الشيخ راغب حرب هزم "اسرائيل" وهي في عزّ قوّتها وجبروتها.. هزمها في كلّ موقف كسر فيه هيبة المحتلّ وفي كلّ تفصيل حاول العملاء فرضه على أهل القرى المحتلّة.. هزمها حين حوّل كلّ فرصة إلى ساحة مواجهة مع الصهاينة، وحين دعم حلّ عمل مسلّح مقاوِم..
شارک :
ليلى عماشا
هناك، خلف المعابر التي كانت، وراء بيت ياحون وباتر وكفرتبنيت، فرضَ الإحتلال على السكّان أنماط حياة تشبه الأسر.. كانت منطقة "الشريط الحدودي" معتقَلًا كبيرًا، وكلّ المعتقلين فيه معرّضين في أي ثانية لبطش العدو ولنذالة عملائه، للأسر، للقتل، للخطف، للتنكيل ولكلّ ما قد يخطر بالبال من همجية وحقد تميّز بهم اللحديين في تعاطيهم مع أهل القرى..
وهناك، خلف المعابر تلك، في جبشيت المحتلّة، تحت وطأة الظلم اليومي والتهديد المتواصل والخطر الذي لا ينام، عاش مقاومٌ خمينيّ الملامح، حرٌّ معمّم، بطلٌ لا يخشى في الحقِّ رصاصَ الصهاينة وعملائهم.. هناك، في قرى القهر الحدوديّ، عاشَ واستشهد شيخٌ ثوريّ عامليّ صلبٌ مؤتمن حنون: الشيخ راغب حرب.
كلّ من عايش طبيعة الحياة تحت الإحتلال، يدرك جيّدًا صعوبة التحرّك في القرى المحتلّة، وبالقياس المنطقي، يقارب العمل المقاوم المنظم حدود الإستحالة، فعيون اللحديين المنتشرة في كلّ مكان جاهزة على مدار الساعة للمراقبة والوشاية والإعتقال والإعدام، الإعدام الميداني..
لكن الشيخ راغب، الذي عُرف شيخًا يحمل ثوريّته عمامةً من عبق الخمينيّة، سلك الطريق الذي بدا مستحيلًا، ووصل.. شهيدًا.
هو الشيخ راغب حرب، ابن البيت العامليّ المقاوم، كافل يتامى جبل عامل الذي حوّل قسمًا من داره إلى مأوى لمن استطاع إليهم سبيلًا منهم، والذي تشهد البيوت في "الشرقية" وفي جبشيت وفي مختلف قرى المنطقة على لهفته في نشر الوعي المقاوم وفي تكريس القيم، والذي يتحدّث كلّ من عرفه عن روحه النقيّة الساعية لغوث كلّ ملهوف، والذي زرع حيثما مرّ في مساجد وقرى الجنوب البذرة الطيبة لمجموعات جهادية تقاتل العدوّ، في زمن كانت فيه مقولة "العين لا تقاوم المخرَز" عنوانًا لكثير من خطابات الإستسلام والهزيمة.
وهو القائد الذي سار في طريق الحقّ واعيًا للمخاطر التي تتربص به وتنتظره عند كل مفترق، الذي عاد إلى جبشيت عند الإجتياح الصهيوني وصار يزور بيوتها بيتًا بيتًا ليذكّر الناس أنّ "التعامل مع إسرائيل حرام" وليبني مع الموثوقين من أهل الحبّ الخلايا الأولى لمسيرة العين التي تكسر المخرز، وتسكب النور في كلّ زمان.. يُحكى أنّه في تلك الفترة، كان الصهاينة يحبّون استعراض دباباتهم وأسلحتهم في ساحات القرى، وأنّ الشيخ طلب إلى أهالي جبشيت أن يكبّروا ما إن تدخل الدبابات إلى ساحة البلدة وأن يقوموا بالتجمع فورًا في الساحة مردّدين "الله أكبر"..
وهذا ما حدث فعلًا وتكرّر في كلّ مرّة حاول الصهاينة فيها أن يستعرضوا قوّتهم، ممّا دفعهم إلى مداهمة دار الشيخ راغب عشرات المرّات، تارّة لدعوته إلى التفاوض، الأمر الذي كان يرفضه رفضًا قاطعًا، وطورًا لتهديده وترويع أهل الدار بمن فيهم اليتيمات اللّواتي كنّ برعايته وزوجته. استمرّ الأمر على هذا المنوال حتى اعتقاله في معتقل أنصار، والذي أشعل الغضب في جبشيت وفي مختلف قرى جبل عامل مما أجبر الصهاينة على إطلاق سراحه، فعاد إلى جبشيت ليكمل ما بدأ به قائلًا "إسرائيل وهمٌ مزّقناه"..
تابع الشيخ عمله التوعوي والمقاوم والجهادي رغم تحذيرات محبّيه له لا سيّما أنّه كان يتنقل ويتحرّك في المنطقة على مرأى من عيون العملاء المجنّدين لمراقبته ومتابعته وتقصّي حركته، وكان يردّد دائمًا: لن يعتقلوني، سيغتالونني.. وهذا ما حدث.
في ليلة الجمعة ١٦ شباط ١٩٨٤، وبعد خروجه من المسجد وإنهاء لقاء له مع مجموعة من المجاهدين.. خرج من مكان اللقاء متوجهًا إلى بيته، لكنّ صوت الرصاصات أنبأ من كانوا بلقائه أنّ يد الغدر امتدت لتغتال الشيخ راغب.. فاستشهد مجاهدًا، مرتديًا عباءة الإمام الخمينيّ، ومؤمنًا أنّ كرامة أهل الحقّ من الله الشهادة..
الشيخ راغب حرب هزم "اسرائيل" وهي في عزّ قوّتها وجبروتها.. هزمها في كلّ موقف كسر فيه هيبة المحتلّ وفي كلّ تفصيل حاول العملاء فرضه على أهل القرى المحتلّة.. هزمها حين حوّل كلّ فرصة إلى ساحة مواجهة مع الصهاينة، وحين دعم حلّ عمل مسلّح مقاوِم.. وهزمها حين ظنّت أنّ بقتله تطفىء شعلة المقاومة، وحين أرسلت إليه من يقتله غدرًا، فما حصدت إلّا الخيبة التي أسّست لفرار الصهاينة من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠، والتي ما زالت تتصاعد ولن تتوقف قبل "زوال إسرائيل من الوجود"..