والمباهلة هي طريقة إسلاميَّة تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطّرفين أن يقرَّ بالحقيقة من وجهة نظر الطّرف الآخر، فيدعو الطَّرف الّذي يعتبر نفسه أنّه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة.بأن يلتقي مع أحبِّ النّاسِ إليه مع الطّرفِ الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين.
شارک :
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
في اليوم الرّابع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام كان يوم المباهلة.
والمباهلة هي طريقة إسلاميَّة تكون في نهاية الحوار بين الآراء المختلفة، عندما يستنفد الجميع الحوار فيما بينهم حول قضايا العقيدة، ويأبى أحد الطّرفين أن يقرَّ بالحقيقة من وجهة نظر الطّرف الآخر، فيدعو الطَّرف الّذي يعتبر نفسه أنّه يملك الحقيقة، الجانب المنكر إلى المباهلة، بأن يلتقي مع أحبِّ النّاسِ إليه مع الطّرفِ الآخر فيمن يختاره، ويقفا أمام الله ليدعواه ويبتهلا إليه أن يجعل لعنته على الكاذبين. ومن المعروف في تجربة المباهلة، أنّ الله تعالى يُنـزل العذاب على الكاذب منهما1، [وذلك قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]].
[فقد جاء في] رواية المحدّث الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي الّتي رواها في تفسيره عن الإمام جعفر الصّادق (ع)، قال: "إنَّ نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (ص) ـ وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد ـ وحضرت صلواتهم، فأقبلوا يضربون النّاقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله، هذا في مسجدك؟ فقال (ص): دعوهم. فلمّا فرغوا، دنوا من رسول الله (ص)، فقالوا: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنّي رسول الله، وأنَّ عيسى (ع) عبدٌ مخلوق يأكل ويشرب ويُحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنـزل الوحي على رسول الله (ص)، قال: قل لهم: ما تقولون في آدم؛ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح؟ فسألهم النبيّ (ص)، فقالوا: نعم. قال: فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 59]، وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} إلى قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]".
ويبدو أنّ نصارى نجران قد دخلوا في الحجاج حول هذا الموضوع وفي غيره، ويبدو من خلال جوِّ الآية، أنَّ الحجاج وصل إلى طريقٍ مسدود، بحيث أغلقوا عقولهم عن التَّفكير فيما قاله لهم النبيّ (ص) عن الله تعالى.
"فقال رسول الله (ص): فباهلوني، فإن كنت صادقاً أنزلت اللَّعنة عليكم، وإن كنت كاذباً أُنزلت عليَّ. فقالوا: أنصفت. فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلى منازلهم، قال رؤساؤهم السيِّد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنَّه ليس نبيّاً، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لـم نباهله، فإنَّه لا يقدِّم أهل بيته إلَّا وهو صادق. فلمّا أصبحوا، جاؤوا إلى رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (ع)، فقال النّصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمّه ووصيّه و.. عليّ بن أبي طالب (ع)، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين (ع)، ففرقوا، فقالوا لرسول الله (ص): نعطيك الرّضى فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله (ص) على الجزية وانصرفوا".
والمباهلة ثابتة بالنصّ القرآنيّ، وهي تدلّ على المنـزلة الكبرى لأهل البيت (ع)، حيث قدَّمهم رسول الله (ص) إلى المباهلة بأمرٍ من الله سبحانه، باعتبار أنهم أقرب النّاس إليه، ونحن نعلم أنّ القرب من النبيّ ليس ملاكه النّسب وحده، ولكن بالفضائل التي يتميّزون بها عند الله.
ونستوحي [من قصّة المباهلة]، أن لا مانع من أن يدخل غير المسلمين في المسجد، حتى إنّ النبيّ (ص) ومن بعده، كانوا يستقبلون الوفود في المسجد حتّى من المشركين...
وأنَّ ابن البنت يطلق عليه ابن، فلمَّا نزل قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ}، ما كان من النبيّ (ص)، إلّا أن أخرج معه الحسنين، وهما ابنا ابنته...
ثمّ التّعبير عن عليّ (ع) من أنّه نفسُ رسول الله، يوحي بأنَّ شخصيّة عليّ (ع) قد اندمجت بشخصيّة رسول الله (ص) علماً وروحانيّة وأخلاقاً وزهداً وشجاعةً، بحيث كان يمثّل رسول الله (ص) في ذاته، كما كان رسول الله يتمثّل فيه...
[ومما نستلهمه من القصّة، أهميّة ممارسة] الحوار، ليس مع أهل الكتاب فحسب، بل مع كلّ الناس الّذين نختلف معهم في الفكر، سواء كان دينيّاً في مجال العقيدة، أو ثقافيّاً في مضمار المفاهيم، أو في حقول السياسة والاجتماع وغيرها...
وفي درس المباهلة الكثير من الإيحاءات، وعلينا ونحن نعيش في ذكرى المباهلة، أن ندخل إلى أعماقنا لنفهمها فهماً يبتعد بها عن المناسبة المحدودة في الزّمان والمكان والأشخاص، لننطلق بها من أجل أن نتحرّك في حياتنا كلّها، وفي واقعنا كلّه، عندما نختلف مع الآخرين ونحاورهم، فالأمّة القرآنيّة هي الأمّة التي يعيش القرآن نوراً في عقولها، ويقظة في قلوبها، وطهراً في مشاعرها، وحركة في واقعها.