حديث التقريب.. الامام الشهيد الصدر رائد الوحدة والتوحيد (3)
تنـا - خاص
إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة - قبل نصف قرن - بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصًا من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام.
ذكرنا أن السيد الصدر في طرحه المشروع الإسلامي للحياة بلغة العصر وعلى مستوى احتياجات العصر، كان أعظم مشروع تقريبي جعل المسلمين سنة وشيعة أمام هدف إعادة الإسلام إلى الحياة.
واستمرّ على هذا الطريق يعالج القضية المذهبية على مستوى تجاوز الإطار المذهبي في الاعتماد على المصادر، وفي بياناته التي وجهها إلى الشعب العراقي في أيام المحنة، وفي معالجته الموضوعية للمسائل الخلافية. وهذا ما يعرضه تلميذه الشيخ محمد رضا النعماني في مقال تحت عنوان : -
«علاج الحواجز النفسية للتقريب بين المذاهب الإسلامية عند الإمام الشهيد الصدر(رض)».
يقول :-
إن من الحقائق التي يجب أن لا نغفلها، هي أن أحد أهم جوانب مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية جانب نفسي موروث تلقّته الأجيال من دون دراسة أو مناقشة تتيحان التحرّر منه والانطلاق من بوتقته نحو جوّ من التأمل والمعالجة الموضوعية، الأمر الذي أدى إلى تراكم الكثير من الحساسيات التي شكّلت عقبة كبيرة في طريق محاولات التقريب.
ويجب أن لا نغفل أن السياسة لعبت دورًا كبيرًا - على امتداد التاريخ - في تعميق الفجوة النفسية بين أتباع تلك المذاهب، فتارة تصوّره على أنه خطر يستهدف القضاء على أتباع هذا المذهب أو ذاك، وأخرى على أنه عقيدة لا يجوز التنازل عنها وهكذا.
ولو تصفّحنا أوراق التاريخ لوجدنا أن الكثير من الدماء سفكت بسبب سياسات الحكّام في إطار تعميق الخلافات المذهبية وإخراجها من إطارها العلمي والفقهي إلى الوضع الأصعب المتمثل بالحواجز النفسية والروحية، وتسخيرها لمصلحة الحكام وليس لمصلحة الإسلام والأمة الإسلامية.
وفي هذا البحث المقتضب أحاول أن أستعرض اهم الخطوات التقريبية التي خطاها الإمام الشهيد الصدر (رضوان اللّه عليه). ومع أن يد الإجرام حرمت منه الأمة في وقت مبكر جدًا، فلم يتح له أن يمارس دوره الكامل في تطبيق أفكاره ومشاريعه التي منها توحيد الأمة وتجميع صفوفها، فإن نزرًا يسيرًا قد عرفناه عن تلك الأفكار والمواقف والتصورات أعطانا رؤية واضحة عن هذا الجانب في موقفه من عملية التوحيد والتمسّك بعرى الإسلام والإيمان...
إن أهم خطواته العملية والتي تعتبر رائدة في هذا المجال يمكن تلخيصها بمايلي :-
الأولى- من الملاحظ أن الامام الشهيد الصدر لم يقتصر في مؤلّفاته على الكتب الشيعية فقط بل اعتمد كذلك على كتب أهل السنة ومصادرهم معتبرًا الفقه الإسلامي كيانًا واحدًا مع مافيه من تعدد الاجتهاد والمذاهب، فمثلاً اعتمد في كتاب اقتصادنا في محاولته لبلورة النظام الاقتصادي الإسلامي على مجموعة من المصادر الإسلامية السنية، منها: كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتاب المغني لابن قدامه، وكتاب الأُم للشافعي، وكتاب المحلّى، لابن حزم، والمدونة الكبرى، ومواهب الجليل للحطاب، ونهاية المحتاج للرملي، والمبسوط للسرخسي، والفقه على المذاهب الأربعة. وغيرها من المصادر السنية.
ولم يكن (رحمه الله) بصدد نقاش الآراء الفقهية للمذاهب الإسلامية، وإنما كان بصدد اكتشاف هيكلية النظام الاقتصادي الإسلامي.
ومع ذلك فنحن لا ننكر أن المصادر وطرق الاستنباط للأحكام الشرعية تختلف بين مدرسة أهل البيت وبين المذاهب الإسلامية الأخرى، سواء في القيمة العلمية للرأي الفقهي، أو في قيمة وحجة المصادر الروائية والفقهية، ومع ذلك فإننا على صعيد الواقع ننتهي إلى نتيجة واحدة.
إن هذا اللون من التفاعل الإيجابي والتعامل العلمي يجعل السني يشعر بأنّ لرأيه الفقهي أهمية وموقعًا عند أخيه الشيعي، وكذلك العكس. فيؤدي في النتيجة إلى روح التفاعل والانفتاح ويعزز روابط الأخوة، ويصدّع من قوة الحواجز النفسية.
ثانيًا - أصدر الامام الشهيد الصدر(رضي الله عنه) بيانًا وجّهه إلى الشعب العراقي (عام 1979م) وكا وقتها محتجزًا من قبل السلطة وذلك قبل استشهاده بعدة أشهر، حمل العبارات التالية :-
«أيها الشعب العظيم، إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهبًا دون آخر».
«وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء حين دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعًا، وعن العقيدة التي تضمّهم جميعًا».
وفي مقطع آخر يقول: «فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي. إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضدّ العدو المشترك.
وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني، إن الحكم السني الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل عليٌّ السيف للدفاع عنه إذ حارب جنديًا في حروب الردّة تحت لواء الخليفة الأول أبي بكر، وكلّنا نحارب عن راية الإسلام، وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي.
إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة - قبل نصف قرن - بوجوب الجهاد من أجله، وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصًا من أجل الحفاظ على راية الإسلام ومن أجل حماية الحكم السني الذي كان يقوم على أساس الإسلام».
ومما لا ريب فيه أن هذه الوثيقة تعتبر من أهم الوثائق التي يمكن أن تساهم في معالجة الحواجز النفسية بين أبناء الأمة الإسلامة، وذلك لأن السيد الشهيد الصدر حينما أصدر هذا البيان كان قد صمّم على الاستشهاد في سبيل اللّه لإيمانه بأنّ المرحلة الجهادية والسياسية تتطلب ذلك، وقد فصّلنا ذلك في كتاب سنوات المحنة وأيام الحصار الأمر الذي يجعل كل باحث موضوعي يدرك أن الامام الصدر لم يقصد المجاملة أو المحاباة بل كان يهدف حقًا إلى معالجة مشكلة الفُرقة والتشتت من جانب، وتوحيد الامة في إطار الإسلام من جانب آخر.
وما من شك أن علاج هذه القضية يحتاج إلى زمن طويل وجهود مكثّفة من الطرفين، إلا أن هذا لا يمنع من التوافق على احترام كلا الطرفين لعقيدة الآخر وآرائه السياسية وغيرها والوصول ولو إلى الحد الأدنى من الوفاق والتوحّد. وفي هذا الضوء أعتقد أن الإمام الشهيد الصدر سار بهذا الاتجاه، فلم يجعل الاختلافات المذهبية مبررًا لعدم التوحّد، فنراه قد اعتبر نفسه وكيانه ملكًا للمسلم السني كما هو للمسلم الشيعي فيقول: «وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء».
ويقول: «فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي».
ومما لاشك فيه أن لهذا التخاطب الأبوي والأخوي أثرًا إيجابيًا فعّالا في تمزيق الحاجز النفسي وتبديد قوته، فما أجمل أن تجد الأمة - بمختلف مذاهبها - قائدًا شيعيًا بل علمًا من أعلامها يخاطب الجميع بروح الأبوة والأخوة فيقول: أنا لكم جميعًا.
وذكر ثانيًا أن الخلاف العقائدي والسياسي في إطار الدين لايجوز أن يحول دون التعاون والتكاتف في سبيل خدمة الإسلام والدفاع عنه. واستشهد لذلك بمثالين :-
الأول ماكان في صدر الإسلام حيث قال: «حمل علي السيف للدفاع عنه، إذ حارب جنديًا في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول أبي بكر».
وذكر مثالاً آخر من التاريخ الحديث وذلك حينما تعرّض الحكم العثماني لضربات الإنجليز فوقف علماء الشيعة إلى جانب الحكم العثماني وأفتوا بوجوب الدفاع عنه لأنه رافع لراية الإسلام فقال : «إن الحكم السني الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله وخرج مئات الآلاف من الشيعة وبذلوا دمعهم رخيصًا من أجل الحفاظ على راية الإسلام» لماذا؟ لأن الهدف «أن نحارب عن راية الإسلام وتحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي»...
ثم بيّن (رضوان اللّه عليه) أن من أهم أسباب تعميق الخلافات وتهويلها هو الاتجاهات السياسية والقادة الذين تحكمهم مصالحهم الخاصة فقال: «إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنة أن المسألة مسألة شيعة وسنة ليفصلوا السنة عن معركتهم الحقيقية ضدّ العدو المشترك، وأريد أن أقولها لكم يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني»...
لم يستعمل (رضي الله عنه) عبارات من شأنها جرح عواطف ومشاعر السنة، فنراه يعبّر عن الخلفاء بعبارات مناسبة اعتادوها عند ذكرهم لهم، راجع على سبيل المثال الصفحات التالية من فدك في التاريخ، 26، 44، 59، 73، 150، وهو يريد أن يعبّر عن الأسلوب الأمثل في كيفية التخاطب بعيدًا عن كل ما من شأنه تفريق المسلمين أو جرح مشاعرهم أو الإساءة إلى معتقداتهم...
ولا أعتقد أن أحدًا - سنيًا كان أم شيعيًا - لا يستسيغ هذا اللون من النقاش الموضوعي والمعالجة العلمية، فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها أينما وجدت، والموضوعية هي المقدّمة الضرورية التي من دونها تفقد حركة البحث عن الحكمة هديها، وهي في منهج الإمام الشهيد الصدر يجب أن تكون مقرونة بالخُلق الإسلامي الرفيع، ففدك بما ترمز اليه، والموقف منها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا لا يخلق مبررًا لخلافات تخرج عن إطارها إلى حد القطيعة والفرقة الكراهية، ويجب أن تطوّق الخلافات - العقائدية والتاريخية والفقهية وغيرها - ضمن حدودها في ظل احترام الرأي والرأي المقابل.
وأعتقد أن أسلوب الإمام الشهيد الصدر في المعالجة استكمل الشروط الموضوعية والأخلاقية إضافة إلى ما اتسم به من شفافية وانفتاح، وفوق ذلك كله الخلق الرفيع الذي من شأنه تحطيم أقوى الحواجز والعقد النفسية التي كانت ولاتزال تشكّل أكبر عقبة في طريق توحيد أمة التوحيد» (انتهى ما نقلناه من مقال الشيخ رضا النعماني).
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية