إنّ فكرة ظهور المنقذ العظيم الذي سينشر العدل والرخاء بظهوره في آخر الزمان، ويقضي على الظلم والاضطهاد في أرجاء العالم، ويحقق العدل والمساواة في دولته الكريمة، فكرة آمن بها أهل الاَديان الثلاثة، واعتنقتها معظم الشعوب.
شارک :
فقد آمن اليهود بها، كما آمن النصارى بعودة عيسى عليه السلام، وصدّق بها الزرادشتيون بانتظارهم عودة بهرام شاه، واعتنقها مسيحيو الاَحباش بترقّبهم عودة ملكهم تيودور كمهديٍّ في آخر الزمان، وكذلك الهنود اعتقدوا بعودة فيشنو، ومثلهم المجوس إزاء مايعتقدونه من حياة أُوشيدر.
وهكذا نجد البوذيين ينتظرون ظهور بوذا، كما ينتظر الأسبان ملكهم روذريق، والمغول قائدهم جنگيزخان.
وقد وجد هذا المعتقد عند قدامى المصريين، كما وجد في القديم من كتب الصينيين .
وإلى جانب هذا نجد التصريح من عباقرة الغرب وفلاسفته بأنَّ العالم في انتظار المصلح العظيم الذي سيأخذ بزمام الاُمور ويوحّد الجميع تحت راية واحدة وشعار واحد:
منهم: الفيلسوف الانجليزي الشهير برتراند راسل، قال: (إنّ العالم في انتظار مصلح يوحّد العالم تحت عَلَمٍ واحد وشعار واحد) .
ومنهم: العلاّمة آينشتاين صاحب (النظرية النسبية)، قال: (إنّ اليوم الذي يسود العالم كلّه الصلح والصفاء، ويكون الناس متحابِّين متآخين ليس ببعيد) .
والاَكثر من هذا كلّه هو ماجاء به الفيلسوف الانكليزي الشهير برناردشو حيث بشّر بمجيء المصلح في كتابه (الاِنسان والسوبرمان).
وفي ذلك يقول الاستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه (برناردشو) معلّقاً: «يلوح لنا أنّ سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأنّ دعوته إليه لاتخلو من حقيقة ثابتة» .
أما عن المسلمين فهم على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يعتقدون بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وعلى طبق مابشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولايختص هذا الاعتقاد بمذهب دون آخر، ولا فرقة دون أُخرى. وما أكثر المصرّحين من علماء أهل السنة ابتداءً من القرن الثالث الهجري وإلى اليوم بأنّ فكرة الظهور محلّ اتّفاقهم، بل ومن عقيدتهم أجمع، الأكثر من هذا إفتاء الفقهاء منهم: بوجوب قتل من أنكر ظهور المهدي، وبعضهم قال: بوجوب تأديبه بالضرب الموجع والاِهانة حتى يعود إلى الحقّ والصواب على رغم أنفه ـ على حدّ تعبيرهم ـ كما سنشير إليه في الفتوى الصادرة على طبق معتقد المذاهب الاَربعة.
ولهذا قال ابن خلدون معبّراً عن عقيدة المسلمين بظهور المهدي: «اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الاَعصار: أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الاِسلامية، ويسمى المهدي». .
وقد وافقه على ذلك الاُستاذ أحمد أمين الاَزهري المصري ـ على الرغم مما عرف عنهما من تطرّف إزاء هذه العقيدة ـ فقال معبّراً عن رأي أهل السُنّة بها: «فأما أهل السُنّة فقد آمنوا بها أيضاً» ، ثم ذكر نصّ ماذكره ابن خلدون .
ثم قال: «وقد أحصى ابن حجر الاَحاديث المروية في المهدي فوجدها نحو الخمسين» .
ثم ذكر ماقرأه من كتب أهل السنة حول المهدي فقال: «قرأت رسالة للاُستاذ أحمد بن محمد بن الصديق في الردّ على ابن خلدون سماها: (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون)، وقد فنّد كلام ابن خلدون في طعنه على الاَحاديث الواردة في المهدي وأثبت صحّة الاَحاديث، وقال: إنّها بلغت التواتر» .
وقال في موضع آخر: «قرأتُ رسالة أُخرى في هذا الموضوع عنوانها: «الاِذاعة لما كان ومايكون بين يدي الساعة» لاَبي الطيب بن أبي أحمد بن أبي الحسن الحسني» .
وقال أيضاً: «قد كتب الاِمام الشوكاني كتاباً في صحة ذلك سماه: التوضيح في تواتر ماجاء في المنتظر والدجال والمسيح» .
إذن لافرق بين الشيعة وأهل السنّة من حيث الاِيمان بظهور المنقذ مادام أهل السنّة قد وجدوا في ذلك خمسين حديثاً من طرقهم، وعدّوا ظهور المهدي من أشراط الساعة، وأثبتوا بطلان كلام ابن خلدون في تضعيفه لبعض الاَحاديث الواردة في ذلك، وأنّهم ألَّفوا في الرد أو القول بالتواتر كتباً ورسائل، بل لافرق بين جميع المسلمين وبين غيرهم من أهل الاَديان والشعوب الاُخرى من حيث الاِيمان بأصل الفكرة وإن اختلفوا في مصداقها، مع اتّفاق المسلمين على أنّ اسمه (محمد) كإسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولقبه عندهم هو (المهدي).
ومن هنا يعلم أنّ اتّفاق أهل الاَديان السابقة ومعظم الشعوب والقوميات وعباقرة الغرب وفلاسفته ـ مع تعدد الاَديان، وتباين المعتقدات، واختلاف الاَفكار والآراء والعادات ـ على أصل الفكرة، لايمكن أبداً أن يكون بلا مستند لاستحالة تحقّق مثل هذا الاتّفاق جزافاً. فإذا أضفنا إلى ذلك اتّفاق المذاهب الاِسلامية جميعاً على صحة الاعتقاد بظهور الاِمام المهدي في آخر الزمان وأنّه من أهل البيت عليهم السلام ـ كما سيأتي مفصلاً ـ علم أنّ اتّفاقهم هذا لابد وأن يكون معبّراً عن إجماع هذه الاُمة التي لاتجتمع على ضلالة على ماهو مقرر في محلّه، وحينئذٍ فلا يضرّ اعتقادهم بظهور مهدي أهل البيت عليهم السلام اختلاف تشخيصه عند من سبقهم من أهل الاَديان والشعوب، إذ بالاِمكان معرفته حق معرفته من خلال مصادر المسلمين المعتمدة لما عُرِف عنهم من اتّباع منهج النقل عن طريق السماع والتحديث شفةً عن شفة وصولاً إلى مصدر التشريع، وبما لانظير له في حضارات العالم أجمع.
ومع هذا نقول:
إنّ اعتقاد أهل الكتاب بظهور المنقذ في آخر الزمان لايبعد أن يكون من تبشير أديانهم بمهدي أهل البيت عليهم السلام كتبشيرها بنبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّهم أخفوا ذلك عناداً وتكبّراً إلاّ من آمن منهم بالله واتّقى.
ويدلّ على ذلك وجود مايشير في أسفار التوراة إلى ظهور المهدي في آخر الزمان، كما في النصّ الذي نقله الكاتب أبو محمد الاُردني من (سفر أرميا) وإليك نصه: (اصعدي أيّتها الخيل وهيّجي المركبات، ولتخرج الاَبطال: كوش وقوط القابضان المجنّ، واللوديُّون القابضون القوس، فهذا اليوم للسيد ربِّ الجنود، يوم نقمة للانتقام من مبغضيه، فيأكل السيف ويشبع... لاَن للسيد ربِّ الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات).
وهناك ماهو أوضح من هذا بكثير جداً، فقد قال الباحث السني سعيد أيوب في كتابه (المسيح الدجال): «ويقول كعب: مكتوب في أسفار الاَنبياء: المهدي مافي عمله عيب» ثمّ علّق على هذا النصّ بقوله: "وأشهد أنني وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده صلى الله عليه وآله وسلم، فدلت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً، ثمّ أشار إلى امرأة أُخرى، أي: التي تلد الرجل الاَخير الذي هو من صُلب جدته، وقال السفر: إنَّ هذه المرأة الاَخيرة ستحيط بها المخاطر، ورمز للمخاطر باسم «التنّين» وقال: (والتنّين وقفَ أمام المرأة العتيدة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت) سفر الرؤيا 12: 3، أي: أنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا الغلام، ولكن بعد ولادة الطفل. يقول باركلي في تفسيره: «عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه.
والنص: (واختطف الله ولدها) سفر الرؤيا 12: 5، أي: أنَّ الله غيّب هذا الطفل كما يقول باركلي.
وذكر السفر أنّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومئتين وستين يوماً، وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب، ثم قال باركلي عن نسل المرأة عموماً: إنّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال السفر: (فغضب التنّين على المرأة، وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله) سفر الرؤيا /1312" 12 13.
وهذا وإن لم يصحّ لمسلم الاحتجاج به لما مُنيت به كتب العهدين من تحريف وتبديل، إلاّ أنّه يدلّ وبوضوح على معرفة أهل الكتاب بالمهدي، ثم اختلافهم فيما بعد في تشخيصه، إذ ليس كلّ ماجاء به الاِسلام قد تفرّد به عن الاَديان السابقة، فكثير من الاُمور الكلِّية التي جاء بها الاِسلام كانت في الشرائع السابقة قبله.
قال الشاطبي: (وكثير من الآيات أُخبر فيها بأحكام كلّية كانت في الشرائع المتقدمة وهي في شريعتنا، ولافرق بينهما).
وإذا تقرر هذا فلايضرُّ اعتقاد المسلم بصحة مابشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان، أن يكون هذا المعتقد موجوداً عند أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أو عند غيرهم ممن سبق الاِسلام، ولايخرج هذا المعتقد عن إطاره الاِسلامي بعد أن بشّر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد الاِيمان بأنه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ .
وأما عن اعتقادات الشعوب المختلفة بأصل هذه الفكرة كما مرّ فيمكن تفسيرها على أساس أنّ فكرة ظهور المنقذ لاتتعارض مع فطرة الاِنسان وطموحاته وتطلّعاته، ولو فكّر الاِنسان قليلاً في اشتراك معظم الشعوب بأصل الفكرة لاَدرك أنّ وراء هذا الكون حكمة بالغة في التدبير، يستمد الاِنسان من خلالها قوّته في الصمود إزاء مايرى من انحراف وظلم وطغيان، ولا يُترك فريسة يأسه دون أن يزوّد بخيوط الاَمل والرجاء بأنّ العدل لابدّ له أن يسود.
وأما عن اختلاف أهل الاَديان السابقة والشعوب في تشخيص اسم المنقذ المنتظر، فلا علاقة له في إنكار مابشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هناك مايدعو إلى بيان فساد تشخيصهم لاسم المنقذ، مادام الاِسلام قد تصدى بنفسه لهذه المهمة فبيّن اسمه، وحسبه، ونسبه، وأوصافه، وسيرته، وعلامات ظهوره، وطريقة حكمه، حتى تواترت بذلك الاَخبار واستفاضت بكثرة رواتها من طرق أهل السنّة، كما صرّح بذلك أعلامهم وحفّاظهم وفقهاؤهم ومحدثوهم، وقد روى تلك الاَخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مايزيد على خمسين صحابياً كما سنبرهن عليه في هذا البحث.
وأما عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من حيث تشخيص اسم المهدي كما هو معلوم بين أهل السنة والشيعة، فليس فيه أدنى حجة للمستشرقين وأذنابهم، بل هو ـ على العكس ـ من الاَدلّة القاطعة عليه؛ لاَنّه من قبيل الاختلاف في تفاصيل شيء متحقق الوجود، كاختلافهم في القرآن الكريم بين القول بقِدَمِه وحدوثه من الله تعالى، مع اتّفاقهم على تكفير منكره، وقس عليه سائر اختلافاتهم الاُخرى في تفاصيل بعض العقائد دون اُصولها.