدركون الإطار الإشكالي والمفهومي لهذه الآراء، أو حينما تتحكم العصبية في تحويل النقاش من دائرة العلم إلى دائرة التهييج، هنا يحدث المحذور. لأن قدرنا أننا ورثنا إسلاما تكاثرت التأويلات حوله، وتكاثرنا حوله حتى أصبحنا قاعدة سوسيولوجية واسعة نعد ديموغرافيا بمئات الملايين، حيث الصراع الأول بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة كان بين عشرات المسلمين، قرروا من خلال اختلافهم وضعية تاريخ بأسره واختلاف العالم بأسره.
وورثنا مذاهب إسلامية كانت قد نشأت واكتملت وتمت وأصبحت مذاهب محروسة لا مفتوحة، كل ذلك حدث قبل ورودنا، فكان أحرى أن نتساءل إزاء من يستشكل على اختلاف وانقسام المذاهب والمدارس الإسلامية، لنقول : إن هذا شيء عجاب! ولكنني قبل المضي في هذا النقاش أحب أن أؤكد على أن المناخ الطاغي اليوم حول هذا الموضوع هو الانفعال والخوف والتهييج وما شابه. لكن لنطمئن، فهذه الأمة مرت بدورات وأزمات كبرى، ولم يكن ذلك ليؤدي إلى انقراضها، لأن مفاتيح الوحدة والتقريب لا زالت حية طرية كبيرة ومهمة وواعدة ولو في حدود الوجدان. إننا لم نتساءل لماذا رغم كل ذلك بقينا أمة لا زالت تملك الإحساس بوحدتها. والجواب، لأن اللاّوعي الإسلامي يملك الجواب حتى لو طغى الوعي وعاند وشط بعيدا. إذا كان الله والنبي والقرآن والعمومات الإسلامية لم تجمعنا، فالمشكلة فينا لا فيما بين أيدينا. هذا معناه أننا نستصغر ما بين أيدينا من عناصر اتفاق ونعطي أهمية بالغة للفروع والتفاصيل التي إن أخرجت المكلف عن مقتضى المذهب فإنها لا تخرجه عن حاق الإسلام.
المسلمون أسرى الموروث الانقسامي لم ينجح المسلمون في التحرر من أسر الموروث التاريخي. ولا زال المذهب والطائفة أكبر من الإسلام ومقاصده. وحين تأتي اللحظة التي نستطيع أن نجعل فيها الطائفة هي الأمة والمذهب هو الإسلام، سنكون قد حققنا ثورة على هذا الأسر التاريخي. ولا نغالي في الخيال أن نتحدث عن إسلام خارج إمكانات المذاهب التي هي بين أيدينا، ولكن الإسلام في منطقه العام وروحه الكلّي الذي يشكل ضمير الأمة ومثال نشاطها المذاهبي. إن الإسلام هنا حاكم على المذاهب وليس العكس. ربما نحن لم نكن قد استحدثنا الخلاف، بل ورثناه وراثة. لكننا منحناه من العصبية والانفعال ما لم يعطه الأولون. مهما بلغنا من أمر الاقتتال الذي جرى بين المسلمين واللغة والذهنية التي تحكمت في تدبير خلافاتهم، فإن ذلك كان طبيعيا. لأن ثقافة عصرهم كانت تسمح بظهور هذه العصبيات أو كما عذرهم طه حسين، أنهم لم يكونوا يعرفون الدستور.
بالتأكيد لا نهون من صور الفظاعات التي شهدها تاريخنا من جراء التطاحن والاقتتال الطائفي، لكن هذا أمر لم تنفرد به الأمة، بل هو ديدن كل الطوائف في العالم. لو أننا تأملنا الصراع الطائفي في أوروبا الحديثة بين الكاثوليك والبروتستانت، لوجدنا من همجية التطاحن والاقتتال ما ينسينا تاريخنا الطائفي الأسود. ليست المشكلة أننا لا زلنا أسرى انقساماتنا التاريخية فحسب، بل المشكلة أننا لم نستطع أن نتقدم في ثقافة التسامح والحوار. لا زالت العصبية هي سلطان الموقف!
المذهبية ثقافة حتى داخل المذهب الواحد هذا يؤكد على أن العصبية حينما تستحكم في النفوس ويصبح لها سلطان في تدبير علاقاتنا مع الآخر الذي يتقاسم معنا الوجود ويتقاسم معنا الإسلام، فسيمتد الخلاف إلى عمق المذهب الواحد، بل إلى عمق الرأي الواحد. ومثال ما جرى بين أتباع المذاهب الأربعة في المدرسة السنية وما جرى بين الأصولية والأخبارية في المدرسة الشيعية الجعفرية دليل على أن الصراع هو أوسع من أن ينحصر بين الشيعة والسنة. وفي تصوري أننا إذا لم ننفذ إلى عمق الأزمة، فإننا حتى لو هدأنا من روع الخلاف السني ـ الشيعي، سنجد أنفسنا أمام فضاءات جديدة للصراع واعتمالات الوعي الشقي.
لقد كانت التجربة السنية في تهدئة الوضع بين المذاهب الأربعة ناجحة، بل تكاد تكون انقلابا سعيدا أمّن نوعا من التلاقي بين أقطاب المذاهب الأربعة ولا يزال يؤمن مزيدا من التداخل والتكامل في حدود النوازل وما تقتضيه من انفتاح على مقتضيات المذاهب فيما بينها. وقد كان سماحة المفتي الشيخ شلتوت قد انطلق من روح هذا الواقع ليؤكد على جواز التعبد بالمذهب الجعفري واعتباره خامس مذهب من مذاهب السنة، لما أدرك أن لا فرق في الأصول إذا ما تعاطينا معها وفق المساطير التي أرساها أعلام وأئمة المذهب، والتي اتضحت بشكل كبير من خلال النشاط المشترك الذي كانت تقوم به دار التقريب وطلائع الوحدة والإصلاح والتقريب منذ العقود الأولى من القرن العشرين. جهود لم تكتمل ولم تؤمن لها شروط الاستمرارية الضرورية.
الأمر يتعلق بحالة العزلة الطويلة بين السنة والشيعة، حيث تطور تجربتين فيهما من الاختلاف ما زاد من حدته تكامل التعبيرين ضمن نسق سوسيو ـ ثقافي أضفى تنوعا أكثر مما هو موجود بين المذاهب السنية؛ بالإضافة إلى بعض الاختلافات التي تمس تفاصيل الأصول. وحيث استمر الخلاف طويلا وانعدم التداخل وارتفعت الرقابة الذاتية المتبادلة بين الطائفتين، وأصبح كل مذهب وكل طائفة تجتهد وتفكر وتنسق آراءها بعيدا عن الرقيب الذاتي الذي تكفله العمومات الإسلامية والمقاصد الكبرى للإسلام، وفي مناخ الصراع والحراب، حيث لم تراع الآخر ولم تتسامح معه ولم تقتصد في خلافها معه، بالإضافة إلى تواطؤ عوامل داخلية بالعوامل الخارجية، كل ذلك أدى إلى تشكل تراث خلافي، يستجيب للعصبية وثقافة الاستئصال أكثر مما يستجيب لثقافة التقارب والتسامح. إنه بتعبير آخر غياب المسؤولية لحظة تأسيس وتنسيق المذاهب، تحكمت به السياسات والدول لما كان المذهب يشكل أيديولوجيا سياسية للدولة.
لقد ازدادت المشكلة فحشا لما نزلت إلى الجمهور وكان مقتضى تحصين أتباع المذاهب تكريس صورة نمطية ضد الآخر. إذا كنت سنيا وسمعت أن الشيعة لهم أذناب بقر أو أنهم أصحاب تقية لا يصدقونك القول أو أن لهم مصحف مختلف أو أنهم يعتقدون بخطأ جبريل في تبليغ الرسالة أو..أو.. فحتما لن يحصل ما يرضي السني الذي قد تتمكن منه هذه الصورة النمطية. وحينما يتصرف السني على أساس كل هذا التراث من التنميط ضد الشيعي، فحتما الشيعي ينظر إليه كما لو أنه عدو لأهل البيت، وبأنه استمرار للمشروع الناصبي. إنها علاقة محكومة بالكثير من الجهل بحقيقة المذهبين، وأن أحكام القيمة التي تنطلق من هنا وهناك مبنية على سيادة هذه الصورة النمطية الراسخة.
السني مستكف بدراسة مذهبه والشيعي كذلك في الأعم الأغلب. وإذا درس ، فعل ذلك من خلال تصميم ومقاربة معينة وليس بحسب ما هو مقرر في المدرسة الأخرى. ما ليس معقولا في نظامنا التربوي، أننا ندعو إلى دراسة علم الأديان المقارن حتى نصل إلى درجة من التسامح والتفهم للآخر المختلف دينيا، لكننا لم ندع إلى إدخال مادة المذاهب الإسلامية في مقرراتنا التربوية ضمن خطة تربوية مدروسة، وليس كما هو واقع في بلداننا أننا ندرس المذاهب الأخرى كما لو كانت مجرد أهواء وبدع وضلالات.
المذهبية ولعبة السياسة ليس العيب في أن تعتمد أنظمة سياسية على مذهب واحد في سياستها الدينية إذا ما كانت خلفية ذلك إجرائية، تفرضها شروط تمذهب مجتمع أو انتماء أغلبيته لذلك المذهب مع الحفاظ على الوضع مفتوحا تجاه المختلفين، وأيضا في تأمين حقوق الأقليات في إطار سياسة دينية متسامحة ومفتوحة. إنها وضعية نظم سياسية من هذا القبيل، لها مشكلات مع قضايا حقوقية أوسع تطال الضروري أحيانا. والأمر يصبح فظيعا لما توظف المذهبية في ممارسة القمع، هنا يصبح الأمر مدعاة للصراع. إن الإشكال هنا في السياسة والتدبير لا في اعتماد الأساس الديني أو المذهبي في حدود الأجرأة والأحوال الشخصية، وعدم اعتبار الخارج عن المذهب بمثابة الخارج عن الدولة أو الإسلام.
آثار السياسة على الصراع المذهبي السياسة حاضرة في كل شيء. وبالتأكيد إن منشأ الصراع هو سياسي، وسيظل سياسي. وقد كانت للمرحوم السيد شرف الدين الموسوي عبارة غاية في الأهمية: أن الذي فرقنا هو السياسة فلتجمعنا السياسة. هنا تصبح المسألة رهينة للإرادة السياسية، وهذا ما لم تظهر معالمه حتى اليوم. سياساتنا تتخبط في أزمة بنيوية وهي غير قادرة على تقديم رؤية أو مشروع لحل مشكلات خدماتية لأقطارها بالأحرى أن تقدم حلولا للعالم الإسلامي. وإذا كانت السياسة تلعب دورا سلبيا في الصراع المذهبي ، فحتما سيكون الاقتصاد والإعلام والثقافة وكل ما يقوم الدولة، طرفا في هذا الصراع وعامل تكريس وتأبيد لمفاعيله.
التدخلات الخارجية ليست العوامل الخارجية هي من أوجد المادة الأولى للصراع المذهبي والطائفي في عالمنا الإسلامي. فنحن اختلفنا وتصارعنا وتقاتلنا قبل أن تكتشف أوروبا القارة الأمريكية وقبل أن تغتصب الصهيونية فلسطين. لكن العامل الخارجي يحضر هنا كمحرض وموجه يستغل كل مواقع الضعف في العالم الإسلامي لتحقيق استراتيجيا أخرى لا علاقة لها بعلم كلامنا، بل لها علاقة بوضع اليد على موارد العالم الإسلامي. وعلى هذا الأساس لو قبل المسلمون أن يؤمنوا لقوى الهيمنة أطماعهم باسم مالك وابن حنبل والشافعي، فحتما سيتشيع الاحتلال لهؤلاء، وإذا أمّنا له أطماعه باسم علي والحسين ، فحتما سيتشيع الاحتلال لعلي والحسين. الاحتلال حاوية فارغة إلا من الأطماع. ولكنه قابل أن يصادق من يؤمن له مصالحه. ومع ذلك هو لن يقبل إلا بمزيد من التناقض والتفرقة بين أبناء العالم الإسلامي، لأن قضية الهيمنة مرفوضة عقلائيا قبل أن يحتاج فيها الإنسان إلى أي دين أو مذهب ما. إن خطر العامل الخارجي يتضاعف هنا إذا ما وجد الفراغ السياسي، أي انعدام تدبير أمثل لأوضاعنا ومشكلاتنا.
الدول الاستعمارية والمهيمنة تعاني هي الأخرى من التعددية والطائفية. وهي تحاربنا بجيوش متعددة الأعراق والمذاهب والطوائف والألوان لا توحّد بينهم سوى الوطنية وخدمة العلم. ولكنها تستغل ضعفنا وغياب الانفراج السياسي الذي وحده يؤمن الدولة من احتقان المجتمع وتمكين العامل الخارجي من استغلال الورقة الطائفية والمذهبية. نعود مرة أخرى لندرك بأن القضية تتعلق بإرادة سياسية وبنمط سياسي، يكرس فينا القابلية للاستعمار.
فحينما تغيب دولة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة الحقيقية، دولة الأحزاب الحقيقية والمجتمع المدني الحيّ والدولة القوية التي تملك الإرادة السياسية والقرار السياسي والسيادة والاستقلال والثقافة الحديثة المفتوحة على التقدم والتنمية والتعايش والتسامح، فلن تنجح دعوات الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي والفئوي والمصالحي؛ لأن دعاوي الصراع في المجتمعات المتخلفة والدول الهشة لا تقف عند الاختلاف المذهبي والطائفي والديني بل تمتدّ إلى ما لا يد لهم فيه: الخلاف العرقي والعنصري والقبائلي والفئوي... يتبع...