من روائع الخطب للعلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي حول المودة والوحدة الاسلامية بتاريخ : 06/03/1998
" أرأيتم لو أن ثلاثة إخوة يسيرون في طريق يجتازونه إلى بلد ما، وخرج عليهم أثناء المسير أعداء؛ قُطاع طريق وقفوا في وجوههم، يستطيعون أن يُجردوهم من أموالهم إذا شاءوا ولم تكن لديهم القدرة الكافية في مواجهة الأعداء، يستطيعون أولئك الأعداء - قُطاع الطرق - أن يجردوهم من كل ما معهم حتى من ثيابهم، يستطيعون إذا شاءوا ربما أن يقتلوهم، ولكن هل يستطيع قطاع الطريق هؤلاء أن يحيلوا مودة ما بين هؤلاء الإخوة إلى عداوة؟ هل يستطيع قُطاع الطريق هؤلاء أن يُقطعوا صلة القربى السارية بين هؤلاء الإخوة؟ هذا ما لا يستطيع قُطاع الطريق أن يفعلوه، مهما كثروا ومهما قل هؤلاء الإخوة.
كل الأموال يمكن أن تُأخذ بواسطة القوة، وكل المقدرات يمكن أن تجرد من أصحابها بواسطة القوة، وكل أنواع الأذى المادية يمكن إنزالها بهؤلاء الإخوة إلا المودة السارية فيما بينهم، وإلا الوحدة التي تجمعهم. فهذا لا يستطيع الأعداء أن يفعلوه مهما كثروا، ذلك لأن المودة نابعةٌ من الأعماق، ومن ثم فإن الوحدة ثمرة لهذه المودة.
هذا المثل الذي أقوله ينطبق على واقع هذه الأمة الإسلامية اليوم .. أما أن يتجه الأعداء إليها فيجردوها من ممتلكاتها، هذا يمكن عندما يكون الأعداء أقوياء وتكون هذه الأمة ضعيفة. وأما أن يحتل هؤلاء الأعداء أو بعض منهم جزءاً من أوطانهم أو يستلبوا بعضاً من حقوقهم فهذا أيضاً ممكن، وأما أن يعمد هؤلاء الأعداء فينصبوا عليهم حرباً لا هوادة فيها ويسلطوا عليهم أسلحة الدمار الشاملة التي يملكونها ولا يريدون لغيرهم أن يمتلكها فهذا أيضاً ممكن. ولكن هل يمكن لهؤلاء الأعداء إذا كانت هذه الأمة متحدة وإذا كان الود سارياً فيما بين أفرادها .. هل يمكن لهؤلاء الأعداء أن يقطعوا صلة القربى فيما بينهم وأن يحيلوا مودتهم الموجودة والنابعة من عبوديتهم لله ووقوفهم تحت مظلة الإيمان بالله عز وجل؟ هل يستطيع هؤلاء الأعداء أن يسلكوا إلى ذلك سبيلاً؟
كل عاقلٍ منكم يعلم الجوب، لا يستطيع الأعداء مهما كثروا ومهما كثرت حيلهم أن يحققوا شيئاً من هذا أبداً؛ ولذلك تجدون كتاب الله عز وجل أيها الإخوة لا يأمر الناس المسلمين والمؤمنين بشيء كما يأمرهم بالاتحاد، وكما يأمرهم بالمحافظة على هذه الوحدة التي رسّخها الإيمان بالله فيما بينهم. لا يأمرهم بالقوة كما يأمرهم بهذه الوحدة، لا يأمرهم بشيء لا يأمرهم بمحافظة على وطن، ولا بمحافظة على مال، ولا بمحافظة على كنوز ومدخرات كما يأمرهم بالمحافظة على هذه الوحدة. ذلك لأنها الكنز الوحيد الذي يملك الإنسان أن يطرد الأعداء جميعاً عندما يطمعون في هذا الكنز، لذلك يقول: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" يقول: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" يقول: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ" يكرر هذا كله.
ولكن لعل فينا من يقول: فمال هذه الأمة قد فقدت وحدتها فعلاً؟! وهاهم أولاء الأعداء قد استطاعوا أن يحيلوا المودة التي أكرمهم الله عز وجل بها إلى تدابر بل إلى عداوة أحياناً؟! ها هم أولئك الأعداء قد استطاعوا أن يفعلوا ذلك؟!
إنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك قهراً أبداً، ولكنهم استطاعوا أن يقضوا على وحدة هذه الأمة عندما رغبت هذه الأمة معهم في أن تزول وحدتها، عندما تعاون المسلمون مع أعداءهم في أن يسحقوا وحدتهم ويقطعوا الشمل الموصول فيما بينهم.
أي عدوٍ هذا الذي يجبر أخاً أن يعادي أخاه بعد أن أوجد الله سبحانه وتعالى صلة القربى وصلة الود بين الأخ وأخيه!؟ ولكن عندما أراد العدو أن ينال من هذه الأمة منالاً علم أنه لا يستطيع أن يصل إلى أموالها، ولا يستطيع أن يحطم قوتها، ولا يستطيع أن ينال شيئاً من أوطانها إلا إذا بدء قبل ذلك فمزق الوحدة التي تتمتع بها. وعندما حاول العدو أن يقضي على هذه الوحدة لم يجد سبيلاً إلى هذه الأمة عن طريق الإجبار أبداً، ولكنه انتظر أن تنكص هذه الأمة على أعقابها وأن تترك الحبل الذي جعله الله سبحانه وتعالى المحور الجامع لها، والأداة الموحدة والجامعة لشملها، انتظر أولئك الأعداء إلى أن ترك المسلمون هذا الحبل وتوجهت قلوبهم إلى الأموال بدلاً من أن توجه إلى هذا الحبل الذي عصمهم الله عز وجل به عبر قرون ٍ وأجيال. اتجهت نفوسهم إلى حب الشهوات والأهواء، اتجهت نفوسهم إلى حب المغانم بدلاً من تحمل المغارم، عندئذٍ اتخذ العدو من المال الذي أصبحنا نحبه، من الشهوات التي أصبحت هي مهوى قلوبنا وأفئدتنا، جعل العدو من ذلك سلاحاً للقضاء على وحدتنا.
لو كان الإخوة إلى اليوم يُضحون بالمال في سبيل هذه المودة التي أشاعها الإسلام بالأمس فيما بينهم، لو كان هؤلاء الإخوة المسلمون يُضحون بالأهواء والشهوات في سبيل هذا الحبل الذي جمع شملهم، وفي سبيل الأُخوة التي ارتضاها سبحانه وتعالى لهم إذا قال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" هل كان العدو أياً كان يستطيع أن يفرق بين الأخ وأخيه عن طريق المال؟ هل كان العدو يستطيع أن يفرق بين الأخ وأخيه عن طريق سباق الشهوات؟ لا بشكلٍ من الأشكال. بل سيدور ويدور ويدور تماما ًكالكلب الذي يدور حول الحمى من أجل أن ينقض إلى داخله لينال منالاً من الأغنام التي فيه، ولكنه مهما دار ولف لن يجد سبيلاً لأن يخترق الحصن أو الحمى إلى الداخل أبداً، ولكن العدو نظر فوجد أن المسلمين اليوم لم يعودوا كالمسلمون من قبل، كان المسلمون من قبل يُضحون بالمال ويجعلونه فداءً لوحدتهم، كان المسلمون من قبل يُضحون بالدنيا كلها حتى بالأوطان إن اقتضى الأمر ليجعلوا ذلك فداءً لوحدتهم.
أما اليوم بعض مسلموا اليوم يُضحون بوحدتهم في سبيل أن ينال الواحد منهم مزيداً من الثروة ويسبق أخاه إليها. أما المسلمون اليوم فأناسٌ يُضحون بعقائدهم إن اقتضى الأمر، ويُضحون بوحدة مابينهم إن اقتضى الأمر في سبيل أن يضمن الواحد منهم لنفسه مزيداً من الأهواء والشهوات التي يطمح إليها. رأى الأعداء هذا الواقع الذي آل إليه حال المسلمين اليوم، فتسللوا إلى حمى هذه الأمة. لم يفعلوا ما فعلوا من تقطيع صلة القربى بين المسلمين بمعجزة أوتوها، ولم يجبرونا على ذلك ولكننا نحن الذين ارتضينا لأنفسنا أن نتدابر في سبيل المال، وأن نتعادى في سبيل الشهوات والأهواء، عندئذ بدء العدو يلعب لعبته.
وكتاب ربنا ينادينا صباح مساء أن عودوا إلى رشدكم، المال الذي أعطيتكم إياه ثمرةً لوحدتكم، الأوطان التي أكرمتكم بها ثمرة من ثمرات وحدتكم، القوة التي متعتكم بها ثمرة من ثمرات وحدتكم، فإذا شئتم أن تحافظوا على الثمر فحافظوا على الجزع، حافظوا على أشجار الثمر. هكذا يقول لنا الله عز وجل.
ولكن الأغبياء اليوم، ولكن المسلمين الأغبياء اليوم مُنوا بالغباء قبل أن يمنوا بضعف الإيمان بالله سبحانه وتعالى. تاهوا عن هذا الرشد ولحقوا الثمار وتركوا الأصول والجذور، فلم يُبقوا لا على أصولٍ ولا جذور، ولم يبقوا على الثمار التي تسابقوا من أجلها وسال لعابهم في سبيلها. في سبيل المال تدابروا وتخاصم الجيران فأين هو المال؟ ذهب المال الذي تدابروا من أجله إلى العدو.