الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الازهر الذى تصدى للسلطة وانتقد الملك
وكالة انباء التقريب (تنا) :
من مؤسسى التقريب بين المذاهب الاسلامية وعدو التعصب الاعمى تتلمذ على يد محمد عبده وتتلمذ على يديه العديد من شيوخ الازهر ابرزهم شلتوت والمراغى
شارک :
الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الازهر
هو اشجع علماء الازهر فى القرن العشرين واكثرهم جرأة وصراحة جمع الشجاعة الادبية الى التفوق العقلى والعلمى والفقهى حتى ان معاصريه كانوا يعدونه الفقيه الاكبر فى العصر الحديث . والواقع انه بادائه الفذ لا يزال متميزا حتى على اخلافه جميعا حيث كان يجمع فى منهجه بين سعة الاطلاع وسلامة المنهج ودقة الاستنباط ويعده الدكتور محمد رجب البيومى من بقية السلف الصالح الذى جعل الجهاد بالرأى وسيلة لدفع الباطل . وقد بلغت كل من مشيخة الافتاء ومشيخة الازهر عندما تولى كلا منهما ذروة كمالها الرائع فى التمسك بالحق والجهر بما يرضى الله مهما خالف رأى الحاكم كان من القلائل الذين تولوا مشيخة الازهر والافتاء وهو الوحيد الذى تولى من هذين المنصبين فى عهد الليبرالية فيما بين ثورتى ١٩١٩ و ١٩٥٢ كما انه الوحيد فى هذه الفترة الذى تولى المشيخة بعد فترة من تركه منصب الافتاء مستقيلا ومحتجا كما انه الوحيد فى هذه الفترة الذى اعيد الى منصب المشيخة بعد ان تركه بارادته .
ولد الشيخ عبد المجيد سليم فى قرية ميت شهالة بالقرب من مدينة الشهداء بالمنوفية فى ١٣ اكتوبر ١٨٨٢ وتجلت مظاهر نبوغه فى صغره حيث حفظ القرآن الكريم فى سن مبكرة جدا وظهر المامه المتفوق فى العلوم الدينية كالتجويد والفقه ثم درس فى الازهر واتيح له ان يتتلمذ على الاستاذ الامام محمد عبده و ان يستمع الى دروسه فى التفسير والبلاغة وقد اعجب بالاستاذ الامام واعتبره مثلا يحتذى فى اصابة الفهم وسعة الاطلاع وبلاغة التعبير وجعله مثله الاعلى .
وطيلة فترة دراسته بالازهر عرف الشيخ عبد المجيد سليم بالنبوغ والتفوق حتى انه كان يسمى بابن سينا لقدرته على التفلسف والعلم ويقال ان الشيخ محمد عبده هو الذى اطلق عليه هذا الاسم وفضلا عن التلمذة المباشرة للامام محمد عبده فان الشيخ عبد المجيد سليم يعد امتدادا لمدرستى اثنين من علماء الازهر البارزين فى القرن التاسع عشر فقد كان امتدادا للشيخ الفيلسوف الزاهدحسن الطويل فى المنطق والفلسفة ومؤلفات ابن سينا كما انه كان امتدادا طبيعيا للاستاذ احمد ابى خطوة ابرز الذين شهد لهم بالتعمق الفقهى وكان من كبار المتضلعين فى الفقه الحنفى والمطلعين على ادبياته التى لاتحى وكان حافظا لهذه الادبيات واعيا بموضع المسائل الخلافية فيها .
وقد قرأمن الشروح والحواشى فى الاصول والفروع ما يتعذر حصره وكانت طريقة تدريسه معجزة , فاذا ما عرضت الجزئية الصغيرة من احكام الفقه افاض ابو خطوة فى ايضاح ما قيل بصددها من شتى الاقوال وكأنها كانت موضع دراسة خاصة قد احتفل لها من قبل وجاء عبد المجيد سليم ليفعل مثل فعله فى كل الدروس والمحاضرات التى كان يلقيها , ثم فى الفتاوى التى كان يفتى بها .
وقد كان الشيخ عبد المجيد سليم معتزا بجمعه بين التلمذة للامام محمد عبده والشيخ احمد ابو خطوة وكان يقول ( ان الامام " اى الشيخ محمد عبده " كان يمتاز بسعة الافق وسلامة التعليل وبلاغة التعبير وان الشيخ ابا خطوة كان يمتاز بانه اكثر من الامام الماما بمسائل الفقه وادلة الاحكام). ومما يروى ان الشيخ عبد المجيد سليم فى اثناء طلبه العلم شديد الاعجاب باستاذه الشيخ احمد ابو خطوة حتى انه كان يقول فى مدح استاذه انه يعرف شرح كتاب "فتح القدير" وهو مرجع فقهى شهير بافضل من مؤلفه تخرج الشيخان عبد المجيد سليم ومصطفى عبد الرازق فى الازهر فى عام واحد وقد حصل على العالمية من الدرجة الاولى ولم يكد الشيخ عبد المجيد سليم ينال درجة العالمية حتى اختيرمدرسا للفقه والاصول بالازهر وكان هذا الاختيار بمثابة اعلى درجات التقدير والثقة به لما عرف به تدريس علم الاصول من صعوبة وجفاف وما كان و لايزال يتطلب تدريسه من علم واحاطة بكثير من الجزئيات الفقهية وجزئيات العلوم الاخرى وسرعان ما وصل صيت الشيخ عبد المجيد سليم العلمى الى عاطف بركات باشا ناظر مدرسة القضاء الشرعى فاختاره (هو وزميل دفعته الشيخ مصطفى عبد الرازق) على صغر سنهما لتدريس الفقه والاصول بهذه المدرسة العالمية .
وقد عمل فى هذه المدرسة مزاملا بعض اساتذته وعلى يده تخرج عدد كبير من رجال القضاء الشرعى بمصر وهكذا مارس الشيخ عبد المجيد سليم الاستاذية فى مرحلة مبكرة من حياته ومارسها فى ارفع مستوياتها وكان فى ادائه لوظائف الاستاذية متميزا الى ابعد الحدود ومن الطريف انه رشح هو والشيخ المراغى لتولى منصبى الافتاء ومشيخة الازهر فى وقت واحد رشحهما الزعيم العظيم مصطفى النحاس باشا فى وزارته الاولى (١٩٢٨) وقد روى النحاس نفسه انه لم يجد صعوبة فى اختيار الشيخ عبد المجيد سليم لمنصب المفتى فقد كان المنصب جديرا به وكان هو جديرا بالمنصب كأنما خلقا لبعضهما لكنه اخذ فى التفكير فى منصب مشيخة الازهر حتى استقر على اختيار الشيخ المراغى .
ومن الطريف ان الملك فؤاد هو الآخر وافق على ترشيح الشيخ عبد المجيد سليم لمنصب الافتاء من اول مناقشة بينما طلب من النحاس التريث فى اختيار الشيخ المراغى شيخا للازهر لكن النحاس اصر على ان يتم التعيين فى وقت واحد وقد حدث هذا بالفعل بعد تدخلات كثيرة لمصلحة الشيخ المراغى ليس هذا هوموضع روايتها وقد عين الرجلان بعد فترة فى منصبيهما فى وقت متزامن و اصبحا علمين متميزين فى هذه المنصبين طيلة فترة ممتدة .
وكان الشيخ عبد المجيد سليم عند توليه الافتاء لايزال دون الخمسين من عمره كما كان الشيخ المراغى كذلك عند توليه مشيخة الازهر وربما ان تولى هذين العلمين لهذين المنصبين فى هذه السن المبكرة كان نتيجة طبيعية لروح النهضة التى بثتها ثورة ١٩١٩ ودفعت من خلالها بانبغ المصريين الى ارفع المواقع العلمية والوظيفية وقد ظلت صداقة هذين الرجلين الكبيرين وثيقة فى فترات طويلة على الرغم من اختلاف طباعهما وسلوكهما السياسى وقد اشتركا معا فى لجان فقهية قامت بانجاز بعض التشريعات المتطورة وفقا للقواعد الفقهية الملزمة وعرف كل منهما لصاحبه قيمته وفضله ومكانته وكان كل منهما يحترم توجهات الآخر . فكان عبد المجيد سليم يحترم اتجاه المراغى الى ممارسة السياسة وعلى الرغم من عزوفه عنها وكان المراغى يقدر فى عبدالمجيد سليم رغبته فى اعتزال السياسة وعلى الرغم من ان علاقاتهما ظلت متصلة فانها شأن العلاقات البشرية قد تعرضت لكثير من الاختلافات كما تعرضت لبعض الفتور فى وقت ما .
وقد اتيح لعبد المجيد سليم ان يقوم بتأبين صديقه المراغى فكان يقرر ويكرر انه كان ذاصفات شريفة جعلته رجلا عظيما واجلسته من التاريخ مجلسا مرموقا وقد انفرد الشيخ عبد اللطيف السبكى على ما نقله عنه الاستاذ على عبد العظيم برواية ان الشيخ المراغى كان قد رشح الشيخ عبدالمجيد سليم لخلافته عندما اراد الاستغناء عن المنصب وذلك على الرغم مما كان بين الرجلين من اختلاف وصفه الشيخ السبكى بانه كان "خصومة شديدة" ( ان الخصومة فى اشدها لم تكن تمنع الشيخ الراحل المراغى من امتداح صديقه الشيخ عبد المجيد سليم وتقدير علمه حتى كان يشهد له بيننا بانه اعلم من شيخه ابى خطوة فى جيله كان موضع الاعجاب بل لم تمنعه يوما ان يقترح اعفاءه من المشيخة لامر ما واختيار الشيخ عبد المجيد سليم بدلا منه وارجح ان مولانا يذكر ذلك كله ويشكره) .
واذا كان من الضرورى ان ننقل عن الشيخ عبد المجيد سليم بعض مايصور نفسيته واسلوبه فى الحياة فانى لست اجدلهذا الغرض اقتباسا افضل من بعض كلمته فى تأبين صديقه وزميله الشيخ المراغى ففيها تعبير صادق عن ذاته هو نفسه وعما كانت تعتنقه وتدعو اليه : " رحم الله الشيخ المراغى واحسن اليه لقد كان عظيما حقا وكانت له صفات كريمة وخلال شريفة هيأته لهذه العظمة وجعلته يحتل فى التاريخ هذه المكانة الجليلة ولقد كان رحمه الله ذا فطرة سليمة صافية يمدها ذكاء شديد واستعداد طيب وكان ما افاده وخرجه تخرجا قويا تلمذته على الرجلين العظيمين المغفور لهما الشيخ احمد ابو خطوة والشيخ محمد عبده فمنهما اكتسب الاستقلال فى التفكير والميل الى الحرية والقصد فى الاعتقاد بما يراه اهل التقليد".
"وكان له مع هذا كله قدرة على التعبير عن افكاره فى لفظ واثق واسلوب قوى وبيان فصيح هذا هو السر فى انه اظهر بين شيوخ الازهر مبرزا قويا مجلجلا مدويا وان لم يكن اكثر علما من الشيخ ابى الفضل ولامن الشيخ الشربينى " " لقد كنت انا والشيخ المراغى صديقين حميمين كلانا يحب صاحبه ويقدر فيه مواهبه ولم تكن هذه الصداقة عارضة بل كانت اصيلة مرت بها عهود واعمال مختلفة اشتركنا فيها ولكننا مع ذلك اختلفنا وكان خلافنا معروفا وسببه الجوهرى ميله رحمه الله الى ناحية السياسة الحزبية وشدة نفورى من ذلك اذ ارى الخير ان يتجنب العلماء السياسة الحزبية و ينأوا عن مكابد السياسة الحزبية ومتاعبها التى تفضى الى مالا يحمد من العواقب ولكن هذا الخلاف لم يخرج بى ولابه عن الجادة وماينبغى ان يكون عليه اهل العلم من المودة والتضحية فكنت ابدي له ودي وانقد مع ذلك بعض تصرفاته التى ارى مبعثها غالبا هو ذاك وكان يتقبل ودي ويبادلنى اياه ويعتذر عن عدم مشاطرتى الرأى الذى انقده فيه او يبدى من المبررات مايراه سببا لفعله " " وعلى كل حال لم يكن هذا الخلاف بالذى يقطع مابيننا من محبة وتعاون بل كان خلاف الشرفاء والحمدلله" وقد لخص الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت رأيه فى استاذه وسلفه فوصفه بانه الرجل المؤمن القوى الضليع فى مختلف علوم الاسلام المحيط بمذاهب الفقه اصولا وفروعا الذى كان يمثل الطود الشامخ فى ثباته نجح الشيخ عبد المجيد سليم فى اداء وظيفة الافتاء نجاحا منقطع النظير وقد ساعده على هذا طول فترته وطبيعة زمنه وتفانيه فى عمله وقد بلغ اخلاصه لعمله وتفانيه فيه انه كان يقضى اياما كثيرة فى مراجعة فتوى واحدة وكان يقرأ كتب السابقين فى كل مذهب كما كان يطيل المراجعة المستأنية فى الاراء المتشابهة محاولا التوفيق بين ما يتعارض من النصوص ويشتبه من الاحكام وكانت له مع نفسه جلسات صامته للتفكير المتئد كذلك كان يدرس اراء سابقيه من رجال الافتاء وان يعارض وان يحبذ وفق ما يرتئيه .
كان منصب الافتاء فى مدى توليه له طيلة سبعة عشر عاما على نحو ما اشار الدكتور رجب البيومى مجالا للابداع الفقهى اذ انه لم يتمسك فى فتاواه بالمذهب الحنفى وكان هو نفسه قد اصبح حجته الاول فى مصر بعد رحيل سلفه فى منصب الافتاء الشيخ محمد بخيت المطيعى لكنه رأى الايقتصر على المذهب الحنفى ودراسته دراسة شاملة فى كتب الفروع والاصول معا وانما اثران يعود الى نهج الامام محمدعبده فى غير الفتاوى الرسمية التى تتطلبها الدولة وهو القانون الذى لايزال يعتبر بمثابة خطوة اصلاحية متقدمة ولعل اكثر ما يظهر الفكر الفقهى المتعمق للشيخ عبدالمجيد سليم وتأثره الذكى بما شاب ثقافته من حب عميق للفلسفة ما يظهر فى مقاله " القطعيات والظنيات" الذى ننقل للقارئ منه فقرات جميلة يقول فيها الشيخ:"من المعروف ان الشريعة الاسلامية جاءت بنوعين من الاحكام :نوع قطعى ليس موضع اجتهاد ولا محل خلاف ولا يسوغ للمسلمين ان يتفرقوا فيه وذلك كالعقائد الواجبة وما ثبت من الاحكام العلمية بالتواتر وما دلت عليه النصوص دلالة ظاهرة بحيث لايحتمل النص غيرها فالعقائد مثل اتصاف الله بكل كمال وتنزهه عن كل نقص وانه تعالى ارسل رسلا وانزل كتبا وان البعث حق ان الحساب يوم القيامة حق والجنة حق والنارحق الى غير ذلك ومما يدخل فى ذلك اداء الفرائض الواجبة الاداء مثل الصلوات الخمس فى اليوم والليلة وعدد الركعات فيها وصوم رمضان وحج البيت الحرام" .
"ونوع ظنى هو موضع النظر والاجتهاد واختلاف الفقهاء او المتكلمين من كل مالم يرد فيه من الشرع دليل يفيد اليقين وليس للعقل فيه حكم واجب حتم وذلك كاختلاف الصحابة وغيرهم فى مثل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها والاختلاف فى المسح بالرأس المجزئ فى الوضوء وفى قراءة المؤتم وفى نوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا او واحدة ...ونحو ذلك" ومما يتصل بالنوع الثانى من الاحكام اختلافهم فى المسألة الاصولية المعروفة :هل كل مجتهد مصيب؟ فمن العلماء من يجيب عن هذا السؤال بنعم على معنى ان حكم الله فى المسألة المجتهد فيها هو ما يصل اليه المجتهد بعد استفراغ الوسع فى طلب معرفته هذا رأى لبعض العلماء ولا اراه سديدا انما الرأى السديد ما عليه جمهرة العلماء من ان الحق واحد وحكم الله فى كل مسألة معين وقد نصب الله الدليل الذى يدل عليه فمن المجتهدين من يصل اليه ويصيب فهو الذى يوصف بانه مصيب ومنهم من لايصل اليه بل يظن غيره فهو مخطئ ولكنه معذور فى خطئه ومغفور له هذا الخطأ ما دام قد بذل جهده فى تعرف الحق غير متبع هواه . بل ورد فى الخبر الصحيح بان المخطئ مثاب كالصحيح غير ان المخطئ له اجر واحد على اجتهاده وبذله الوسع والمصيب له اجران : اجر على اجتهاده واجر على اصابته" .
على هذا النحو كان الشيخ عبدالمجيد سليم ينبه على اهمية تحرى الاصابة هدفا للاجتهاد وعدم الاكتفاء بالاجتهاد وحده وهوما يعنى بعبارة اخرى الايستسهل العلماء الوصول الى اى نتيجة ويصورونها على انها نتيجة الاجتهاد ومن ثم تصبح ملزمة لمن يقتدون بهم ويؤمنون بفقههم وهو يفيض فى بيان هذا المعنى ثم يبنى عليه فكرة احترام الرأى الاخر وتقدير الاحكام الفقهية التى اتت بها المذاهب المختلفة "ان كل فريق من هذين الفريقين يرى المجتهد مأجورا فضلا على ان يكون معفوا عنه فاذا علم اتباع المذاهب الفقهية او الكلامية ذلك لم يكن لهم بد من احترام بعضهم بعضا والترفع عن الاحتفاظ بالضغائن والاحقاد التى تكون عادة بين المختلفين الذين لايعذر بعضهم بعضا ولايقدر بعضهم بعضا ولايقدربعضهم اخلاص بعض ورغبته فى الوصول الى الحق وهذه السماحة هى الخلق الذى كان يتصف به الائمة انفسهم فلم يعرف احد منهم انه طعن صاحبه او اثمه او نقصه حقه اوحاول ان يقطع ما بينه وبينه من صلة الاخوة فى الدين والعلم " "ان كل واحد من الفريقين يفتح المجال للنظر والاجتهاد وبذل الوسع فى معرفة الحق والاعتماد على الدليل والحجة وما يولد العلم او الظن الراجح فليس المرجع فى حكم من الاحكام او رأى من الاراء الى انه مذهب فلان وفلان ولكن الى حظه من الدليل والبرهان اما اهل التقليد فليس لاحد ان يلزمهم بمذهب امام معين لا يحيدون عنه فالكل فى حقهم سواء" .
وكان الشيخ عبدالمجيد سليم واعيا للتفريق الدقيق بين ما يمكن وصفه بانه خطأ وصواب وبين مالايمكن وصفه بذلك ويقول :"قد علمنا من استقراء احكام المذاهب الفقهية واراء الفرق الكلامية ان فى كل منها خطأ وصوابا ولم نعلم مذهبا من المذاهب الاسلامية المعتبرة خطأ كله او صوابا كله واذا كان الامر كذلك فلاينبغى ان تطغى العصبية المذهبية على المسلمين بل الواجب ان يأخذوا بما ظهر بالبرهان صوابه وان يكون قصاراهم الرغبة الصادقة فى الوصول الى الحق دون ان يثيروا وزنا لما سوى الحق وبذلك يصبحون فعلا امة واحدة ويصبح الخلاف الفقهى والكلامى والنظرى فى محيطهم وسيلة من وسائل القوة العلمية والسماحة الفكرية ويتفرغون لما هو اولى بهم من التعاون على نصرة الدين واصلاح حال المسلمين وتبليغ كلمة الله واضحة قوية الى الناس اجمعين".
وفى عهده بالافتاء تألفت لجان فقهية لتعديل قانون الاحوال الشخصية فكان رأيه من رأى الامام المراغى فى التوسع الشامل للمذاهب المتعددة جميعها بل امتداد هذا التوسع فى بعض قضايا الميراث والطلاق حتى ضم اراء فقهاء من غير الائمة الاربعة من امثال ابن حزم والفقه الجعفرى وزيد بن على وطاوس وشريح وداود وهو ماتجلى واضحا فى صياغة قانون ١٩٢٩ للاحوال الشخصية وتضم مجموعة الفتاوى الاسلامية التى اصدرها المجلس الاعلى للشئون الاسلامية معظم ما اصدره الشيخ من فتاوى اما ما اصدره الشيخ من فتاوى حين كان رئيسا للجنة الفتوى بالازهر الشريف فقد بقى بعضها من دون تدوين على حين نشر بعضها فى مجلدات مجلة الازهر ويذكر الاحصاء المدون بالجزء الاول من الفتاوى الاسلامية ان الشيخ عبدالمجيد سليم قد كتب (١٥٧٩٢) فتوى مدونة بالسجلات الخاصة فى مدى سبعة عشر عاما وفضلا على هذا وذاك فقد كان الشيخ يرسل بعض الفتاوى الخاصة لمن يطلبها من اصدقائه ومريديه بعيدا عن عمله الرسمى .
وقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم بمثابة ابرز اعضاء لجنة الاحوال الشخصية بوزارة العدل اذ كانت تعرض المذكرات المتضمنة للموضوعات والمسائل المطروحة على اللجنة بعد فحصها بواسطة الخبراء وعندئذ يأخذالشيخ عبدالمجيد سليم الكلمة فيتولى شرح المسائل الواحدة تلو الاخرى مستعرضا شتى الاراء فى كل مذهب من المذاهب ومقررا الحكم الدقيق ذاكرا رأى الائمة والمجتهدين من الفقهاء مسايرا روح العصر متنقلا من فن الى فن وفى حفل تأبين الشيخ عبدالمجيد سليم تحدث الاستاذ محمد محمود رئيس محكمة الاستئناف الاسبق عن اداء الشيخ عبدالمجيد سليم فى لجنة اصلاح قوانين الاحوال الشخصية فقال : " لقد كان المرحوم الشيخ عبدالمجيد سليم فى هذه اللجنة النجم اللامع والحركة الدائبة الدائمة كانت الموضوعات والمسائل تعرض على اللجنة بعد سبق بحثها وفحصها وعند ذلك يأخذ الراحل الكريم الكلمة فيتولى شرح الموضوعات والمسائل الواحدة بعد الاخرى مستفيضا مستعرضا شتى الاراء ومختلف الصور فى كل مذهب من المذاهب مقررا حكم الشرع ذاكرا رأى الائمة والمجتهدين والفقهاء المؤلفين مسايرا من جولته العلمية ومحاضرته الفقهية. قامت اللجنة بالبحث والتمحيص واستنباط الحكم الملائم تمهيدا لاعطائه الصفة النهائية وعرف عن الشيخ عبدالمجيد سليم انه كان بارعا فى القياس الاصولى وقرن النظير بالنظير .
ويضرب الدكتور محمد رجب البيومى المثل على ذلك بفتواه فى نقل الدم للمسلم المريض المحتاج اليه من شخص غير مسلم وفى الانتفاع بجزء من عين شخص ميت لرد بصر شخص حى هو يشير الى ان الشيخ عبدالمجيد سليم قد نقل "مسائل قياسية من كتب التراث منتهيا الى ما اذا تحقق توقف حياة المريض او الجريح على نقل الدم جاز ذلك اما اذا توقف تعجيل الشفاء فحسب فيجوز على احد الوجهين عند الحنفية ويجوز على مذهب الشافعية وذلك اذا لم يترتب على النقل ضرر فاحش ممن نقل عنه حرصا على صحته وقد افتى الشيخ بجواز معالجةغير المسلم من الاطباء حتى مع وجود الطبيب المسلم تيسيرا وتسهيلا مادام اهلا للثقة ذاكرا من الادلة ما يؤيد رأيه وهذه الفتوى لم ينفرد بها الشيخ وحده وانما شاركه فيها زملاؤه اذ اصدرها حين كان رئيسا للجنة الفتوى بالازهر وحين اشتدت ازمة التموين فى اثناء الحرب العالمية الثانية واحتكر التجار بعض السلع واضطرت الحكومة الى تسعير البضائع كان هناك بعض من يرى ان التسعيرلايجوز شرعا لكن الشيخ عبدالمجيد سليم اصدر فتواه بضرورة التسعير فى مثل هذه الازمات , وذكر من كتب السلف نصوصا كثيرة تحبذ رأيه فاسكت بعض من يتصدرون للفتوى بغير حق وصارت فتواه عملا ملزما للجميع .
اما على مستوى مؤسسات تعليم العلوم الدينية فقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم صاحب الفضل فى تأسيس الدراسات العليا فى جامعة الازهر القديمة التى ظهرت الى الوجود مع ظهور الكليات (١٩٣٠) وعلى الرغم من ان هذه الكليات ظلت تابعة لمشيخة الازهر مباشرة دون حلقة وسطى تتمثل فى ادارة جامعة ومدير جامعة ووكيل جامعة ....الخ فان الازهر كان واعيا لجوهر الوظائف الجامعية بما فى ذلك الدراسات العليا وقد اختيرالشيخ عبدالمجيد سليم للاشراف على الدراسات العليا بكليات الازهر الشريف جميعا دون تفريق وكان هذا العمل يقتضى منه جهدا دائبا فى متابعة هذه الدراسات مشرفا على مناهجها ومناقشا رسائلها وحاضرا بعض دروسها وقد ادى هذا كله بهمة واقتدار فى الكليات الثلاث : الشريعة الاسلامية – واللغة العربية – واصول الدين وقد ابانت هذه الحقبة من حياته ان المام هذا الشيخ الكبير بعلوم الازهر جميعها كان يؤهله للمناقشة الجادة فى اقسام هذه الكليات جميعها فهو يناقش فى اصول الفقه كما يناقش فى مسائل المنطق كما يناقش فى فنون البلاغة ودقائق النحو والصرف .
وقد كان انتماؤه الى جماعة كبار العلماء انتماءا مثمرا وقد تولى وكالة هذه الجماعة قبل ان يصبح شيخا للازهر ورئيسا لها واليه يرجع الفضل فى تجديدها والدفع بها الى ميادين من العمل المفيد لعامة الناس . يذكر مؤرخوا الحركة الوطنية للشيخ عبدالمجيد سليم ما كان يمتاز به من شجاعة فائقة ووضوح رأى وكانت ممارسته للسياسة تحفل بالجسارة والجرأة والقوة وتكاد تقترب به فى نظر البعض من حدود الاندفاع . وكانت اراؤه الواضحة ذات تأثير بالغ فى الحياة السياسية وكأنها اراء حزب سياسى كامل لا علم واحد من اعلام الدين ومع انه كان لديه ميل شديد الى البعد عن الحياة الحزبية وكان دعوة حارة لطلاب العلم ان ينصرفوا الى رسالتهم الاسلامية الخاصة بالتعليم والارشاد فانه ظل حريصا على ابداء رأيه فى القضايا السياسية والسلوكية فى صراحة ووضوح وشجاعة نادرة والقصص كثيرة عن وقوفه فى مواجهة الفساد والطغيان واستغلال النفوذ واساءة استخدام السلطة وربماان بعض هذه القصص اختلط بما يقترب من الاساطير لكن كثيرا من المواقف المنسوبة اليه تجد سندا تاريخيا ومن هذه القصص ان مديرالخاصة الملكية حاول بايعاز من الملك ان يستبدل ببعض ممتلكاته العقارية الجديبة ارضا خصيبة من املاك الاوقاف وتلمس الفتوى الميسرة من المفتى فاعلن المفتى لفوره ان الاستبدال باطل "اذلايجوز شرعا لغير مصلحة الواقف وهى هنا مفقودة "بل ان الخسارة محققة فعلا ! ولايزال الذين عاشوا الفترة التى كان الشيخ عبدالمجيد سليم فيها مفتيا ثم شيخا للازهر يتناقلون القصص التى تنبئ عن مدى شجاعته وقوته فى مواجهة الامر الواقع وعلى سبيل المثال فانه تلقى (وهو فى منصب الافتاء)سؤالا عن حكم الشرع فى رجل يراقص النساء ويشرب الخمر! وذلك بعد حفلة صاخبة اقامتها احدى الاميرات وحضرها الملك فاروق ونشرت بعض الجرائد صورا لبعض ما كان وقد ادرك عبدالمجيد سليم من هو المقصود بالفتوى فلم يؤثر السلامة وانما جابه المخطئ بانحرافه واضطرب القصر لجرأة هذا الانكار الصارخ واشارت مجلة "المصور" الى ضيق القصر بما تضمنته الفتوى من ايحاءات واتصل القصر بالاستاذ الاكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الازهر حينئذ منبها على خطورة الفتوى بالنسبة لاثرها الجرئ وكان الشيخ المراغى من الغيرة على الحق بحيث لم يخذل رأى المفتى بل دعا الى تصحيح الخطأعند المخطئ لا الى تخطئة المصيب! وقد ظل الشيخ عبدالمجيد سليم متوليا منصب الافتاء لمدة طويلة ثم ترك المنصب احتجاجا على تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للازهر على الرغم من انه لم يكن عضوا فى هيئة كبار العلماء ومن الجدير بالذكر ان نشير الى قصة وقوفه وقفة صلبة ضد تعيين صديقه وزميله الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للازهر وقد احتج الشيخ عبدالمجيد سليم بان صديقه على جلالة علمه وسمو منزلته ليس عضوا بجماعة كبار العلماء وهو شرط اساسى للتعيين لان الجماعة حينئذ تمثل القيادة العلمية فى الازهر وشيخ الازهر رئيس هؤلاء القادة فكيف يجئ من غيرهم! فضلا على انه كان يدرك ان القصر يناوئ الوفد بالشيخ مصطفى عبدالرازق وهو وزير حر دستورى ومن الجدير بالذكر ان الحكومة فى ظل ضغط الشيخ عبدالمجيد سليم ومعارضته واقرانه اضطرت "اولا" الى تعديل قانون هيئة كبار العلماء بما يسمح " ثانيا" بنوال الشيخ مصطفى عبدالرازق عضويتها وبما يسمح "ثالثا" بتعيينه شيخا للازهر ولم تستطع الحكومة ان تمضى هذا التعيين الابعد ان اتمت هاتين الخطوتين وفى اثناء هذا استدعى النقراشى باشا رئيس الوزراء حينئذ فضيلة الشيخ عبدالمجيد سليم وحاول ان يغريه بالمال ويروى انه كانت للشيخ عدة الاف من الجنيهات بوزارة الاوقاف مكافأة علمية لقيامه على مشيخة الاحناف بالازهر مدة طويلة وقد تجمدت تلك المكافأة سنوات عدة لاعتراض المالية على ان يجمع الشيخ مرتبين فى وقت واحد فلوح له رئيس الوزراء بالاسراع فى صرف المكافأة اذا وافق على تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق وفوجئ الامام بالعرض الماكر فغضب فى وجه رئيس الوزراء غضبة ازعجته واثر الانسحاب الفورى دون استئذان فلما اتمت الحكومة خطوات تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخا للازهر صمم الشيخ عبدالمجيد سليم على الاستقالة واستقال معه ايضا الشيخان ابراهيم حمروش ومأمون الشناوى ومن الطريف ان ثلاثتهم جاؤوا الى مشيخة الازهر تباعا وتولى الشيخ عبد المجيد سليم منصب مشيخة الازهر مرتين وتركها فى المرتين بارادته غير اسف وقد تعددت الروايات عن المواقف الصلبة والشجاعة التى وقفها الشيخ عبدالمجيد سليم ضد رغبات السياسة واهوائها ويصل بعض ماروى فى هذا الميدان الى درجات متناهية من شجاعة الشيخ وجسارته فى الحق حتى ان السياسيين والعلماء الذين عاشوا هذه الفترة يظنون ولهم الحق فى ذلك ان الشيخ عبدالمجيد سليم كان لا يصلح للمشيخة لانه كان اكبر منها واكبر من ان يحتمل ما تتطلبه السياسة ويروى فى هذا المجال ان القصر الملكى اوفد بعض رجاله الى الشيخ عبدالمجيد سليم ذات مرة يهدده فى صراحة ويعلن ان المعارضة ستكون مصدر خطر عليه فقال الشيخ سيحول هذا الخطر بينى وبين المسجد؟ فخجل رسول القصر ولم يجب ! ثم رأى الشيخ الاكبر ان يصدر بيانا للناس فى الصحف اليومية يعلن فيه امر هذا التهديد الملكى ويعقب الدكتور محمد رجب البيومى فيقول: "ومن اعجب الاشياء ان يندفع نفر من المأجورين الى استهجان بيان الشيخ بحجة انه يذيع اسرارا ملكية على حين يسكتون عن نقد المخالفة الصريحة لقانون الازهر ويعدونها امرا طبيعيا لا شئ فيه ومن الانصاف ان نذكر ان الشيخ عبدالمجيد سليم قد عين شيخا للازهر للمرة الاولى فى عهد وزارة الوفد فى ٢٦ من ذى الحجة سنة ١٣٦٩ هجريا الموافق ٨من اكتوبر سنة ١٩٥٠م وبعد ان ولى الشيخ عبدالمجيد سليم مشيخة الازهر فى المرة الاولى تحدث فى مؤتمر صحفى عقده فى اول نوفمبر١٩٥٠عن الوسائل التى كان يراها ضروريةلاصلاح الازهر كما ادلى باحاديث صحفية لخص منها الاستاذ على عبدالعظيم رؤيته لهذا الاصلاح فى الخطوات التالية:مراجعةالكتب الدراسيةوابقاء الصالح منها واختيار لون جديد يوجه الطلاب توجيها حسنا الى العلم النافع من اقرب طريق وايسره تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية وغيرها حتى يتصل حبل العلم وتوجيه العلماء الى وضع بحوث فى الفقه و التشريع تساير الروح العلمى الحاضر اعداد جيل قوى من ابناء الازهر يستطيع ان يحمل الرسالة فان الامة تريد من الازهر ان يخرج لها علماء فى الدين والشريعة واللغة وسائر العلوم العقلية والاجتماعية المتصلة بها تشجيع حركة البعوث العلمية التى يرسلها الازهر الى جامعات اوروبا للتزود من شتى الثقافات ولا غضاضة فى هذا فان العلم رحم بين الناس كافة تنظيم الجامعة الازهرية تنظيما يتفق مع خطر رسالتها ويساعدها على اداء رسالتها الاسلامية وذلك مكتبة كبرى ودار كبيرة للطباعة واكمال مبانى جامعة الازهر تمهيدا للاحتفال بالعيد الالفى لها اما اهداف الاصلاح الدينى المنوطة بالازهر فقد اجملها الشيخ عبدالمجيد سليم فى الخطوات التالية : *العناية باصلاح حال الاسرة وذلك باصلاح شئؤونها ودعم كيانها عن طريق بحث التشريعات اللازمة لها من زواج وطلاق ونفقة وحضانة وولاية *العمل على نشر الثقافة الاسلامية فى جميع ارجاء العالم * ارسال البعوث الازهرية الى شتى الشعوب الاسلامية لدراسة احوالها وتهذيب ابنائها * تشجيع البعوث الاسلامية الوافدة على الازهر وبناء دار كبرى لاقامتهم ورعاية احوالهم العلمية والخلقية والدينية * ربط الازهر بالجامعات الشرقية وبخاصة الاسلامية منها * انشاء مراكز ثقافية للازهر فى الحواضر الاسلامية وكان الشيخ عبد المجيد سليم يضيف الى هذا التنبيه على ان من اهم اهداف الازهر ان يؤدى رسالة عالمية خارج حدود العالم الاسلامى :
*توجيه علماء الازهر الى وضع مؤلفات باللغات الاجنبية لنشر الاسلام وللردعلى مزاعم المبشرين و المستشرقين * انشاء ادارة للدعوة الاسلامية تتولى الدعوة الى الاسلام ومبادئه الخالدة بين شتى الدول والشعوب * ترجمة تفسير القرآن الكريم الى اللغات الاجنبية وقد بذل الشيخ عبدالمجيد سليم غاية وسعه فى فترة مشيخته للازهر وكان ملاذا للفقه والفكر والعلم كما نجح فى تقوية كليات الازهر ومعاهده وازدهرت فكرة البعوث وحركتها فى عهده كما حافظ على مكانة لازهر فى دواوين الحكومة وقراراتها ووقف الى جوار الحركة الوطنية بكل ما اوتى من اخلاص وهمة اما موقف عبدالمجيد سليم من الترف الحكومى والاسراف الملكى فقد كان ابلغ موقف وقفه مصرى فى العصر الحديث وهو صاحب العبارة البليغة الجامعة "تقصير وتقتير هنا وتبذير واسراف هناك" سارت مسار المثل الذائع وفى مذكرات النحاس التى كتبها الاستاذ محمد كامل البنا ان الشيخ لم يقصد بالقول " اسراف هنا وتقتير هناك" الملك لكنه لم يشأ الاعتذار وفى مذكرات حسن يوسف ثناء علی علي ماهر باشا لاعادة تعيين الشيخ عبدالمجيد سليم شيخا للازهر وهو مايدل على ان علاقته بالملك لم تصل الى القطيعة الكاملة وقد اعفى الشيخ عبدالمجيد سليم من مشيخة الازهر فى عهد وزارة الوفد الاخيرة فى سبتمبر١٩٥١ لكنه عاد الى هذه المشيخة بعد شهور قليلة وكانت المرةالثانية التى ولى فيها المشيخة فى عهد وزارة على ماهر التى اعقبت حريق القاهرة ويشير حسن يوسف فى مذكراته الى انه من موقعه فى الديوان الملكى كان مؤيدا لهذه الخطوات بكل ما اوتى من قوة وقد استقال الشيخ من المشيخة للمرة الثانية فى ١٧ سبتمبر ١٩٥٢ قبل ان ينقضى شهران على قيام الثورة وقد تكررت مواقف الشيخ عبدالمجيد سليم الشجاعة فى اول عهد الثورة حين اندفعت الثورة فى اول عهدها ان تتدخل فى شؤون الازهر وحاولت على استحياء ان تفرض على الشيخ عبدالمجيد سليم اناسا لا يراهم اهلا للقيادة ورشحتهم حكومة الثورة للمناصب المرموقة ليكونوا حسب تصورها اداة لتنفيذ ما تشاء بعيدا عن منطق القانون ولكن الشيخ عبدالمجيد سليم لم يفارق صلابته المتشددة فرفض كل تدخل يهم به ذوو الغرض عن لهو عابث لا يقدر المسؤولية وبادر المتغطرسون بمطالبته بالاستقالة اذا اصر فقدمها عن طوع وبدل ان يشكر الكاتبون للرجل غيرته على الحق سودوا الصحف بنقده واظهروه فى موضع المعارض المجابه لعهد التحرير والحرية ولكن صوت الانصاف قد جاء من الخارج لا من الداخل حيث كتب مراسل اجنبى مقالا تحت عنوان "شخصية الاسبوع"فى جريدة "البروجرية ديمنش" وترجمته مجلة " الرسالة" بتاريخ ٢٢سبتمبر ١٩٥٢ اى بعد قيام الثورة بشهرين فحسب! اشارفيه الى مقترحات الشيخ بشأن مايراه فى الاصلاح ومعارضته لما يملى عليه من امور لاتتفق والصالح الازهرى كما قالت الجريدة مانقله عنها الدكتور محمد رجب البيومى :" ان الشيخ عبدالمجيد سليم يتمتع بثقة الغالبية من رجال الدين وكبار العلماء وهو معروف بالتقوى والورع وما حاول قط ان يفيد لنفسه اذ جعل همه الاول مصلحة الازهر قبل مصلحة الافراد ومن اجل ذلك كافح فى سبيل انقاذ هذه المؤسسة الدينية وهولا يخشى الاالله ولا يساوم على كرامته ولذلك يستحق كل تقدير" ولعل اشهر مالايزال الشيخ عبدالمجيد سليم يذكربه فى مجال التاريخ الفقهى دعوته الدؤوبة الى تبنى فكرة التقريب بين المذاهب وقد عبر الشيخ عن ايمانه برسالة التقريب بين المذاهب فى مقال رائع نشرفى العدد الاول من مجلة "رسالة الاسلام" التى كانت تصدر عن "دارالتقريب بين المذاهب الاسلامية" بالقاهرة فقال :"ان هذه الامة لاتصلح الا اذا تخلصت من الفرقة واتحدت حول اصول الدين وحقائق الايمان ووسعت صدرها عما وراء ذلك للخلافات مادام الحكم فيها للحجة والبرهان وقد ادركنا فى الازهر على ايام طلبنا العلم عهد الانقسام والتعصب للمذاهب ولكن الله اراد ان نحيا حتى نشاهد زوال هذا العهد وتطهرالازهر من اوبائه واوضاره فاصبحنا نرى الحنفى والشافعى والحنبلى اخوانا متصافين وجهتهم الحق وشرعتهم الدليل بل اصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه الذى درج عليه فى احكامه لقيام الدليل عنده على خلافه" وبعيدا عن المناصب الرسمية وعن مؤسسات الدولة الرسمية فقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم واحدا من المؤسسين الاوائل لما نعرفه الان على انه مؤسسات المجتمع المدنى وقد تولى تأسيس جماعة فذة كان لها دور محلى وعالمى مشهور وهى جماعة التقريب بين المذاهب وكان تأسيسه لها صدى لايمانه بالفكرة ويظهر لنا الان ان سعة افق الشيخ عبدالمجيد سليم قد جعلته يدرك ان مؤسسة الازهر الرسمية لن تكفل له النجاح المرجو فى تحقيق عقيدته الفقهية هذه وان الفكرة تتطلب جهودا غيررسمية وقنوات موازية للقنوات القديمة والواقع ان جهد الشيخ عبدالمجيد سليم فى جماعة التقريب بين المذاهب لم يكن ناشئا من فراغ وانما كان نتيجة وعى فقهى وعلمى وسياسى فى المقام الاول وقد كان تفتح الشيخ عبدالمجيد سليم على المذاهب الفقهية مضرب الامثال على الرغم من انه كان لفترة طويلة شيخ الاحناف فى الازهر وعلى الرغم من انه كان بحكم القانون ملزما بالمذهب الحنفى الذى تلتزم به الدولة منذ عهد الخلافة العثمانية وقد قال هونفسه فى هذا المعنى :"وقد جريت طوال مدة قيامى بالافتاء فى الحكومة والازهر وهى اكثر من عشرين عاما على تلقى المذاهب الاسلامية ولو من غير الاربعة المشهورة بالقبول مادام دليلها واضحا عندى وبرهانها لدى راجحا مع انى حنفى المذهب كما جريت وجرى غيرى من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا فى وضعه او الافتاء فيه من قوانين الاحوال الشخصية فى مصر مع ان المذهب الرسمى فيها هو المذهب الحنفى" "وعلى هذه الطريقة نفسها تسير لجنة الفتوى بالازهر التى اتشرف برئاستها وهى تضم طائفة من علماء المذاهب الاربعة فاذا كان الله قد برأ المسلمين من هذه النعرة المذهبية التى كانت تسيطر عليهم عهد قريب فى امر الفقه الاسلامى فانا لنرجو ان يزيل مابقى بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع فى الامور التى لم يقم عليها برهان قاطع يفيد العلم حتى يعودوا كما كانوا امة واحدة ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح فى التفرغ لما فيه عزتهم وبذل الوسع فيما يعلى شأنهم والله الهادى الى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ويتضح هذا المعنى بصورة جلية فى اجابة للشيخ عبدالمجيد سليم عن سؤال بمجلة "الرسالة" العدد ٤٤٩ عن مدى التزامه بالمذهب الحنفى فى فتواه حيث قال : "ان الفتاوى التى اصدرها على نوعين نوع يتصل بالقضاء الشرعى والجهات الرسمية وهذا افتى فيه بما هو الراجح من مذهب ابى حنيفة لان المستفتى يطلب ذلك فى استفتائه ولان هذا هو المذهب الرسمى فى مصر ولو لم اتبع هذه الطريقة لاصطدم القضاء بالفتوى اما النوع الثانى فهو الفتاوى التى اصدرها فى استفتاءات غير رسمية او واردة من البلاد الاخرى وانا فيها لا اتقيد برسم يرسم ولا بقول من الاقوال فى المذهب الحنفى وانما اختار القول الذى اراه راجحا وابين سبب رجحانه عندى واذكر الى جانبه الاقوال الاخرى اذا طلب المستفتى ذلك او كان الامر يستدعى ذكرها " وقد حظى نشاط جماعة التقريب بنشاط عدد كبير من علماء الازهر الواعدين وكان الشيخ محمود شلتوت من انشط الاسماء الداعية لسرعة العمل وقد دعا الى التقريب بين المذاهب الاسلامية ولجماعة التقريب باذلا جهده الحميد حتى اصبح التقريب الان هدفا ساميا يسعى الجميع الى تحقيقه مخلصين وكانت لهذه الجماعة مجلة قيمة ارجو الله سبحانه وتعالى ان يوفقنى لاعادة طبع اعدادها معا وقدمضى الشيخ عبدالمجيد سليم خطوات واسعة فى دعوة التقريب بين المذاهب التى بدأها من قبله الامام المراغى ومصطفى عبدالرازق بالتعاون مع السيد تقى الدين القمى احد كبار علماء الشيعة وعلى الشيخ عبدالمجيد سليم تحولت دعوة التقريب بين المذاهب من دعوة نبيلة الى مؤسسة عاملة تمثلت فى جماعة التقريب التى اسسها الشيخ عبدالمجيد سليم نفسه ومن اللافت للنظر ان الشيخ كان من الذكاء بحيث اختار لمعاونته ومشاركته فى هذه الدعوة النبيلة عددا من تلاميذه الذين توسم فيهم الخير والالمعية والمثابرة وقد صدقت فراسته صدقا تاما فقد كان من بين هؤلاء خلفه غير المباشر فى المشيخة الشيخ محمود شلتوت الذى دفع بسياسات هذه الجماعة الى ميدان التنفيذ كما كان منهم اعلام كبار توالوا على مواقع المسؤولية منهم الشيخ محمد المدنى والشيخ على الخفيف والشيخ عبدالعزيز عيسى والشيخ محمد الغزالى والشيخ سيد سابق وكان ممن اسهم من الشيعة بقلمه فى تأييد هذه الفكرة والدعوة اليها السيد محمد حسين ال كاشف الغطاء والسيد شرف الدين الموسوى والسيد محمد جواد مغنية والسيد صدر الدين شرف الدين وغيرهم وقد اختار الشيخ عبدالمجيد سليم للزعامة الشرفية للجماعة سياسيا عرف بتوجهاته الاسلامية العربية هو محمد على علوبة باشا كانت للامام الشيخ عبدالمجيد سليم رؤية ناضجة لمعنى التعصب والموقف الذى يجب ان يتخذه رجال الدعوة منه ولم يكن من انصار ذم التعصب على طول الخط ونسبه كل الخطايا اليه بل انه كان يجاهر بانه يرى بعض التعصب محمودا وهو التعصب للحق بل انه كان يجاهر بانه يرى التعصب واجبا : "اما ان كان المراد بالتعصب الغيرة على ما يراه المرء حقا وبذلالجهد فى الدفاع عنه وعدم التسامح فيه فذلك محمود بل هو واجب بالشرع والعقل فانه لابد للحق من مستمسك به مدافع عنه ولهذا لايصلح مجتمع يخلو من المستمسكين بالحق المدافعين عنه الذين لا يترخصون فيه ولا يتسامحون فان جميع الدعوات الصالحة الخيرة ما رسخت اصولها ولاسمقت فروعها الا باستمساك اهلها بها وصدقهم فى النضال عنها ولولا هذا الايمان الصادق القوى المتماسك لماتت والعياذ بالله دعوة الاسلام فى مهدها ولفسد المجتمع الاسلامى من اول الامر بما يسميه المتحللون مساهلة او مياسرة ونسميه نحن انحلالا او اضمحلالا وقد امر الله المؤمنين ان يكونوا اقوياء فى الحق "يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ومدح سبحانه "الذين يتمسكون بالكتاب " ولهذا فانه كان ينبه الى خطورة ذم التعصب مطلقا بل انه كان يؤكد على هذا المعنى فى ثنايا دعوته الذكية الى التقريب بين المذاهب : " نرى الناس فى زماننا هذا يذمون التعصب للرأى ويرونه ضارا بالعلم منافيا لما ينبغى ان يكون بين اهله من سماحة وقد يصل بهم الامر الى ان يقيسوا رقى الامم والجماعات بمقياس يرجع اليه فاذا وجدوا التعصب سائدا فى قوم وصفوهم بالتأخر الفكرى او بالقصور او بالتزمت او بضيق الافق وعلى العكس منذك نراهم يصفون المتسامحين فهم عندهم اقوى عقولا واهدى سبيلا واطلاق القول على هذا النحو مجانب للصواب فان التعصب ان اريد به عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل المرء لعصبيته فهو مذموم منهى عنه الاسلام ويطلق عليه لفظ العصبية وقد نعى الله على اهل الجاهلية فى غير اية من كتابه الكريم تمسكهم بها " وفى الحديث الشريف ليس منا من دعا الى عصبية وليس منا من قاتل عن عصبية وليس منا من مات على عصبية " وشبيه بتعصب اهل الجاهلية تعصب بعض المقلدين لمذاهب ائمتهم وان وقفوا على ضعفها او بطلانها وقد افاض العلماء فى فساد هذه الطريقة وبيان مجافاتها للصواب ومن القواعد التى يقررها الشرع والعقل ان الرجوع الى الحق خير من التمادى فى الباطل " ومن الجدير بالذكر ان الشيخ عبدالمجيد سليم لم يكن من انصار التأليف وقد الح الكثيرون عليه ان ياذن بطبع رسالته الفقهية التى تقدم بها لعضوية هيئة كبار العلماء فلم يسترح الى هذا الاقتراح ويذكر انه لم يضع مذكرات لطلابه كما فعل زملاؤه بل آثر ان يدرس لهم الاصول العريقة من كتب التراث الفقهى وان يعلق عليها بما يفصل المجمل ويوضح الغامض وكانه بذلك يحذو حذو الشيخ حسن الطويل فى درس الفلسفة اذا كان يقرأ كتب السلف شارحا موجها واذا سئل ان يخط مؤلفا مستقلا اعلن انه لايبلغ مبلغ سابقيه كذلك فانه لم يشاء ان يجمع ما اصدره من الفتاوى الفقهية الدقيقة على مدى ربع قرن متصل مع انه لم ينقطع عن الافتاء بعد ان ولى مشيخة الازهر فظل يسأل ويجيب ومن حسن الحظ ان قام المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية "كما اشرنا " بجمع ما صدر عنه من الفتوى مع زملائه السابقين واللاحقين فى مجلدات مسلسلة تعتبر احدى الذخائر الغالية فى دنيا التشريع ومن خلالها تهيأ للدارسين المحدثين ان يطلعوا على اراء هذا الفقيه الكبير بقى ان نشير الى جماعة ثانية حظيت برعاية الشيخ عبدالمجيد سليم ونشاطه وهى جماعة من الازهريين اللامعين النوابغ صممت على ضرورة امضاء الاصلاح الازهرى للتعليم منهجا وكتابا واستاذا وقد نشطت هذه الجماعة فى الفترة الثانية لعهد الامام المراغى (١٩٣٥-١٩٤٥) حين رأى اعضاؤها الاحداث والظروف وقد حالت دون تمام الاصلاح على نحو مارسمه الشيخ المراغى فى مذكرته الشهيرة التى تقدم بها فى مشيخته الاولى وكان هؤلاء يدركون ان ظروفا ما قد وقفت دون استكمال وجوه الاصلاح لكنهم كانوا يرون ضرورة خلق رأى عام يتكفل باتمام الاصلاح وقد ضمت هذه اجماعة نجوما من الذين تولوا اعلى المناصب الازهرية فى الجيل التالى وهو الجيل الذى تسنم ذرا المناصب الازهرية فى عهد الثورة الشيخ محمود شلتوت والدكتور محمد البهى والاستاذ محمد محمد المدنى والاستاذ عبد العزيز عيسى وقام الشيخ عبدالمجيد سليم بواجبه البارز فى هذا الاتجاه الاصلاحى وترأس الندوات الهادفة فى كليات الازهر الثلاث وهكذا كان عبدالمجيد سليم هو واسطة العقد الحقيقية بين محمد عبده وبين شلتوت والمدنى وجيلهم صحيح ان المراغى شاركه هذا المجد لكن عبدالمجيد سليم كان هو الروح التى تلقاها هؤلاء وقد انتقل الشيخ الامام عبدالمجيد سليم الى رحمة ربه فى صباح يوم الخميس ١٠ من صفر سنة ١٣٧٤ هجريا , الموافق ٧ من اكتوبر سنة ١٩٥٤ م
