تتعرض الفكرة الديمقراطية لأزمة عاصفة في الغرب الأمريكي والأوروبي، وكذلك تواجه منافسة شرسة في الشرق الأوروبي الذي تتصدره روسيا والشرق الآسيوي الذي تقوده الصين وللمنافسة تداعيات عالمية في بلدان الجنوب في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
شارک :
عمرو حمزاوي
تتعرض الفكرة الديمقراطية لأزمة عاصفة في الغرب الأمريكي والأوروبي، وكذلك تواجه منافسة شرسة في الشرق الأوروبي الذي تتصدره روسيا والشرق الآسيوي الذي تقوده الصين وللمنافسة تداعيات عالمية في بلدان الجنوب في قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
تدفع القوتان الكبيرتان روسيا والصين إلى الواجهة بنموذج للحكم لا يتحرج من عدم الالتزام بحقوق وحريات المواطنين ويتنكر لمبادئ أساسية كالفصل بين السلطات واستقلال المؤسسة القضائية ونزاهة العمليات الانتخابية، بل وتعلن موسكو وكذلك بكين صراحة أن حكمها أكثر رشادة وفاعلية من ديمقراطيات الغرب المأزومة.
في الغرب، من جهة أولى، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع حكومات منتخبة للتغول أمنيا واستخباراتيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة وتمرير قوانين استثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزال وجوده إلى "مكمن خطر" أو "مصدر تهديد" محتمل ينبغي بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه.
من جهة ثانية، تفرغ هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية وجماعات ضغطها على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة هذه من الجوهر الديمقراطي إن بقصرها ممارسة المواطن الناخب لحق الاختيار الحر لممثليه التشريعيين والتنفيذيين على مجموعات محدودة العدد ودائمة التدوير عليه أن يختار من بينها. أو باستبعاد قطاعات شعبية واسعة من عمليات صناعة القرار العام والسياسات العامة ومن ثم الإلغاء شبه الكامل لإمكانياتهم الفعلية لجهة التأثير في تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة الذي يترك لهيمنة النخب والمصالح الكبرى في الغرب.
كذلك تتصاعد في الولايات المتحدة الأمريكية والديمقراطيات الأوروبية وعلى نحو فادح عمليات فصل المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن المواطنات والمواطنين الذين تتراجع قدرتهم على الإدراك الواعي لما يحدث في أروقة البرلمانات والحكومات وتصدر لهم باستمرار انطباعات زائفة بشأن تعقد حقائق وتشابك تفاصيل دولاب العمل التشريعي والتنفيذي واستعصائها على فهم العوام. ومن أولئك الغلابة يطلب بالتبعية الاكتفاء بالمشاركة في مواسم الانتخابات المتتالية والتعبير عن رضاهم أو رفضهم للقرارات والسياسات العامة من خلال بطاقات التصويت، وبطاقات التصويت فقط. وترتب هيمنة النخب والمصالح الكبرى على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة والاستعلاء الصارخ في التعاطي مع المواطن عزوف الناس عن المشاركة في الانتخابات بنسب إقبال كبيرة وهجرتهم لمراكز الاقتراع وبطاقات التصويت مما يقضي على حلقة الوصل الأخيرة بينهم وبين الديمقراطية النيابية.
من جهة ثالثة، تتسع الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية بين الأغنياء وميسوري الحال والطبقات الوسطى وبين الفقراء ومحدودي الدخل والضعفاء من المهاجرين غير الشرعيين في الغرب بسبب انقلاب العدد الأكبر من حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي على سياسات الرفاه وتخليها عن الكثير من مكونات وإجراءات العدالة الاجتماعية في سياق الصعود السريع إما للأحزاب النيوليبرالية أو للتيارات الشعبوية التي باتت تضغط بقوة على الحياة السياسية في الغرب (ويقدم الدور المستمر للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب النيوليبرالية في الحياة السياسية الأمريكية نموذجا واضحا على ذلك).
مثل هذه الفجوات تبلور حقائق مؤلمة في الغرب الأمريكي والأوروبي بها من التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة ومن تهميش بيئات سكانية كبيرة ما يسقط مبادئ تكافؤ الفرص والتوازن المجتمعي الضامن للكرامة الإنسانية وللعدالة الاجتماعية في هوة سحيقة، ويفقد تأسيسا على ذلك قيم العدل والحق والحرية والمساواة مصداقيتها الأخلاقية والإنسانية وفعاليتها المجتمعية والسياسية.
من جهة رابعة، أضحت النخب الحزبية والسياسية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية النافذة في الغرب، على الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأي ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها، تحكم قبضتها على الفضاء العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام وتوظفها لتجاوز القيم الديمقراطية تارة بنيوليبرالية تلغي وجود الفقراء ومحدودي الدخل وتارة أخرى بشعبوية تختلط بالعنصرية وكراهية الأجانب واللاجئين.
أما في الشرق الأوروبي الذي تتزعمه جيو ـ استراتيجيا روسيا وفي الشرق الآسيوي الذي يقوده العملاق الصيني وكذلك في البلدان التي تدور في فلك القوتين الكبيرتين، فقد تمكنت الحكومات السلطوية من تزييف وعي الشعوب وصرفها عن طلب الديمقراطية إما بصياغة أفكار بديلة تناوئ الفكرة الديمقراطية وتتمتع على نحو متصاعد بجاذبية عالمية أو بالترويج لاستحالة فاعلية الديمقراطية في واقع مجتمعي وسياسي يحتاج لقوة وسرعة وكفاءة الحكومات السلطوية أو بالتشديد على كارثية التحولات الديمقراطية في مجتمعات لا تقتصر أزماتها طويلة المدى على انتهاكات حقوق الإنسان ونواقص الحريات السياسية والمدنية.
وتنطبق هذه النقطة الأخيرة على مجمل بلاد العرب التي إما تعاني من انهيار مؤسسات الدول الوطنية أو تعمل أزمات التخلف والتطرف والإرهاب معاول الهدم في سيادتها واستقرارها وفاعلية أجهزتها أو تتكالب الطائفيات والهويات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية وغيرها من الهويات الجزئية على شعوبها لتنزع عنهم السلم الأهلي ولتجرد رباط المواطنة من المضمون. بل، تعاني بعض بلاد العرب من تهاوي ضمانات السلم والأمن وتصاعد معدلات أعمال العنف والصراعات المسلحة والحروب الأهلية.