وعلى الرغم من أن ثورة الياسمين حق خالص للشعب التونسي ولا يستطيع أي حزب أن ينسبها لنفسه كما يقول الشيخ الغنوشي نفسه إلا أن الدوائر العلمانيَّة المتطرِّفة رأت أنها نصر لحزب النهضة وأنه الذي بإمكانه أن يملأ الفراغ
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : يُدرك الغرب ومعه علمانيو المنطقة العربيَّة أن المستفيد الأكبر من "ثورة الياسمين" هو الإسلام، سواء على المستوى الشعبي أم على المستوى الحركي والتنظيمي، فالصك الذي قدَّمه زين العابدين بن على لحكم تونس على مدى ثلاثة وعشرين عامًا لم يكن سوى محاصرة الإسلام وضرب ثوابته وأسُسه وحصره في مساجد وزوايا محفوفة بالمخاطر يكمن الرعب على أبوابها نتيجة الرقابة الصارمة لها والتعرُّف الدائم من قبل أجهزة الأمن التونسية على "معتادي" التردد عليها..
هذا التفرد السلطوي التونسي في مواجهة الإسلام علّق عليه أحد الباحثين التونسيين قائلًا:
"... تنفرد تونس من ناحية مهاجمة النخبة التحديثيَّة للإسلام المؤسَّساتي في شكلٍ علني, وتفكيك هياكله التحتية باسم إصلاح منهجي للوضع الاجتماعي والثقافي، إنه باسم هذا الإصلاح الجذري يجب أن نسجِّل تصفية الزيتونة وحلّ الحبس, وبناء نظام للأحوال الشخصيَّة، وكذلك اندثار الوظائف التقليديَّة للمجلس الشرعي، وحاصل ذلك يعني تفكيك النظام الثقافي القديم برمته أن هذا المشروع الذي ارتكز على تصميم القيادة السياسيَّة والذي أسهم فيه معظم أصحاب الشهادات الحديثة, قد ترافق بموقف بالغ السلبيَّة ومهين إزاء الإسلام التقليدي".
لذا حاولت فرنسا كثيرًا أن تُبقي على زين العابدين ولو على حساب الضحايا وأنات الشعب وأوجاعه، ولما لم تستطعْ لجأت إلى الخطة التقليديَّة المبنيَّة على تغيير الأشخاص دون المناهج والأدوات، وهو ما بدا واضحًا منذ الوهلة الأولى، ولكن يبدو أن استمرار ثورة الشعب التونسي والوقفة الجادَّة من التنظيمات التونسية الوطنيَّة أربكت الكثير من الحسابات.. وأدت إلى تغيير الأوضاع التونسيَّة في وقتٍ قصير حتى بات كل صباح يحمل لنا الجديد من تونس الخضراء..
وعلى الرغم من أن ثورة الياسمين حق خالص للشعب التونسي ولا يستطيع أي حزب أن ينسبها لنفسه كما يقول الشيخ الغنوشي نفسه إلا أن الدوائر العلمانيَّة المتطرِّفة رأت أنها نصر لحزب النهضة وأنه الذي بإمكانه أن يملأ الفراغ الذي سيخلِّفه انهيار النظام التونسي، وهو ما حمل اعترافًا ضمنيًّا – لم يستطع أحد البوح به – بهشاشة المشروع العلماني وأنه مشروع سلطوي يتم فرضه على الشعوب بقهر السلاح وأنه متى ترك للشعوب حرية الاختيار فإنها ستلجأ لموروثها العقائدي الذي يلبِّي فطرتها ويشبع رغبات كينونتها.. ستلجأ إلى الإسلام..
هذا التطور الذي أفرزته الثورة يفرض تحدياتٍ ضخمة على حزب النهضة التونسي وقائده الشيخ راشد الغنوشي لمواجهة المرحلة التالية لثورة الشعب وكيف سيتمكَّن الحزب من تأسي خطاب يستوعب التغيرات ويتمسك بالثوابت.. ويستفيد من أخطاء المرحلة السابقة حتى لا يصبح الحزب قربانًا يتقرب به الحكام الجدد لنَيْل صكّ الاعتراف كما ناله من قبل زين العابدين..
النهضة والسلطة من الوفاق إلى الصدام
شهدت العلاقة بين السلطة والتيار الإسلامي التونسي حالة من الوفاق مردُّه إلى حالة العداء المشترك لليسار التونسي، ولكن قيام الثورة الاسلامية الإيرانيَّة والتركيز المتزايد على الجوانب السياسيَّة في خطاب الحركة عوضًا عن الجوانب الأخلاقيَّة والثقافيَّة.
ومع تسلم زين العابدين السلطة في السابع من نوفمبر ١٩٨٧ اتّجهت السلطة إلى البدء بإطلاق سراح الغنوشي رئيس الحركة على عكس ما جرت به العادة.. ويبدو أن الدافع إلى ذلك يمكن حصره – كما يقول صلاح الدين الجورشي -في سببين وهما:
١- تقدير شخصي من رئيس الدولة للغنوشي، الذي كان يطمئن إليه بالمقارنة مع بقية العناصر ولا يزال الرئيس بن علي يردِّد أنه عندما كان وزيرًا للداخلية خالف الرئيس بورقيبة في مسألتين، الأولى عندما أمر بورقيبة بحلّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والثانية عندما اعترض على قرار إعدام الغنوشي الذي كان واردًا قبل ساعات قليلة من إصدار الحكم.
٢- الثقل الذي يتمتع به الغنوشي داخل حركته، وهو ما يجعله قادرًا على تمرير أي اتفاق يتم التوصل إليه خلال المفاوضات.
وقد قابل الغنوشي هذه الثقة بثقة أخرى زائدة يوضحها الجورشي بقوله: "..جاء في أول تصريح له بعد خروجه من السجن: ثقتنا في الله وفي الرئيس بن علي كبيرة" وبعدها توالت إجراءات تسريح المساجين حتى لم يبق في المعتقلات سجين واحد، وهكذا تميزت علاقة النهضة بالنظام الجديد خلال سنتين بالثقة النسبيّة المتبادلة، وظهرت التطمينات من الجانبين حول التعاون والاستقرار، وتوالت في هذا السياق –المؤشرات الإيجابيَّة إلى درجة أقلقت الأوساط المخاصمة للإسلاميين– هذه الأوساط التي أصبحت تخشى تكرار السيناريو السوداني أيام تحالف الإخوان مع الرئيس السابق جعفر النميري، فمن جهة السلطة تَمَّ اتخاذ عدد هام من الإجراءات في سباق ما سمي رسميًّا عودة التصالح بين الدولة والدين أو إعادة الاعتبار إلى الهويَّة العربيَّة الإسلاميَّة، (لاحظ أن الجورشي كتب هذا الكلام عام ٩٢) من ذلك إذاعة الأذان في وسائل الإعلام السمعيَّة والبصريَّة وعودة الجامعة الزيتونية وتدعيم المجلس الإسلامي الأعلى والعودة إلى كتابة الدولة للشئون الدينيَّة واعتماد رؤية الهلال في ضبط دخول شهر رمضان وإعلان العيد، وقد يبدو ذلك أمرًا عاديًّا في أي دولة إسلاميَّة، إلا أنه بالمقارنة مع نمط تفكير بورقيبة وأسلوب تعامله مع المسائل ذات الطابع الديني تُعتبر هذه القرارات تحولا هامًّا في تاريخ النظام التونسي يُضاف إلى ذلك اشتراك الحركة في وضع وصياغة الميثاق الوطني وتكليف أحد مستشاري رئيس الدولة بملف التعامل معها.
أما فيما يتعلق بمنح التأشيرة والاعتراف القانوني بحزب النهضة فقد تردَّد النظام كثيرًا أمام هذا الإجراء فرئيس الدولة أكَّد لأكثر من شخصيَّة وطنيَّة أنه لا يزال يبحث الموضوع وأنه لن يمانع إذا توفرت الشروط"، ولكن الصدام المؤجَّل وقع وبدأت نذره عقب الانتخابات التشريعيَّة التي جرت عام ٨٩ وبلغت أوجها في أغسطس ١٩٩٢ والتي تم على إثرها اعتقال ٨٠٠٠ شخص من المنتسبين للحركة وكما يقول الجورشي: "وتواصلت سياسة تقليم الأظافر، إلى أن غابت كل مظاهر المقاومة بمختلف أشكالها، وبذلك حقَّقَت "الخطة الأمنيَّة" أهدافها، وتركت في الوقت نفسه تساؤلات حول الأسباب الرئيسيَّة التي ساعدت كثيرًا على التصفية الميدانيَّة للحركة والتعجيل بسقوط التنظيم الذي كان إلى حدٍّ قريب يُعتبر من الأرقام المجهولة في الساحة السياسيَّة التونسيَّة "هذا الغياب القسري عن الساحة التونسيَّة لسنوات طويلة يقابله الآن رجوع متوقَّع، وهو ما يفرض على الحركة أن تعمل على إنتاج خطاب يتلاءم ويتناسب مع تطورات الأحداث الأخيرة في تونس.
خطاب النهضة بين إرث الماضي وتطورات الحاضر
إذا كانت أهداف حركة الاتّجاه الإسلامي التونسي التاريخيَّة قد تمثلت في الآتي:
- بعث الشخصيَّة الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلاميَّة بأفريقيا، ووضع حدّ لحالة التبعيَّة والاغتراب والضلال.
- تجديد الفكر الإسلامي على ضوء أصول الإسلام الثابتة ومقتضيات الحياة المتطورة وتنقيته من رواسب عصور الانحطاط وآثار التغريب.
- استعادة الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدًا عن كل وصاية داخلية أو هيمنة خارجيَّة.
- إعادة بناء الحياة الاقتصاديَّة على أسس إنسانيَّة وتوزيع الثروة بالبلاد توزيعًا عادلًا على ضوء المبدأ الإسلامي "الرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته" أي "من حق كل فرد أن يتمتع بثمار جهده في حدود مصلحة الجماعة وأن يحصل على حاجته في كل الأحوال" حتى تتمكن الجماهير من حقها الشرعي المسلوب في العيش الكريم، بعيدًا عن كل ضروب الاستغلال والدوران في فلك القوى الاقتصادية الدولية.
- المساهمة في بعث الكيان السياسي والحضاري للإسلام على المستوى المحلي والمغربي والعربي والعالمي وحتى يتم إنقاذ شعوبنا والبشرية جمعاء مما تردَّت فيه من ضياع نفسي وحيف اجتماعي وتسلط دولي.
فإن حركة النهضة وهي تمثل التطور الزمني لحركة الاتجاه الإسلامي يمكنها أن تعتمد الأهداف السابقة ركائز أساسيَّة في خطابها المستقبلي وضعًا في الاعتبار عديدًا من النقاط الهامة:
• تعظيم نهج المراجعات الذي بدأته الحركة في المنفى منذ وقتٍ بعيد وأنتج وثيقة هامة وهي "دروس الماضي وإشكالات الحاضر وتطلُّعات المستقبل" والتي يصفها وليد نويهض (الوسط البحرينية ٢/٥/٢٠٠٨) بأنها "أخطر وثيقة صدرت عن حركة إسلاميَّة عربيَّة معاصرة تقيم فيها تجربتها الخاصة وتنتقد نفسها مكرسةً بذلك مدرسة جديدة في النقد الذاتي، وهي ممارسة غير مسبوقة في الأحزاب الإسلاميَّة" وقد تحدث الشيخ راشد الغنوشي مرارًا عن أهميَّة الاستفادة من تجارب ما قبل الاستقصاء، فحوادث العنف التي ارتكبتها الحركة، والتي طالت في وقتٍ من الأوقات مقر حزب التجمع الدستوري الحاكم رفضتها الحركة نفسها في وقتٍ لاحق واعترفت بخطئها، وهنا يأتي دور المراجعات الدائم لفكر الحركة وحركتها التنظيميَّة.
• ضرورة أن يشمل خطاب النهضة تصالحًا مع ثوابت العقيدة وركائزها بما يسهم في حفظ هوية الأمة العربيَّة والإسلاميَّة في مواجهة تيار تغريبي انفرد بالساحة لسنوات طويلة وأعمل فيها معاول الهدم الفرنكفوني على حين غياب من أصحاب المشروع المعبر عن هويَّة الأمَّة وحضارتها، فخطاب النهضة اليوم يبدو متصالحًا مع قيم الحداثة منفتحًا على الآخر، وهو مسلك لا تثريب عليه طالما أنه في دائرة المسموح به غير متجاوز لعقائد وأسس راسخة غير قابلة للتأويل أو الاجتهاد، فما أخشاه أن تدفع اللحظة الراهنة حزب النهضة إلى إثبات حسن نيته بالتفريط في الأسس والثوابت التي تميزه عن غيره من التيارات الحداثيَّة واليساريَّة.
• ضرورة أن يركز الخطاب النهضوي على معالجة أوجُه التشوهات الروحيَّة والتربوية التي طالت المجتمع التونسي بعد عقود من ممارسة الفرنسة والتغريب على نطاق واسع على حساب منظومة القيم والأخلاق، والتي أدت إلى ممارسة ما يقرب من ٧٥% من شباب تونس للزنا.. فلا ينبغي أن ينشغل الخطاب بالتشقيقات السياسيَّة على حساب الركائز التربويَّة والأخلاقيَّة، فجزءٌ كبير من محنة الأمة الإسلاميَّة ككل يكمن في انهيار منظومة القيم والأخلاق، والتي تلعب دورًا بارزًا في صعودها وهبوطها.. المجتمع التونسي في حاجة ملحَّة إلى حالة من الاستشفاء الروحي بعد نكسة أخلاقيَّة ضربت الأسرة التونسيَّة في ترابطها وتماسكها.
• من الأهمية بمكان أن يركز خطاب ما بعد الثورة على إعلاء قيم الحوار مع القوى المعتدلة من العلمانيين واليساريين بعيدًا عن التيار الاستئصالي الذي لعب دور المحلّل في ذبح الحريات طيلة السنوات الماضية.... هذا الحوار حدد الغنوشي المرجو من ورائه في مقاربة له سابقة بعنوان "هل هناك فرص لعمل مشترك بين الإسلاميين والعلمانيين" بقوله: "مطلوب من الإسلاميين أن يطمئنوا العلمانيين أن الإسلام لن ينتقص من حقوقهم وحرياتهم الفرديَّة والجماعيَّة، ومطلوب من العلمانيين أن يعترفوا بخصوصية هذه الأمَّة في علاقتها بالإسلام، فيكفّوا عن محاولة تجاهله أو تفكيكه، منشدّين إلى النموذج الديمقراطي الغربي في علاقته بالدين، كما تفعل نخبة حداثاويَّة في المغرب العربي ومصر، فكانت إلى جانب الأصوليَّة الإسلاميَّة عائقًا أمام العمل الجبهوي بينما تقدم في اليمن، بسبب ارتضاء الجميع الإسلام أرضيَّة مشتركة، فلم ينشغلوا بالجدل الأيديولوجي، واتجهوا مجتمعين لمواجهة الاستبداد.. محشّدين الجماهير وراء هذا الهدف وبناء نموذج مجتمعي على أساس المواطنة".
كما هو مطالب من الخطاب النهضوي بإقامة الحوار مع القوى العلمانيَّة المعتدلة فهو مطالب في الوقت ذاته بالاعتراف بالتعدد داخل المحيط الإسلامي ذاته، فالنهضة ليست منفردة بالساحة الإسلاميَّة التونسيَّة، ومن الخطأ أن تظن ذلك، والخطأ الأكبر أن تحاول تجاهل التعدد وإيصال رسالة للجميع أنها وحدها التي تمثل التيار الإسلامي كما يحلو للبعض أن يفعل في بعض الأقطار العربيَّة!! فهناك تيار سلفي آخذ في النمو والتشكل داخل المحيط التونسي، وهذا التيار يحتاج إلى الاحتواء والترشيد حتى لا تتحول بوصلته إلى الاتجاه الخاطئ فهو تيار يحتاجه المجتمع التونسي اليوم في رحلته نحو البحث عن هويتِه العربيَّة والإسلاميَّة، ومن الخطأ أن يتركه حزب النهضة أو يستعلي عليه من منطلق الأسبقيَّة والقدم بل عليه أن يعظم حواره معه وأن يتسع صدره له كما اتسع للحداثيين والعلمانيين وصولًا إلى عمل إسلامي مشترك يحفظ على المجتمع هويته ويعيد له حيويته.
فحزب النهضة اليوم مطالب أن ينظر بعين للماضي ليستفيد.. وبأخرى للحاضر ليبني ويشيد.. سمير العركي