صارت «العدالة» قيمة باهتة جداً أمام تداعياتها ومضاعفاتها. فلا يمكن لبلد أن يسترهن لهذا الوقت ولهذا الحد وبهذا الحجم في مصيره من أجل وهم اسمه «الحقيقة والعدالة»
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
سليمان تقي الدين
أحدثت «المعارضة» صدمة قوية معاكسة لحال الركود السياسي التي طبعت الفترة الماضية. خرجت من الحكومة العاجزة فعلاً عن اتخاذ قرار في مواجهة الكثير من المهمات والتحديات. لم تنجح الحكومة في تجسيد «الوحدة الوطنية» في ظل اللغات المتباعدة بين مكوّناتها. مفاجأة الاستقالة لم تكن مفاجأة إلا للذين اعتقدوا أن «المعارضة» تحوّلت إلى موقع دفاعي صرف منذ انطلقت أخبار القرار الاتهامي للمحكمة الدولية. كان فريق «الأكثرية» يردد وما يزال أن لا أحد يستطيع تجاوز «الموقع الطائفي المحفوظ» في الرئاسة الثالثة. تحوّل النظام السياسي فعلاً إلى نظام مغلق على اللعبة الديموقراطية. الجميع ساهم في هذه النتيجة.
لكن أمام تداعيات قرار المحكمة على الوحدة الوطنية والاستقرار تصبح «شرعية» كل المواقع ومعها الدولة في خبر كان. يكفي المشهد السياسي الدولي الذي ضجّ في كل العواصم حول قرار استقالة الحكومة لندرك كم أن تدويل الوضع اللبناني أسقط الكثير من القواعد والمعايير والاعتبارات. ويكفي المشهد نفسه للدلالة على موقع المحكمة الدولية في التأثير على سياسات المنطقة وليس لبنان وحده. تحوّل لبنان مجدداً إلى ساحة الضغوط المتبادلة. صارت الأزمة اللبنانية في ثلاث دوائر، محلية، إقليمية، دولية، وتحتاج معالجتها إلى التعاون على هذه المستويات الثلاثة. لا شرعية إذاً لأي شيء ولا قداسة، بل صراع سياسي ومصالح متضاربة ومطامع دولية في استثمار المعطيات اللبنانية. هكذا ظهرت «العدالة الدولية» عارية وهي تساوم على مطالب تجاوزت لبنان إلى ملفات المنطقة.
صارت «العدالة» قيمة باهتة جداً أمام تداعياتها ومضاعفاتها. فلا يمكن لبلد أن يسترهن لهذا الوقت ولهذا الحد وبهذا الحجم في مصيره من أجل وهم اسمه «الحقيقة والعدالة» التي تتقاذفها الاعتبارات السياسية. ولا يمكن لبلد أن يسترهن لهذا الخلط العجيب بين الخاص والعام في كل شيء، بين الشخصي والسياسي، بين الفئوي والوطني.
لقد أسقطت المحكمة الدولية أصلاً نظام العدالة اللبنانية، ثم أسقطت فكرة العدالة الشاملة، ثم حوّلت مشروع العدالة إلى عملية ابتزاز. لم يعد هناك من مصداقية أصلاً للمطالبين بالعدالة فقط لأنفسهم متجاهلين الآخرين، ومستخفين بالمظالم التي وقعت على جماعات وأفراد، وعلى لبنان كله بسبب سياسات فئوية ومغامرات كانت في صلب المشروع الذي أخرج لبنان من استقراره النسبي إلى حالة اللا استقرار، بل إلى الحروب من خارج ومن داخل.
كل نقاش الآن حول «الشرعية» يعيدنا إلى طاحونة المرحلة الماضية التي استنزفت اللبنانيين من دون طائل قبل أن تقع تلك التسوية المبتورة في «الدوحة». احتاجت الدوحة إلى «صدمة أمنية» حملت الكثير من الآلام، أما إسقاط الحكومة فهو «صدمة سياسية» لمن يريد أن يستوعب أن الخروج عن شرعية دائرة العلاقات اللبنانية واستطراداً العربية ليتوغل في التدويل لا يستطيع أن يحتفظ بشرعيته الداخلية مهما كانت طبيعتها. وفي هذا الفريق أقطاب جرّبوا تهافت شرعيتهم وسلطاتهم الدستورية في اتفاق ١٧ أيار. ربما لم ينتبه كثيرون لما قيل منذ ٢٠٠٥ وجرى تكراره مؤخراً. لبنان يواجه مشروع «١٧ أيار» جديدا. إذا كان هذا وصف المرحلة من قبل طرفين داخلي وإقليمي يمسكان بالأرض وحقوقها ويرفعان شرعية الدفاع عن وجودهما وإرثهما في مقاومة إسرائيل، فعلى الطرف الآخر أن يحسب جيداً المسار الخطر وأن يتواضع كثيراً في الحديث عن شرعية «العدالة» وشرعية «موقعه الطائفي». السفير