عن عُدي. عن ابننا الذي رسم لنا بالمشهد الأخير صورة حيّة عن الوطن. عن الشغف الذي يدفع بصاحبه إلى صناعة الحياة بما يبدو موتًا. عن اليقين بأن هذي الأرض هي بلادنا الأولى وموطننا الأخير.
شارک :
قم بتنزيل ملف الفيديوحاصر عدي التميمي كيان الاحتلال. استحال الشاب جيشًا وحده، ووحده جابه وواجه وطارد وقاتل واشتبك، ولم يُقتل، بل مضى بعيدًا في النزال، فالأرض أحيانًا أضيق من أن تتسّع لألف روح تقاتل في جسد.
عدي، بأيام قليلة، استطاع أن يحفر في صخر الأيام حكاية سيظل يقصّها الزمان على أولاده، وبدقائق مشهد القتال الأخير، استطاع أن يصير هو، وحده، المدى الفلسطيني الحاوي ألف زمان يسري من بين الطلقات كالماء وينفجر يقينًا وعزّة.
للشهداء قدرة عالية على العودة بالأرواح الشاهدة إلى تشكيلها الأول، قدرة على إيقاظ الفطرة التي تتجمّل بالمواجع وعلى صناعة المشاهد التي تغيّر وجه العالم. لهم تلك الاستطاعات التي يعجز العقل أحيانًا عن الإحاطة بمسمّياتها، ولهم أن يعيدوا تشكيل المفاهيم بإزميل من روحهم، ليصير جنونهم، أو ما يبدو جنونًا، أعلى مراتب الحكمة، وليصير الموت، أو ما نظنّه موتًا، أرقى مراتب الحياة. لا لم يُقتل عُدي، لقد تولّد من بين زخات الرصاص جبلًا يجثم على صدر الكيان العدو، وأصابنا كلنا بذاك الجمر الذي يحرق كي يُشفي، ويوجِع كي يداوي، ويُبكي كي يدسّ في دمع الرائين رسائل وبطاقات العبور إلى حتمية زوال "اسرائيل". لم يُقتل، لم تتمكّن منه رصاصاتهم، لكنّه توجّه من فوّهة العشق رصاصة متفجرّة تعرف وجهتها جيّدًا، أصاب سلاحهم، فتّت منظومتهم الأمنية. دعنا من تعداد إصابات جنودهم برصاص بندقيته، فما أصابه عدي في جسد الكيان العدو لا يُحصى.
ليل الاربعاء، صبّ الخبر في القلوب سيل براكين. وهل العزّة سوى أن تحمل قلبك جمرة تسيل وترفعه؟! وهل من دافع ثوريّ أجمل وأرقى من الحزن الأبيّ؟!
ضجّت منابر التواصل بعُديّ. صاحت قلوب الأمهات "يا بنيّ"، واكتست غصّة الرجال بتمتمة "زلمة". سأل الأولاد "مَن عُدي" فكان البطل فاتحة حكاية ما قبل نومهم، وكان دمعهم واعتزازهم ببطلٍ حقيقي أصدق الشهود على الجيل المحرِّر.
يا عُدي، أيّها المخاطَب من كلّ الجهات اليوم، قلبي أمّ تبكيك بعيدًا عن العيون، وفي العلن ترفع رأسها بما رأت من وليدها، وعلى امتداد أوطان الشرف، لك اليوم ألوف مؤلفة من قلوب الأمهات. صوتي أب يهمس أن "رفعت راسنا يا سبع"، يا "اللي مش خايف" ثمّ يبتلع الغصّة بماء العزّ الزلال ويشيح بوجهه نحو اليوم الذي فيه ستسقط "اسرائيل" كي يبكيك جهارًا ويزفّ إليك النبأ. وعيناي جمع أطفال يحدّقون بالمشهد العظيم الذي رسمته ماضيًا إلى الموت بطلًا يصنع الأساطير، ويحتل المدى الحقيقي بين الواقع والخيال.
في كلّ زاوية من عالمنا هذا، حيث القتال سبيلنا الوحيد إلى الحياة، وحيث يجب أن نحذر "الموت الطبيعي" ولا نموت "إلّا بين زخّات الرصاص"، يكتظ جمع من المشاعر التي تشكّل المادة الأولى لصناعة الحرية. اسم عُدي يحاصرنا، يدعونا إلى خوض النزال بما ملكت أيدينا، يترجم لنا باللغة الأصدق، بالدم المرفوع إلى السماء، معنى أن تكون "الروح هي لي بتقاتل".