«المحكمة» بديل من الدولة وأمن إسرائيل هو «العدالة»!
أن هذه المحكمة الدولية التي أُنشئت بقرار أميركي، ووضعها مجلس الأمن الدولي تحت البند السابع، بقرار أميركي أيضاً، لم تكن موضع إجماع في لبنان الذي رأى شعبه فيها إهانة لكرامته وسعياً مكشوفاً لتحريض بعضه ضد البعض الآخر
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
طلال سلمان
قُضي الأمر، وأصدر الرئيس الأميركي الأسمر قراره بإعلان الحرب على الوطن الصغير والجميل لبنان! فما إن فرغ المدعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال بلمار من تلاوة بيانه الإعلامي معلناً أنه وقّع القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى كان الرئيس الأميركي يصدر أوامره للشعب اللبناني «بالحفاظ على الهدوء وممارسة ضبط النفس»!
هو يعرف، إذاً، أن هذا القرار الاتهامي الذي يصدر من فوق رأس لبنان لن يُستقبل بتظاهرات التأييد والهتاف: يحيا العدل! .. وهو يعرف، قبل ذلك، أن هذه المحكمة الدولية التي أُنشئت بقرار أميركي، ووضعها مجلس الأمن الدولي تحت البند السابع، بقرار أميركي أيضاً، لم تكن موضع إجماع في لبنان الذي رأى شعبه فيها إهانة لكرامته وسعياً مكشوفاً لتحريض بعضه ضد البعض الآخر، واستهدافاً بالتشويه لأنبل ظاهرة استولدتها دماء الشهداء أبطال التحرير من مجاهدي المقاومة لتحرير الأرض وطرد الاحتلال الإسرائيلي.
تصرّف الرئيس الأميركي كمن يعرف مضمون القرار الاتهامي، وربما نصه الحرفي، وأن السيد بلمار قد أدى مهمته بكفاءة بشهادة تقارير السفارة الأميركية في بيروت، ووزارة الخارجية ومعهما وكالة الأمن القومي في واشنطن، فاستثنى إسرائيل من تحقيقاته، ورفض اعتماد القرائن التي قدمها «حزب الله»، كما رفض مطالب ضحايا شهود الزور بضرورة كشف هؤلاء الذين قتلوا الحقيقة ليبرّروا السياق المغرض للتحقيق بأهدافه السياسية التي تتناقض قطعاً مع العدالة، بل هي تلغيها.
بل ان الرئيس الأميركي استبق التداعيات المحتملة لإعلان هذا القرار الذي يُسقط على اللبنانيين من علٍ، ويستهين بعقولهم فضلاً عن مشاعرهم الوطنية، والذي سيفجّر سلسلة من الأزمات في الوطن الصغير الذي حوّله استغلال الجريمة بالشحن الطائفي إلى برميل بارود، بأن هدّد بأن الاعتراض سيؤدي إلى «تقويض صميم الحرية والتطلعات التي يسعى إليها الشعب اللبناني والتي تدعمها دول كثيرة جداً».
ولقد أنعم الرئيس الأميركي على لبنان، في بيان نعي الاستقرار، بأن أشار إلى أن الولايات المتحدة تنظر إليه «كصديق كبير»! ما أبشع النفاق حين يتصل الأمر بالتحريض على الفتنة، في وطن صغير جعلته «الدول» حقل تجارب وميدان صراع، باستغلال نعمة التعدد، والتراث الاستعماري، والسيف الإسرائيلي الطويل، والتبعثر العربي الذي أفقد لبنان ضمانات أهله لوجوده كما لاستقراره عبر تعزيزهم وحدته الوطنية.
ليس من حقنا طبعاً أن نعترض على السيد بلمار، الذي عيّنه المجتمع الدولي حارساً قضائياً على لبنان، ومكّنه من أن يفترض أن المحكمة التي يشغل منصب المدعي العام فيها قد تمت «بناء لطلب الشعب اللبناني ونيابة عنه وتنفيذاً لتفويض من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة». كما ليس من حقنا أن نعترض على البطء في الإجراءات، إذ «لا يمكن تسريع العدالة» إلا بالأمر الأميركي الذي ساهم في تبديل مركز الاتهام من دمشق إلى المقاومة في لبنان، لأنه عبر هذا التركيز يصيب جميع معارضيه ومقاومي تمدد اجتياحه ومعه تمدد الهيمنة الإسرائيلية إلى جوار فلسطين القريب فالبعيد والأبعد، تحت العباءة الأميركية.
تُرسم للمقاومة إذاً، صورة القاتل بينما تُبرأ إسرائيل من جرائمها ليس ضد شعب لبنان، عبر اجتياحها أرضه غير مرة، وعبر احتلالها بعضه لمدة ٢٢ سنة، وعبر تدمير بعض عاصمته ومئات البلدات والقرى في جنوبه وبقاعه وشماله وجبله ومن حول عاصمته، بل أساساً من جريمة احتلال فلسطين وطرد شعبها منها واجتياح أرضها بمستوطناتها التي تجيء بمن سينتزعها من أهلها الذين كانوا أهلها دائماً ليكونوا بعد ذلك بعض شعب «دولة اليهود الديموقراطية».
لقد نصّب الرئيس الأميركي نفسه قاضياً ومصدراً لشهادة حسن السلوك للشعب اللبناني جميعاً، فمن اعترض على المحكمة الدولية وكل ما اتصل بها، فهو بين القتلة أو المشاركين أو المتواطئين لتنفيذ الجريمة، «ولديهم شيء يريدون إخفاءه».. الرئيس الأميركي هو مجلس الأمن. هو من قرّر إنشاء المحكمة الدولية. هو مَن وضع المحاكمة تحت البند السابع. هو مَن حرّض بعض الطارئين على السلطة، الذين يدينون بمواقعهم لغياب رفيق الحريري، كي يقبلوا بتقديم وطنهم جميعاً إلى محاكمة سياقها إسرائيلي و«عدالتها» تقوم على الحرب الأهلية، وشهودها من العاملين لإذكاء الفتنة كاستثمار مجز، سياسياً ومالياً.
وواشنطن هي هي من نسفت مشروع التسوية الذي كانت صاغته دمشق والرياض، بموافقة الأطراف المعنيين جميعاً.. وقد نسفته في وجه أحد رعاته الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يستشفى في بعض مصحاتها. وها هو الاستثمار السياسي للمحكمة الدولية يذهب بوحدة اللبنانيين، ويُسقط الحكومة التي وُلدت قيصرياً وبوساطات شتى، ويعيد تقسيمهم جلادين وضحايا، وهم إخوة وأنسباء وأبناء أرض واحدة يكون لهم مستقبلهم الواحد كمواطنين في «دولتها» التي تقوم على توافقهم أو تذهب عند افتقاده أو اختلاله.. لقد افتتحت المحاكمة الدولية لهذا الشعب العنيد قبل خمس سنوات أو يزيد، ولسوف تستمر سنوات أخرى بعد، بما يهدد بألا يبقى حجر فوق حجر في لبنان، الذي حظي بشرف أنه «الوطن المقاوم».
إن المحكمة تأديب للبنان المقاوم باستغلال جريمة نكراء لا يمكن الفصل بين مرتكبها والمستفيد منها.. ومن أجل أن تستكمل مهمتها، بعد توسيع نطاقها لتصبح مصدراً إضافياً للحرب الأهلية العربية ذات الأبعاد الطائفية والمذهبية، عزز الرئيس الأميركي حمايتها. ولقد أعلنها الرئيس الأميركي صريحة أمس: مَن عارض أو اعترض أو ناقش في أمر المحكمة الدولية، يقوّض صميم الحرية والتطلعات في الوطن الصغير الذي تنظر إليه الإدارة الأميركية كصديق كبير. وللشعب في لبنان تجارب كثيرة ومريرة أكدت له أن ضمانات وجوده تنبع من وحدته الوطنية أولاً، ومن أهله العرب ثانياً، ومن وعيه بخطورة «التدويل» على وجوده، ثالثاً وأخيراً.
ربما لهذا يمكن القول إن مَن يريد المحكمة (على صورتها الراهنة) إنما يعلن رفضه لـ«الدولة» عبر نسفه للتوافق الوطني الذي هو شرط وجودها.