كان لافتاً أن يجول بوتين في بداية ولايته الجديدة على إسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن، لافتتاح ثلاثة مشاريع رمزية: النصب التذكاري في نتانيا لانتصار الجيش الأحمر على ألمانيا النازية، والمركز الروسي للثقافة والعلوم في بيت لحم، ودار الحجاج الروس في الأردن. ففي الأحوال العادية لا يتكبّد رئيس دولة عظمى عناء السفر لأسباب شبه بروتوكولية بل يوكل الأمر إلى وزير الثقافة أو الخارجية، ولهذا طرحت أسئلة عن مغزى هذه الجولة وتوقيتها.
وكأنّ الضيف الروسي الذي سيلتقي كبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين ويتداول معهم قضايا ثنائية وإقليمية، يحمل في جعبته أسئلة عديدة عن التطوّرات في أنحاء عديدة من المنطقة، لا سيّما في مصر وسوريا وإيران، وكذلك أفكاراً من شأنها ربّما التمهيد للمساهمة في حلّ النزاع المزمن بين الإسرائيليين والفلسطينيين، في الوقت الذي غاب فيه هذا النزاع من الروزنامة المحلية والعربية والدولية عقب موجات «الربيع العربي».
ذلك أنّ المؤسّستين السياسية والعسكرية في إسرائيل تعيان في حساب الربح والخسارة أنّ ما يجري في الإقليم من تفاعلات نتيجة الانتفاضات والثورات يتجّه لصالحهما على المديين القريب والمتوسّط، نظراً إلى أولوية البناء والإصلاح الداخليين المعقدين وإعادة تركيب السلطات الجديدة ـ التي ستستغرق المزيد من الوقت ـ في الدول المحيطة على ما عداها من اهتمامات متعلّقة باستعادة الأراضي المحتلّة وإقامة الدولة العتيدة. وعليه، فإنّ إسرائيل عزّزت مظلّتها الأمنية في المنطقة لعقد بكامله، حسب ديبلوماسي غير أوروبي.
ولعلّ لهذا الاهتمام الروسي أربعة أسباب: الأوّل، ناجم عن انشغال الرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته في الإعداد لمعركته الانتخابية للفوز بولاية ثانية، وكأنّ بوتين يرغب في ملء الفراغ الأميركي الحاصل للتحضير للمرحلة المقبلة في ظلّ شلل أوروبا نتيجة أزماتها الاقتصادية والمالية المستفحلة.
الثاني، إظهار حرصه على ضرورة حلّ القضية الفلسطينية بالطرق السلميّة من خلال عقد مؤتمر دولي بمشاركة الدول الناشئة وتفعيل اللجنة الرباعية الدولية وتوسيعها.
والغاية هي تغيير الصورة التي تحاول بعض الدوائر الغربية والعربية إلصاقها بموسكو على أنّها حليفة للأنظمة المتشدّدة ولا تهتم بتطلّعات الشعوب العربية إلى الحرية والعدالة. وعليه رأى الكرملين أنّ أقصر طريق للدخول مجدداً إلى وعي الرأي العام العربي هو الباب الفلسطيني خصوصاً، والأردني بدرجة أقلّ.
الثالث، جسّ نبض كبار المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين حول الأزمة السورية بالذات والاستماع إلى موقفهم الصريح وتوقعاتهم. ذلك أنّ دول الجوار، خصوصاً عمان، هي خير مَن يعبّر عن المخاطر الحقيقية الناجمة عن استفحال هذه الأزمة على مصالحها المباشرة أمنيّاً واقتصادياً من جهة، أو احتمال وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في دمشق من جهة أخرى.
فالأردن الحذر يوازن بين اتجاهين: الخليجي الذي يحضّه على دعم المعارضة السورية أكثر فأكثر، وذلك الداعي إلى تسوية سياسية وديبلوماسية. من هنا، جاء اقتراح موسكو دعوة دول الجوار السوري إلى المشاركة في المؤتمر الدولي لحلّ الأزمة السورية.
الرابع، إمرار نصائح للحكومة الإسرائيلية الجديدة بعد تزايد التخمينات عن احتمال قيامها بقصف المواقع النووية الإيرانية في الأشهر القليلة المقبلة، وشرح ما يمكن أن تجرّه هذه الحرب من تداعيات على النظام العالمي عموماً، وعلى المنطقة من البحر الأبيض المتوسط حتى بحر قزوين وجنوب القوقاز، أي على الحديقة الخلفية لروسيا خصوصاً. وربّما يلتقي بوتين، في هذه المرحلة بالذات، وأوباما على توجيه الرسالة عينها في هذا الشأن، فيشرح نتائج اجتماع موسكو الأخير بين الدول الستّ مع إيران، وتوقعاته لما سيسفر عنه لقاء الخبراء في اسطنبول مطلع الشهر المقبل.
ويبقى سؤال: هل يحلّ بوتين فجأة في دمشق في إطار هذه الجولة إلى الشرق الأوسط نظراً إلى مركزية الأزمة السورية في الاستراتيجية الروسية في المنطقة، وتداعيات تسويتها على شكل النظام الدولي العتيد، على ما أعلنه الناطق باسم وزارة الخارجية الكسندر لوكاشيفيتش قبل أيام معدودة، أم يكتفي ببرقية إلى الرئيس السوري بشار الأسد أثناء تحليقه في أجواء بلاده ريثما يستعيد هذا الأخير الإمساك أكثر بالأرض؟ صحيفة الجمهورية - جورج ساسين