لا يشبه صراعنا العربي الحالي مع العدو الصهيوني، كثيرًا من الصراعات في التاريخ الإنساني المعروف، والتي كانت كلها محركًا ودافعًا لصناعة هذا التاريخ، بل يمكن القول فصلًا أن هذا الصراع هو صراع بقاء خام، صراع بين حق وباطل، وليس بينهما بين، صراع لا تختلط فيه المصلحة بالمبدأ ولا يصلح لنبل غاياته الوصول بما هو دونها من أساليب، صراع نحن أو هم.
شارک :
وفي ظل الظرف التاريخي الحالي، بيننا وبين عدونا، وقعنا في فخ اختلال علائقي هائل، سواء في مناسبة الواقع أو توزيع القوى، إذ يستأثر الكيان المصنوع والممول والمستمر بإرادة غربية عليا، على كل مفاتح القوة والإمداد، بينما نعاني أمامهم على مستويين، فمن جهة الحكومات خاضعة أو عاجزة، أو في الغالب كليها معًا، والشعوب أعجز من هذه الأنظمة المهترئة، ولا تقوى على امتلاك شروط إعادة تجديد بنيتها الاجتماعية والسياسية أولًا، في وجه عدو خارجي وعدو داخلي يحكم ويسيطر ويخنق، وتحولت الدول العربية بكل مستوياتها إلى طرف مكشوف تمامًا أمام أعدائها، وقصعة يتداعى إليها من يرغب ومن يريد.
في هذا المناخ الخانق ومن وسط الآمال الميتة، يخرج عدي التميمي، بطل من أرض فلسطين العربية، المحتلة كما شقيقاتها العربية بالضبط، يذيق العدو الأول والحقيقي بعض ما قدمت يداه من رعب وقهر وخوف، ويزرع في قلب كل شارع وكل مغتصبة وكل مدينة في الكيان راية وحيدة منتصرة، اليد الفلسطينية الخالية إلا من إيمان وصدق ووعد الله، تنهض وتعبر وتأخذ بثأر كل طفل عربي، وتبرد قلب كل أم عربية، وتمنحنا مع الفرحة، اليقين بالنصر الآتي والحتمي.
هذا الفتى صاحب الـ 22 ربيعًا، والخارج من مخيم يحاصره، حتى الخنق، جبروت الاحتلال وجدار الفصل البغيض وحكم السلطة العميلة والمستوطنات التي تكاد تمص ما تبقى من روحه، خرج ليثبت من جديد قدرة الدم الزكي على الرفض وقول صرخة لا المدوية، ويؤكد على كلمة سماحة السيد الخالدة "أوهن من بيت العنكبوت"، وطالما امتلك أي فرد عربي الإيمان والتصميم، فإنه يستطيع أن ينشب مخالبه في رقبة هذا الكيان الهش، ويهزه إلى أعمق الأعماق.
ولعل أعظم مشاهد قصة عدي التميمي، هي قصة النهاية، التي تأتي أروع ما تأتي في قصص شهداء الفداء وأساطير الشعوب الخالدة أبدًا، ذلك التجسيد بالدم للقضية والشرف والعزة، والروح التي تقاتل باحثة ومتلمسة طريقها إلى سماوات الجلال والجمال والكمال، النفوس الأبية التي لا تكتفي فقط بتجاوز واقعها وواقع أمتها، لكنها تعمد الطريق الوحيد للخلاص الجمعي للإنسان والوطن.
حين يكتب أي شخص عن عدي التميمي، فإنه لا يكتب بحثًا عن التقليب في ماضٍ فات وقته وعبرنا مشاهده، بل هذه الكتابة تحديدًا موجهة إلى أجيال جديدة وشابة، لم تعاصر كل وقائع الصراع مع العدو ومن خلف العدو، وبالتالي فإن قصة هذا الصراع تعرضت لتلاعب الأهواء وتقلب الأغراض بين رواتها، قصدًا وعمدًا لطمس الحقائق وتمييع المسؤوليات، ثم تضيف عليها ما يغطي عليها أو يشوه وجهها، لإن المطلوب الأول من عدونا –ولا يزال- تغييب الذاكرة العربية، وسحق الوعي واغتيال الهوية الجامعة للأمة، للوصول بها إلى مرحلة الكفر بالقضية، والضغط على أعصابها الحساسة المكشوفة إلى درجة التخلي عن الدور الواجب والتكاليف المطلوبة.
والواجب والمطلوب الآن، من كل عربي حقيقي، أن لا يتوقف عن تذكر الشهداء والأبطال، ووضعهم في مدار أساطير الفداء الشريف والإقدام المذهل على الجهاد في سبيل الله، كأعظم ما يكون هذا الفداء، وذكرهم دومًا، وعلى الملأ، وإعادة ترديد أسمائهم تحيط بها غلالات الجلال والإكرام وترافقها أناشيد البطولة والشهادة والعزة.
هؤلاء الشهداء هم الأوراق/ الزهرات الملونة، التي تجمل الأيام والسنوات، وتنفي عنا -كأمة وأفراد- صفات التيبس والاستسلام، هم الرد الكامل والوافي على كل من يرغب في تدمير إرادتنا وبالتالي كسرنا دون رصاصة واحدة، وكما منحونا شرف الشهادة وأكاليل المجد والفخر، فلهم في أعناقنا دين استمرار ذكرهم، طوال اليوم وكل الأيام، تحية واجبة وكلمة حق في وجه زمن جائر، هؤلاء هم نحن في أفضل صورة لنا وأجمل تمثيل إنساني ممكن للعربي والمسلم، لم يهن المواطن العربي في فلسطين، كما لم يهن القلب العربي، وعدي البطل يعيد كتابة قصص المجاهدين الأولين، عز الدين وسعد وسليمان ورضوان وقاسم.