الانتصارات لا تُهدى ولا تُمنح، إنما تُنتزع انتزاعاً، حتى لو كانت بين أنياب المستحيل، خصوصاً في معارك الأمم المصيرية. وقد خاض محور المقاومة في العشرية الأخيرة، معركة النصر المستحيل، وسيقف التاريخ كثيراً عند تحقق هذا المستحيل، أما كيف ولماذا، فهو ما يحتاج إلى بحار مدادٍ أكثر غزارةً من أنهار الدم.
شارک :
ايهاب زكي
الانتصارات لا تُهدى ولا تُمنح، إنما تُنتزع انتزاعاً، حتى لو كانت بين أنياب المستحيل، خصوصاً في معارك الأمم المصيرية. وقد خاض محور المقاومة في العشرية الأخيرة، معركة النصر المستحيل، وسيقف التاريخ كثيراً عند تحقق هذا المستحيل، أما كيف ولماذا، فهو ما يحتاج إلى بحار مدادٍ أكثر غزارةً من أنهار الدم.
محور المقاومة الذي خاض معركة المصير نيابةً عن الأمة، انتصر لأنّه برع في تحديد العدو، ولم يضيّع البوصلة، وظلت عينه ثابتةً على العدو دون تشتت؛ إنّ العدو هو أمريكا و"إسرائيل"، وما البقية إلّا أدوات، كما قال الرئيس بشار الأسد "لا نلتفت للأدوات والعبيد، لأننا سنخسر قوتنا، إنما نحارب العدو الأمريكي". فمحور المقاومة أدرك منذ اللحظة الأولى، أنّ الحرب على سوريا، هي حربٌ أمريكية - إسرائيلية، وما البقية إلّا وقودها.
كما أنّ محور المقاومة امتلك قضيته، التي سيحارب من أجلها، وفيها من السمو ما يدفع للتضحية بكل النفائس، فهي قضية بقاء أمةٍ ومصيرها، فالهزيمة في سوريا، كانت تعني أنّ هذه الأمة لن تقوم لها قائمة ولو بعد قرن، ولن تبقى بالأصل أمّة، بل ستنقلب حارات وأزقةً ومذاهب وأعراقًا وأديانًا وطوائف، وقبائل وعشائر وعائلات و"قرطة ناس". هذه القضية المقدسة، وصلت للذرى بروح التضحية، وهذا بعكس العدو الأصيل أو الوكيل، حيث كانت دوافع الأصيل قضية هيمنة ومصلحة، ودوافع الوكيل بعض خزعبلات تاريخ، والكثير من الغرائز البدائية.
كما أنّ أحد أسباب النصر كانت وحدة الهدف.، لم يقاتل محور المقاومة لأهدافٍ شتّى، أن يقاتل الجيش السوري من أجل نظام، أو تقاتل إيران من أجل مصالح اقتصادية وقضايا هيمنة، أو أنّ ذهاب حزب الله إلى سوريا لأهدافٍ مذهبية، بل قاتل الجميع من أجل هدفٍ واحد، هو الدفاع عن مصير الأمّة ومستقبلها، بين العبودية ونهب الثروات، وبين الحرية والاستقلال.
وإذا تحدثنا عن أسباب النصر، لا يمكن للحديث أنّ يكون ذا معنى، دون الحديث عن الصبر والبصيرة، حيث إنّه منذ بداية الحرب على سوريا، عملت ماكينة التضليل الإعلامية بكل جبروتها، لتصل الأمة إلى مرحلة الانزلاق، انزلاق في منحدرٍ لا صعود منه ولا نجاة، وهو الانزلاق إلى حروبٍ مذهبية وطائفية. وإذا افترضنا أنّ محور المقاومة لم يعضّ على الجرح ولم يقبض على الجمر، سنصل إلى نتيجة مفادها أننا كنا اليوم نعيش في مقبرةٍ جماعية، ومدن للأشباح، مدن تحترف القتل وتمقت الحياة.
حين كانت تنفجر المساجد والحسينيات، وكانت تتفجر المراقد والشوارع والأسواق، وحين كان إعلام العدوان يسكب في آذان الناس كل دقيقة، خطر الشيعة ومظلومية السنة، وكان يثرثر ليل نهار عن مخطط الرئيس الأسد عن الدولة العلوية في الساحل، وهرطقات الدولة المفيدة، يكفي أنّ نفترض فقدان محور المقاومة صبره وبصيرته، وأنه انزلق لحرب المذاهب والطوائف، لتغيّر التاريخ، ولتحققت المساعي الأمريكية لجعل القرن الجديد قرناً أمريكياً، ولما شهدنا ولادة عالم متعدد الأقطاب، ولما رأينا أمريكا تحاول الهروب من المنطقة بأقل الخسائر، ولما عانت"إسرائيل"، كما اليوم، من سؤال الوجود الذي يؤرقها، ولم تجد له جواياً بعد.
هكذا نتيقن أنّ الصبر والبصيرة جعلا من هذا المحور، كما قال مظفر النواب "إننا أمة لو جهنّم صُبت على رأسها واقفة".
وأيضاً يعود أحد أسباب النصر للثقة، الثقة بالقائد، وجدارته بأن يكون مؤتمناً على المصير، وهذه ثقة ليست مصدرها تبعيةٌ عمياء أو حقوق إلهية غيبية مدعاة، بل مصدرها الواقع والوقائع، ثم الثقة بين صُناع القرار في كل مفاصل المحور، فالثقة بين الرئيس الأسد والسيد نصر الله لا حدّ لها، كما العلاقة بين السيد نصر الله والإمام الخامنئي بلا حدود، كذلك الثقة برفعة القضية وسمو الأهداف، لم يدفع أحد دمه من أجل مال، ولم يضحّ أحد بحياته من أجل هلام أهدافٍ لا يعرفها أو من أجل هلام أشخاص.
ثم كان لوحدة القرار أهمية قصوى، فلا ارتجال ولا تفرد، إنما توافق تام على أولويات الحرب، وتوافق على أهمية المعارك وخصوصية الجبهات، لا عشوائية في فتح الجبهات، ولا منافسات زقاقية.
وكثيرة هي الأسباب أيضاً في جبهة العدو، ولكن على سبيل المثال لا الحصر، وعلى سبيل الخاتمة، غرور العدو، فالعدو في بداية العدوان على سوريا، كان واثقاً من النصر حد الغرور، وكان يطلق المواعيد لسقوط سوريا يوماً بيوم، وهذا يشبه ما قاله الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان القوات المسلحة، أمام الرئيس جمال عبد الناصر، في جلسات مراجعة أسباب النكسة ووسائل تجاوزها، حيث قال"سيادة الرئيس سوف ننتصر عليهم، والثغرة الكبيرة التي سننفذ منها غرورهم القاتل".
في الوقت الذي كان يبدو فيه النصر مستحيلاً، جعله محور المقاومة أكثر من ممكن وطوع البنان، واليوم وهو أكثر من ممكن، سيصبح النصر مجرد عادة.