حاول عمارة دراسة التاريخ وفق جدل النص والتطبيق والتنظير للكشف عن مظاهر قوة الأمة، والمراحل التي ألحقت الضعف والوهن بجسدها، موازنا بين خصوصية العروبة وعالمية الإسلام
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
عكست حياة الدكتور محمد عمارة نوعا من التقلب، وأثارت كتابات خريج دار العلوم بجامعة القاهرة الكثير من الجدل الذي وضعه في عدد من التصنيفات المتناقضة، ليس أقلها الكفر والعلمانية ونهايتها المفكر المجتهد، ذلك أن صاحب كتاب "المشروع الحضاري الإسلامي" لا يزال يرى أن باب الاجتهاد لم يغلق، مخالفا المؤسسة الدينية الرسمية.
بدأ عمارة -المولود في كفر الشيخ بريف مصر عام ١٩٣١- حياته الفكرية ماركسيا، وصبّ غالبية جهده البحثي في دراسة الشخصيات الإشكالية، ومنها: علي عبد الرازق، محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، منطلقا من قراءة منهجية تحليلية للفكر في تشابكاته مع البيئة في بعديها الزماني والمكاني.
في مرحلة المد القومي بدأ عمارة حافظ القرآن وجوده مبكرا مهتما بإعادة إنتاج التاريخ الإسلامي وفق قراءة قومية توازن بين رسالة الإسلام وخصائص العروبة، ومتوقفا عند عدد من العناوين التي تتصل بالفكر وتفسير الإسلام في العصر الحديث، ومنها: التفسير الماركسي للإسلام، والتحرير الإسلامي للمرأة، والتعددية رؤية إسلامية، والتيار القومي الإسلامي، والإسلام وحقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق، والإسلام والعروبة، والإسلام والأقليات، والإسلام والآخر.
وعمارة الذي منعت بعض كتبه من التداول -ومنها تقرير عن الأزهر- يسعى إلى فتح باب الاجتهاد لمعاينة عدد من القضايا الراهنة التي نشأت بعد أفول الإمبراطورية العثمانية وانهيار الخلافة وبروز ظاهرة الاستعمار وحركة التحرر العربية وتأزم الدولة القطرية والخسارات الفادحة التي منيت بها الأمة وخلفت مظاهر الجهل والفقر والتخلف، داعيا إلى وحدة الأمة الإسلامية، وهو الرأي الذي تبناه بعض دعاة النهضة الأولى، مما يفسر اهتمامه الاصطلاحي وغزارة إنتاجه وتنوعه.
وخلال ذلك حاول عمارة دراسة التاريخ وفق جدل النص والتطبيق والتنظير للكشف عن مظاهر قوة الأمة، والمراحل التي ألحقت الضعف والوهن بجسدها، موازنا بين خصوصية العروبة وعالمية الإسلام، فوصف بعض العلمانيين منهجه بـ"التلفيقي/الترقيعي"، ونعت أيضا بأنه المنظًر للحركة الإسلامية، لكن عمارة رد بقوله "ذلك شرف لا أدعيه، وهم لا يقصدون منه المديح وإنما استعداء السلطات ضدي".
المدرسة الوسطية ينسب عمارة نفسه إلى المدرسة الوسطية ويدعو إليها، مفسراً أنها "الوسطية الجامعة" التي "تجمع بين عناصر الحق والعدل من الأقطاب المتقابلة فتكوّن موقفا جديدا مغايرا للقطبين المختلفين ولكن المغايرة ليست تامة، فالعقلانية الإسلامية تجمع بين العقل والنقل، والإيمان الإسلامي يجمع بين الإيمان بعالم الغيب والإيمان بعالم الشهادة".
ويوضح معنى الوسطية الإسلامية بقوله إنها "تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونه لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام، وكأنها العدسة اللامعة للنظام الإسلامي والفكرية الإسلامية، والفقه الإسلامي وتطبيقاته فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتغير، أو يجمع بين فقه الأحكام وبين فقه الواقع، ومن هنا فإن الله جعل وسطيتنا جعلا إلهياً".
شهد مطلع الألفية الثالثة تحولا في قراءة عمارة للعلاقة مع الغرب انطوى على الدعوة إلى تجديد يفارق الفكر الغربي ويستعيد الخصوصية الحضارية للأمة، ومنها: الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأميركي، والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، ومستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، وأزمة الفكر الإسلامي الحديث، والإبداع الفكري والخصوصية الحضارية.
وبلغت مؤلفات عمارة نحو ٢٠٠ عنوان، منطلقا من وجهة تجديدية وإحيائية، ومبشرا بمشروع حضاري نهضوي للأمة العربية والإسلامية، ومعتقدا أن الحوار بين الأديان أو الشرق والغرب ينطوي على نفاق تمليه القوة وينقصه التكافؤ، وهو إلى ذلك مجرد "حوار طرشان".
ويقول في ذلك "تجربتي مع الحوارات الدينية سلبية، لا تبعث على رجاء.. كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات، وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار".
شرق وغرب ويرى عمارة أن المشكلة بين الشرق والغرب تاريخية "متأزمة بل ومزمنة"، ويعزو السبب إلى "الطمع التاريخي للغرب في الشرق"، والرغبة في "الهيمنة ونهب ثرواته وتحويله إلى ملحق تابع للمركزية الغربية وللحضارة الغربية التي تتمركز حول ذاتها".
وقد أثار جدلا عاصفا حول تصريحات الأنبا بيشوي عن القرآن، مشيراً إلى أن أقوال الأخير لا تعكس رأيه الخاص، بل تعكس رأي مجموعة الكنيسة الأرثوذكسية التي يقودها البابا شنودة، ووصفه بأنه "مشروع انعزالي" تأسس عام ١٩٤٨ وينطوي على "العنصرية والطائفية" وينتقص من عروبة مصر التي كان له فيها مؤلفا يحمل العنوان نفسه.
وتقوم رهانات عمارة -الذي شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية، ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية والبحثية منها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي- على اكتشاف الذات، واجتراح نموذج ثقافي ومعرفي يحفز طاقة الأمة، ومن هنا جاء اهتمامه ببناء نظرية معرفية إسلامية تقرأ سائر الظواهر الإنسانية والطبيعية، ومنها: الفنون التي تعبر عن روح الشعوب، مناقشا ذهنية سلطة التحريم التي تصادر الإبداع وتعوق التقدم والنهضة.
ولم يتوقف بحثه في الفقه والمعاملات والتاريخ، بل ذهب لمناقشة الفنون وصدر له فيها: الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر، والانتماء الثقافي، والنموذج الثقافي، وإسلامية المعرفة.. ماذا تعني، والغناء والموسيقى حلال أم حرام، والغزو الفكري، والإسلام وقضايا العصر.. الإسلام والفن التشكيلي الذي يناقش قضية الفنون الجميلة في ميزان الإسلام من القضايا التي لم يحسم الخلاف بشأنها.
ويرى عمارة في سياق ذلك أن الأمة عندما تدرك نوع التحديات وطبيعة القوة التي تواجهها تستطيع أن تحدد مقومات الإنسان وبعث الروح القومية والوطنية والحضارية فيه لمواجهة الاجتياح الخارجي القادم من الإعلام والثقافة ومؤسسات الغرب والمؤسسات الدولية، والتخلف والجمود والشعوذة والخرافة الموروثة من عصور التخلف.
ما يسعى إليه د. محمد عمارة من خلال استعراض موقفه من الفنون في الفكر الإسلامي هو بلورة مشروعه باقتراح منهج معرفي يتسم بالشمول، يتجاوز الأحكام المغلقة وينبذ التسلط ويحقق العدالة والتقدم بالمعنى الإنساني. حسين نشوان الجزيرة