رغم تطور التشريعات الهادفة لتنظيم إدارة الخلاف السياسي، وتجريم ما يسمى «القتل خارج القانون» الذي يشمل الاغتيال، فإن هذه الممارسة ما تزال تستخدم ليس من قبل أنظمة الاستبداد فحسب، بل حتى من دول «العالم الحر».
شارک :
سعيد الشهابي
الاغتيال السياسي ليس ظاهرة جديدة في المجتمع البشري، بل تعود للعصور الأولى من نشوء المجتمع الإنساني.
وبرغم تطور التشريعات الهادفة لتنظيم إدارة الخلاف السياسي، وتجريم ما يسمى «القتل خارج القانون» الذي يشمل الاغتيال، فإن هذه الممارسة ما تزال تستخدم ليس من قبل أنظمة الاستبداد فحسب، بل حتى من دول «العالم الحر».
فما معنى استخدام الطائرات المسيّرة لقتل العناصر المناوئة للسياسات الأمريكية مثلا؟ وكثيرا ما شهدت شوارع العواصم الغربية عمليات اغتيال لمعارضين عرب وغيرهم. وليس جديدا القول إن أجهزة الكيان الإسرائيلي ضالعة في الكثير من هذه الاغتيالات، التي انتهكت حقوق الضحايا في الحياة والتشريعات الدولية، التي تحرّم الاغتيال وسيادة الدول التي وقعت فيها جرائم الاغتيال. ففي 1978 اغتيل ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لندن، سعيد حمامي.
وفي 1980 اغتيل المعارضان الليبيان محمد مصطفى رمضان ومحمود عبد السلام نافع، وفي 1980 اغتيل رسام الكاريكاتير المشهور، ناجي العلي. وتواصلت الاغتيالات في لندن، ومنها اغتيال المصري أشرف مروان (2007) والممثلة سعاد حسني (2001).
وحيث إن الحديث عن الاغتيال السياسي طويل ومتشعب ومتواصل، فسيلقي هذا المقال بعض الضوء على استهداف المعارضين من قبل بعض أنظمة مجلس التعاون الخليجي، لتوضيح مدى ما وصلت إليه الأوضاع السياسية في هذه البلدان. فالاغتيال يعدّ ذروة العداء بين الطرفين، ويتجاوز مقولات الخلاف والاختلاف العادية. فهي أولا إزهاق للروح التي كرّمها الله ووضع التشريعات لحمايتها، وثانيا هي قتل خارج القانون الذي يفترض أن كل إنسان بريء حتى يثبت جرمه، وثالثا أنها تصعيد للخلاف وإيصاله إلى نقطة اللاعودة في العلاقات بين الأطراف المعنية.
أثار مقتل الناشطة الحقوقية الإماراتية، آلاء صديق مساء السبت 17 حزيران/ يونيو الماضي في «حادث سير»، تساؤلات كثيرة حول ظروف الحادث الذي وقع بمنطقة «أكسفوردشاير». صحيح أن حوادث السير كثيرة، إلا أن هذه الكثرة تشجع مدبري عمليات الاغتيال لاختيار هذا النمط من الاغتيال، تفاديا للشبهات والشكوك. وقد جرى التعاطي من قبل أجهزة الشرطة والأمن البريطانية مع حوادث العنف التي ارتكبت بحق معارضين من بعض دول الخليج بأساليب تختلف عما يحدث مع حوادث القتل والاعتداء الأخرى. وما أكثر ما تعرض له الناشطون البحرانيون من اعتداءات واستهدافات على مدى أكثر من ثلاثة عقود، ولكن التزمت السلطات البريطانية أسلوب الصمت إزاءها، وسرعان ما أغلقت ملفاتها بعد فترة قصيرة من حدوثها.
استهداف المعارضين الخليجيين تصاعد في السنوات الأخيرة بشكل لافت. وتبرز الإمارات والبحرين لتتصدرا الدول الخليجية التي تستهدف مواطنيها بقسوة وتوحش، وقد صدرت تقارير دولية عديدة حول هذه القسوة، ففي 2019 اتّهمت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية السلطات الإماراتية بالتضييق على أفراد عائلات «معارضين» مسجونين وآخرين في الخارج، عبر إجراءات عقابية بينها سحب الجنسية ومنع مغادرة البلاد. ولكن الاضطهاد لا يتوقف هنا، بل يصل إلى حد تصفية المعارضين الذين يفضحون ممارسات السلطة وسياساتها.
برغم تطور التشريعات الهادفة لتنظيم إدارة الخلاف السياسي، وتجريم ما يسمى «القتل خارج القانون» الذي يشمل الاغتيال، فإن هذه الممارسة ما تزال تستخدم ليس من قبل أنظمة الاستبداد فحسب، بل حتى من دول «العالم الحر».
ويتوقع تصاعد هذه الظاهرة بشكل ملموس بعد اقتحام أجهزة الأمن الإسرائيلية المنطقة عبر البوابة الإماراتية، خصوصا بعد فتح سفارة إسرائيلية في أبوظبي الاسبوع الماضي.
ويبدو أن اغتيال الفلسطيني، محمود المبحوح في 2010 بأحد فنادق دبي فتح باب التعاون الإماراتي مع جهاز الموساد الإسرائيلي الذي ثبت ارتكابه الجريمة. ففي 2019 «توفي» حبيب الصايغ، رئيس تحرير صحيفة «الخليج» الإماراتية، رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، أمين عام الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في ظروف غامضة. فقبل عشرة أيام من «وفاته» كان الصايغ قد نشر مقالا تحت عنوان «إسرائيل عدو حقيقي لنا ومشروع خطر».
وترددت أنباء بأنه استدعي من قبل أجهزة الأمن وتعرض لمعاملة قاسية قبل الإعلان عن وفاته. وسبق ذلك بثلاثة شهور توفيت الدكتورة علياء عبد النور في سجن إماراتي، برغم المناشدات الدولية لإطلاق سراحها بعد إصابتها بالسرطان. وكان خبراء الأمم المتحدة قد دعوا لإطلاق سراحها لتستطيع تلقي العلاج المناسب، ولكن بدون جدوى. ويتعرض المعتقلون في سجون الإمارات لمعاملة قاسية تتخللها وجبات التعذيب الأليمة.
وفي شباط- فبراير الماضي قالت ماري لولور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان: «لم يتم فقط تجريم وسجن محمد الركن وأحمد منصور وناصر بن غيث بسبب دعواتهم غير العنيفة والمشروعة من أجل احترام حقوق الإنسان، بل تعرضوا لسوء المعاملة في السجن». وأضافت: «التقارير التي تلقيتها تشير إلى أن الظروف والمعاملة التي يتعرض لها هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان، مثل الحبس الانفرادي المطول، تنتهك معايير حقوق الإنسان، وقد تشكل تعذيبا».
وكان الأكاديمي البريطاني ماثيو هيدغيز قد أكد في 2018 بعد إطلاق سراحه من السجون الإماراتية سوء المعاملة التي تعرض لها. وذكر في مقابلته مع صحيفة «التايمز» في كانون الأول/ديسمبر بعض ما تعرض له من تعذيب قائلا؛ إنه كان يُجبر على الوقوف أياما كاملة ورجلاه مكبلتان بالأغلال، وكان يخضع للاستجواب لأكثر من 15 ساعة في المرة الواحدة خلال محنته التي استمرت 6 أشهر.
ويروي هيدغيز (31 عاما) أن المدة الزمنية التي قضاها في سجن أبو ظبي كانت حبسا انفراديا، وأجبر على التوقف المفاجئ عن تناول دوائه الذي كان يعطى له بجرعات خطيرة، وقال: «لقد كنت خائفا للغاية وفي حالة نفسية يرثى لها». وثمة خشية من أمور ثلاثة: أولها؛ أن تكون وفاة آلاء صديق نمطا جديدا في استهداف المعارضين باستخدام تكنولوجيا من أجهزة الأمن الإسرائيلية. ثانيها؛ أن يحدث تواطؤ غربي معها لمنع التحقيق في جرائم الاغتيال والقتل الموجهة ضد المعارضين النشطاء. ثالثها؛ أن تستخدم تكنولوجيا وطرقا متطورة لاستهداف المعارضين، وتجنيد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتنفيذ جرائم الاغتيال السياسي.
المشكلة أن اضطهاد المعارضين واستهدافهم جسديا لا ينحصر بالإمارات؛ فحكومة البحرين ما فتئت تستهدف معارضيها بشتى أساليب التنكيل وربما القتل أيضا. فمثلا في تموز/يوليو 2009 حدث اعتداءان في غضون يومين على معارضين لحكومة البحرين. الأول حدث مساء الخميس 9 تموز/يوليو، إذ تعرّض الناشطان (ع.ع. و ع.م.) لاعتداء جسدي كاد يودي بحياتهما. واتصل المعتدون بعد يومين وحذروهما من مغبة الاحتجاج أمام سفارة البحرين. وفي الساعات الأولى من يوم الأحد 12 تموز/ يوليو تعرض منزل أحد رموز المعارضة (س.ش.) لحريق مفتعل، كاد يأتي على المنزل لولا وصول فرق الإطفاء ورجال الأمن بشكل عاجل. ولكن لم تصدر الشرطة البريطانية تقريرا موثقا حول ما حدث، بل اكتفت بتسجيل حدوثه وتثبيته في السجلات الرسمية. وهناك تهديدات علنية ومبطنة للمعارضين، تصدر على لسان إعلاميي السلطة أحيانا وفي المقابلات مع المسؤولين.
وفي السنوات الأخيرة، سرت قشعريرة في جسد المعارضة البحرانية بعد اغتيال رجل أعمال كان قد فر بجلده إلى ماليزيا. ففي 2013 (عندما كان نجيب رزاق رئيسا للوزراء)، قتل رجل الأعمال البحراني حسين أحمد نجادي، 75 عاما، في العاصمة الماليزية كولالمبور بالرصاص قرب موقف للسيارات، بعد أن كان قد أنهى اجتماع عمل.
ونجادي مصرفي بارز أسس خامس أكبر بنك في ماليزيا؛ إذ قام بتأسيس المجموعة المصرفية العربية ـ الماليزية في العام 1975 قبل أن يبيعها بعد التأسيس بسبعة أعوام لتغير المجموعة اسمها إلى (أي إم إم بي هولدينغز بيرهاد)، لتصبح أكبر مصرف في ماليزيا. وكان نجادي في العام 1985 قد اختلف مع وزير الداخلية السابق، محمد بن خليفة آل خليفة، بعد أن اقترض الأخير مليوني دينار ونصفا، من البنك ولم يرجعه.
وعندما طلب نجادي إعادة القرض، أمر وزير الداخلية باعتقاله وفق «قانون أمن الدولة» وبقي في السجن ثمانية أعوام. وعندما خرج من السجن بقي عشرة أعوام في حالة حصار منعته من السفر حتى العام 2003 عندما توجه إلى ماليزيا. وهناك تعرض لعملية اغتيال أودت بحياته، وأثارت قلقا شديدا لدى المعارضة بوجود نية لدى النظام لتصفية معارضيه.
ثمة حقيقة ثابتة يجب أن تكون واضحة لدى أصحاب القرار السياسي في الدول التي تستهدف معارضيها بالتنكيل والقتل؛ هي أن القتل لا ينهي أزماتهم السياسية الداخلية، والاغتيال سيفاقم أزمات المنطقة.