السيد المسيح (ع) عندما صرخ قائلاً: "لا! لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان
الإمام موسى الصدر ورؤيته الإنسانية والحضارية للبنان
تنا
لم يكن الإمام السيد موسى الصدر زعيماً سياسياً ودينياً تقليدياً للطائفة الشيعية في لبنان، بل كان مفكراً إسلامياً ومجتهداً مجدداً ومجاهداً ضد نظام الشاه في إيران وضد الكيان الإسرائيلي في فلسطين.
شارک :
هيثم مزاحم*
فقد لعب الصدر دوراً كبيراً في نصرة الثورة الإسلامية في إيران، والدفاع عن الإمام الخميني حين اعتقله الشاه وقرّر اعدامه، برغم محاولات إعلامية غربية وعربية أخيرة لتصوير الصدر أنه كان مختلفاً مع الإمام الخميني وعلى علاقة جيدة بالشاه.
[الإمام موسى الصدر مفكّر إسلامي، ومجتهد مجدّد ومجاهد]
الإمام موسى الصدر مفكّر إسلامي، ومجتهد مجدّد ومجاهدالصدر، وأصوله من عائلة لبنانية جنوبية هاجرت لطلب العلم الديني في العراق وإيران، عاد الى لبنان في أواخر العام 1959، قد فهم مبكراً فرادة التركيبة اللبنانية، من النظام السياسي والاجتماعي الى تنوّع لبنان الطائفي وأبعاده الحضارية والدينية.وبرغم مطالبات الصدر بتغيير النظام الطائفي وقيام دولة الإنسان والمؤسسات في لبنان، وبرغم حركته الاحتجاجية على الحرمان والفقر والظلم الاجتماعي في الجنوب والشمال والبقاع، الا أنه لم يدعُ يوماً الى قيام دولة إسلامية في لبنان، كما ذهب لاحقاً بعض الأحزاب والحركات الإسلامية، حيث أدرك البعض منهم قصور هذه الدعوة وعدم واقعيتها.
هذه المسألة كانت تؤخذ على الصدر من قبل بعض الإسلاميين في لبنان الى أن توصل بعض هؤلاء الى قناعة الإمام بخصوصية النظام اللبناني وأهمية تعدديته الدينية وتنوّعه الطائفي والمذهبي، وذلك بعدما اصطدموا بالواقع وأدركوا تعقيداته وخصوصية لبنان وموقعه كملتقى للديانات السماوية وكجسر للحوار بين الشرق والغرب.
يقول الصدر في محاضرة ألقاها في مدرسة القديس يوسف في عينطورة في 20 نيسان – أبريل 1970: "نحن في لبنان أمام واقع أرادهُ الله لنا ذلك هو وجود طوائف، ولكن الذي ما فرضه الله علينا وتركه نتصرف فيه أنه ما فرض نظامًا باسم الطائفية في لبنان. الطوائف موجودة في لبنان ولكنها هل تحتاج الى الطائفية؟".
ويعتبر الصدر أن "الطوائف في مجتمع ما تتمكن أن تكون مصدر خير وغنى؛ بامكان الطوائف أن تكون تنوعًا هو طبيعة الخلق في العالم، ومقصود الأديان بصورة خاصة. علينا أن نستفيد من وجود الطوائف في المجتمع ونجعل الطوائف وسيلة خير لا بديل عنها…".فوجود التنوع – في رأيه - هو السبب الأصيل في تكوين التفاعل بين الأفراد، وبالتالي في تكوين المجتمعات.
ووجود طوائف مختلفة، بما للطوائف من تجارب ومنجزات، "معنى ذلك وجود ينابيع مختلفة في مجتمع واحد. كل ينبوع له تجارب ومكاسب ودراسات وحضارات تسهّل مهمة التعاون يعني تسهّل مهمة العطاء للآخرين والأخذ من الآخرين.. ولذلك الطوائف المختلفة غنى حضاري واسع لخدمة الانسان في كل مكان".ويستدل الصدر بآية قرآنية تقول: ﴿لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات﴾ (سورة المائدة، آية 48).ويؤكد الصدر أن وجود المسيحية في لبنان بما لها من العلاقات الحضارية والدينية في العالم ثروة كبرى للبنان، كما أنه يسهّل كون لبنان مفتاحًا وبابًا للتمازج بين الشرق والغرب، لأن المسيحيين هم "ثروة كبرى للبنان وثروة كبرى للعرب وثروة كبرى للشرق".وفي عظة ألقاها في كاتدرائية الآباء الكبوشيين في بيروت عام 1975، يقول الصدر: "اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، وكانت واحدة آنذاك، يبشّر بعضها ببعض، ويصدّق أحدها الآخر، فأخرج الله الناس بها من الظلمات إلى النور بعد أن أنقذهم بها من الخلافات الكثيرة الساحقة والمفرِّقة، وعلّمهم السلوك في سبيل السلام.
كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد دعوة إلى الله وخدمة للإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها أيضًا، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتد فازدادت محنة الإنسان وآلامه".يشير كلام الصدر إلى أمرين مهمين جداً، الأول هو هو وحدة الأديان والثاني هو أن غايات الأديان كلها هي الدعوة إلى الله وخدمة الإنسان، لكنها تفرقت عندما بدأ القائمون عليها في خدمة أنفسهم ومصالحهم، فتعاظمت الخلافات بين المؤمنين بالديانات المختلفة وازدادت محنة الإنسان وآلامه.
فالدين يدعو للسلام والحب والوحدة لكن من يستغل الدين من بعض السياسيين ورجال الدين يدعون إلى التفرقة والفتنة والطائفية والكراهية.وفي هذا الصدد يقول الصدر: "كانت الأديان واحدة تهدف إلى غاية واحدة، حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين، وهما أيضًا وجهان لحقيقة واحدة. ولما انتصرت الأديان وانتصر معها المستضعفون وجدوا أن الطغاة غيّروا اللبوس وسبقوهم إلى المكاسب، وأنهم بدأوا يحكمون باسم الأديان ويحملون سيفها؛ فكانت المحنة المتعاظمة للمضطهدين، وكانت محنة الأديان والخلافات فيما بينها، ولا خلاف إلا في مصالح المستغلين".
فالإمام الصدر، بفكره التقدمي والإصلاحي، يرى بعداً سياسياً واجتماعياً تغييرياً للدين، لا يقتصر على العبادة والدعوة إلى الله، بل على خدمة الإنسان ورفع الظلم عن كاهله.يضيف الصدر مخاطباً المسيحيين في مناسبة صومهم: "والآن نعود إلى الطريق، نعود إلى الإنسان ليعود الله إلينا؛ نعود إلى الإنسان المعذَّب لكي ننجو من عذاب الله. نلتقي على الإنسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الأديان واحدة." ويستشهد بقول السيد المسيح (ع) عندما صرخ قائلاً: "لا! لا يجتمع حب الله مع كره الإنسان؛ وبكلام للنبي محمد (ص): "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع".إذن، فلسفة الدين - بحسب الصدر - تكون بنتائج السلوك الديني على الصعد الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وليس فقط في الأمور العقدية والطقوسية والتعبّدية.ويوضح الصدر ذلك: "إذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس، واللانهائية في الطموح، وإذا كان الإيمان، ببعده السماوي، يحفظ للإنسان الأمل الدائم، عندما تسقط الأسباب، ويزيل عنه القلق، ..، فإن الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان".إذن كان هم الإمام الصدر هو الإنسان في لبنان، أي إنسان وكل إنسان، بغض النظر عن طائفته ومذهبه ومنطقته. الإنسان المحروم والمظلوم والفقير في الدرجة الأولى.يقول في ذلك: "لبنان بلدنا، البلد الذي رصيده الأول والأخير هو إنسانه.. لذلك إذا أردنا أن نصون لبنان، إذا أردنا أن نمارس شعورنا الوطني، إذا أردنا أن نمارس إحساسنا الديني..، فعلينا أن نحفظ إنسان لبنان، كل إنسانه؛ وطاقاته، لا بعضها".
*هيثم مزاحم:
باحث في الشؤون العربية والإسلامية والدولية. دكتوراه فلسفة. نشر عدداً من الكتب أبرزها: "مونتغومري وات والدراسات الإسلامية"،"تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه"، "لماذا تحدث الثورات"،"حزب العمل الإسرائيلي"، "العلاقات الأوروبية - الإسرائيلية"، وشارك في 12 كتاباً عن الحركات الإسلامية والجهادية.