لاكوانغا مدينة المحسنين، تبثّ نور التعايش والتسامح في أفريقيا الوسطى
تنا
حي لاكوانغا في (بانغي) قدم الدليل على أن تحاور الأديان كفيل بتبديد التوترات والكف عن استعمال لغة السلاح .
شارک :
أمام أشد التوترات الدينية والطائفية والمذهبية تبرز مبادرات أو فعاليات تُثبت بإمكانها إرساء تعايش هادئ بين الأديان المختلفة، ولاشك أن هذه المبادرات، فضلا عن تأكيدها أنّ الأديان- على اختلافها- لم تكن يوما في حالة عداء، فإنّها تمثّل نماذج متسامحة جديرة بالاقتداء. في هذا الصدد كان حي لاكوانغا في أفريقيا الوسطى تعبيرا على قدرة البشر على خلق حالة من العلو الإنساني على الاختلاف، الّذي يصبح (أي الاختلاف) حينئذ مصدر إثراء.
في حيّ “لاكوانغا” المطلّ على نهر “أوبانغي”، تتغيّر إحداثيات الوضع الذي ترزح تحته العاصمة بانغي وعدد آخر من مدن أفريقيا الوسطى تحت ثقل المجازر وعمليات القتل اليومية.
فهذا الحي يعيش على وقع هادئ لا يشوبه ذلك النزاع الطائفي المستفحل. فالمسلمون والمسيحيون يتعايشون بسلام ومحبّة في هذا الركن الذي يبدو كنشاز جميل في المشهد العام للبلاد، ليترجم بذلك صورة مغايرة عن تلك التي تبثّ يوميا صور الموت والتناحر.
“رينارد” مدير مدرسة “لاكوانغا المختلطة2” الابتدائية (حكومية)، هو أحد القاطنين بهذا الحي، “حي الأمل” كما يحلو لبعض السكان تسميته. بدا “رينارد” واثقا من نفسه ومن المستقبل، وهو يتحدّث في حماس عن واقع المدرسة التي يشرف عليها وعن الحي بشكل عام قائلا “في هذه المؤسسة التربوية والتي تعتبر صورة مصغّرة من الحياة في لاكوانغا، يتعايش المسلمون والمسيحيون بشكل طبيعي، ويحترم بعضهم البعض الآخر، ولا يهتمّون كثيرا بالأحداث والمستجدّات الأمنية التي تشهدها بانغي وبقية مدن البلاد”.
وعلى إثر اندلاع النزاع في أفريقيا الوسطى، جاء العديد من الأولياء إلى المدرسة للاستفسار عن وضع أبنائهم، إلا أن “رينارد” طمأنهم، وأكد لهم أن “المدرسة تضطلع بمهمّة امتصاص التوتر الحاصل، وذلك عبر بثّ ثقافة التعايش الجماعي على أساس الاحترام المتبادل بين سكان أفريقيا الوسطى، بغض النظر عن ديانة وانتماء كلّ واحد منهم”.
من جهة أخرى، فإنّ حالة الوفاق التي تسود الحيّ، لا تستثنيه من احتمالات تعرّضه إلى اعتداء محتمل، وهذا ما يضع المدرسة على لائحة المؤسّسات التي قد يتمّ استهدافها من قبل “متمرّدين لا إيمان لهم ولا قانون يحكمهم”، على حدّ تعبير رينارد.
ويرتاد السكّان المسيحيون والمسلمون على حدّ سواء، المطاعم والمقاهي وفضاءات الترفيه المتواجدة في الحيّ بشكل مشترك، حتّى يُخيّل للمرء أنّ المكان برمّته قد اجتثّ من خارطة بانغي الصاخبة بفعل النزاع الطائفي الذي يهزّ أرجاءها. فالعلاقات بين السكان كانت أخوية، والطائفتان تتعايشان معا، ويتحادث أفرادهما مع بعضهم البعض، ويتحابّون غير مكترثين بما يحدث غير بعيد عنهم.
من جهته، يعتبر، فوكياندي دانييل بريس، أحد سكان الحي المسيحيين، أنّ التعايش بين المسلمين والمسيحيين في “لاكوانغا”، يصلح لأن يكون “مثالا يحتذى به لأولئك الذين يتقاتلون ويسفكون الدماء في البلاد، حتّى يكفوا عن الاقتتال الذي تشتدّ دمويّته يوما بعد يوم”.
هذا الاقتتال الذي تعاني منه أفريقيا الوسطى،لا تزال إشكالية الصراع الديني التي تحركه على أشدها، والتي كانت قد اندلعت أواسط السنة الماضية على خلفيات سياسية وصراعات من أجل السلطة، وأودت بحياة آلاف الأشخاص ونزوح حوالي 400 ألف آخرين، فيما تعاني أغلبية السكان من المجاعة وسوء التغذية والتجنيد القسري للأطفال وتوقف المدارس والمرافق العمومية عن العمل.
غير أنّ “لاكوانغا”، أو “مدينة المحسنين”، بحسب ما أسماها “بريس”، شذّت عن القاعدة وقدّمت المثال وهي ماضية في بثّ نور التعايش والتسامح كي يعمّ كامل البلاد. حيث قال “بصراحة، نحن ندين بهذه الحياة التي ننعم بها اليوم، إلى آبائنا وأسلافنا الذين علّمونا منذ طفولتنا المبكّرة احترام الآخر وتكريس قيم التسامح والتضامن والعمل الخيري”. هي القصص الشاهدة على أواصر التضامن والتعاون التي تميّز العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بحي “لاكوانغا” من ثمّة، عديدة ومتنوّعة، ومن بينها قصة “محمد بابا دياوارا” (شيخ بلغ الستين من عمره)، الذي يعمل خياطا وينتمي إلى الطائفة المسلمة التي تقطن هذا الحي.
“دياوارا” الذي دأب منذ وقت طويل “على النهوض في الصباح الباكر”، بدا على غاية من الحيوية وهو يهنئ نفسه بجيرانه قائلا: “أحمد الله على وجودي وحياتي هنا (في حي لاكوانغا) ففي هذا المكان، يسود الاحترام بين المسلمين والمسيحيين”، مضيفا “أنا لا أنسى أبدا ذلك اليوم الذي هرع فيه جميع شباب الحي- من بين المسلمين والمسيحيين- للدفاع عني ضدّ قطّاع الطرق القادمين من خارج الحي، والذين استهدفوني غداة استقالة الرئيس ميشيل دجوتوديا، الرئيس السابق لأفريقيا الوسطى”.
وأرجع “دياوارا” العلاقة الوطيدة التي تربط بين سكان الحي إلى مستواهم التعليمي، حيث قال “لا أفشي سرّا حين أقول إنّ سلوكات هؤلاء الناس الّذين يتبادلون مشاعر الحب والاحترام، في وقت يتقاتل فيه شقّ آخرمن سكان البلاد، هي نتاج بديهي ومنطقي للتضحيات الّتي قدّمها آباؤهم، من خلال إصرارهم على تعليم أبنائهم، ليعدّوا لأفريقيا الوسطى رجالا جديرين بانتمائهم إلى العنصر البشري”. وختم “دياوارا” حديثه، كاشفا عن حكمة من النادر أن تتوفّر في خضمّ حالة عدم اليقين الّتي تُطبق على الوضع في أفريقيا الوسطى، حيث قال: “لو يقتدي مواطنو البلاد بسكان حي لاكوانغا، فلن تسيل الدماء مجدّدا على هذه الأراضي الغنية بالثروات الطبيعية، والفقيرة إلى الحكماء في الآن نفسه”.