تاريخ النشر2012 17 May ساعة 13:16
رقم : 94811

«مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني»: كشف بأسماء من باع فلسطين

تنا - بيروت
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنها تكشف ما صار مكشوفاً إلى حد بعيد، أي الطرائق المتعددة التي استعملها الصهيونيون الأوائل في استملاك أراضي الفلسطينيين، وفي اقتلاع الفلاحين منها، وهي وثيقة دامغة للمالكين الغائبين الذين لم يتورعوا عن بيع اليهود ممتلكاتهم
«مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني»: كشف بأسماء من باع فلسطين
العنوان الأصلي لهذا الكتاب هو «يوسيف نحماني: رجل الجليل». أما عنوانه بالعربية فصار «مذكرات سمسار أراضٍ صهيوني»، وهو من وضع المترجم. وكان من الملائم لو تُرك عنوان الكتاب كما هو بالعبرية، لأنه، كما يلوح لي، أكثر دقة؛ فهو يوميات Diaries وليس مذكرات Memories أو حتى سيرة ذاتية Autobiography. والنصوص الأصلية التي تركها يوسيف نحماني لم تنشر كاملة في هذا الكتاب، بل قام صديقه يوسيف فايتس بانتقائها وتحريرها. وفي الترجمة العربية حُذف الجزء الأول وهو مراثٍ كتبها فيه أصدقاؤه ومعارفه (ص ٨). والكتاب ثلاثة أقسام: الرسائل ثم اليوميات ثم بعض المدونات. 

تغطي هذه اليوميات الفترة الممتدة بين سنة ١٩٣٥ وسنة ١٩٤٩، بينما تتسع الرسائل لتشمل عدداً من الوقائع التي جرت منذ سنة ١٩١٢ إلى ما بعد النكبة صعوداً حتى سنة ١٩٦٤. ومشكلة الكتاب، مثل مشكلة جميع كتب اليوميات. هي أن جزءاً كبيراً من التفصيلات التي تكون مهمة في أوانها تصبح، بمرور الزمن، بلا أهمية.

المصادر الشحيحة

ما زالت قصة بيوع الأراضي في فلسطين، حتى اليوم، سائرة في الأفواه والأقلام من دون أي تبصر أو تمحيص، بل إنها باتت تهمة شائنة وُصم بها اللاجئون الفلسطينيون أينما حلّوا. ومع أن أربعاً وستين سنة قد مضت على النكبة، وصار من البدهي أن يكون أي عربي عارفاً تفصيلات هذه القضية بدقة، إلا أن الجهل حيناً، والعنصرية أحياناً، والكيدية في كثير من الأحيان، كان لها شأن كبير في استمرار الغموض الذي تجلببت به عمليات بيع الأراضي، ولم تنقشع غشاوة هذه القضية بتفصيلاتها كلها حتى اليوم. ولعل من أسباب ذلك أن المصادر الدقيقة والعلمية غير متاحة تماما، وهي قليلة جداً في أي حال، وبعضها مجرد نُقول، حتى بالأغلاط الرقمية، عن مصادر سابقة. 

وليس بين أيدي القراء
العرب إلا مصادر أولية في هذا الشأن مثل كتاب صالح مسعود أبو يصير («جهاد شعب فلسطين»، بيروت: دار الفتح، ١٩٦٨)، وكتاب هند أمين البديري («أراضي فلسطين»، القاهرة: جامعة الدول العربية، ١٩٩٨)، وكتاب يعقوب الخوري («أملاك العرب وأموالهم المجمدة في فلسطين»، القاهرة: دار الهنا، د. ت.)، وبعض كتابات سامي هداوي ومعظمها بالإنكليزية. أما المصادر الصهيونية المتاحة بالعربية فتكاد تكون معدومة أيضاً ما عدا كتاب جاك كانو («مشكلة الأرض في الصراع القومي بين اليهود والعرب: ١٩١٧ ـ ١٩٩٠»، حركة فتح ـ مكتب الشؤون الفكرية، ١٩٩٢)، وكتاب تمار غوجانسكي («تطور الرأسمالية في فلسطين» ـ ترجمة حنا ابراهيم، منظمة التحرير الفلسطينية ـ دائرة الثقافة، ١٩٨٧)، وغيرها قليل جداً. 

من المعروف أن المعلومات الإحصائية عن بيوع الأراضي الفلسطينية ما زالت متضاربة جداً. فثمة مصادر تذكر أن الصهيونيين امتلكوا حتى سنة ١٩٤٨ أكثر من مليوني دونم. بينما تذكر مصادر أخرى أنهم امتلكوا ١,٧٣٤ ألف دونم. وتذكر إحدى المقالات أن مجموع ما اشتراه الصهيونيون من الفلاحين الفلسطينيين مباشرة، أي باستثناء ما استولوا عليه من حكومة الانتداب وما اشتروه من المالكين الغائبين، لم يتعدَّ ٦٨ ألف دونم. 

تكمن أهمية هذا الكتاب في أنها تكشف ما صار مكشوفاً إلى حد بعيد، أي الطرائق المتعددة التي استعملها الصهيونيون الأوائل في استملاك أراضي الفلسطينيين، وفي اقتلاع الفلاحين منها، وهي وثيقة دامغة للمالكين الغائبين الذين لم يتورعوا عن بيع اليهود ممتلكاتهم، وتركهم الفلاحين العرب لأقدارهم. ويورد الكتاب معلومات أولية عن بداية تنظيم «الدفاع» عن المستوطنات في سنة ١٩٢٠ حين ظهرت شرطة الخيّالة بعدما تعرضت مستعمرات الجليل مثل مشمار هايردن لهجمات الفلاحين العرب (ص ٤٦)، غير أن الكتاب يكشف أن الصدامات الأولى بدأت، لا مع الفلاحين العرب كما هو شائع، بل مع البدو الذين كانوا يستعينون بقبائل حوران للإغارة على المستوطنات في طبرية وجوارها، ولا سيما مستعمرتي دغانيا أودغانيا ب (ص ٥٢). 

أما كلمة «العرب» فهي ترد في هذه الترجمة
بمعنى البدو أحياناً، وكان يجب ترجمتها إلى «الأعراب»، وأحياناً بمعنى المواطنين العرب. ويتحدث الكتاب أيضاً عن بدايات صناعة السلاح في «الييشوف» وكيف حاول الصهيونيون آنذاك ملاءمة الذخيرة التركية مع البنادق الألمانية التي كانوا يمتلكونها. ويرسم الكاتب صورة واقعية غير زاهية للعمل الصهيوني في فلسطين تخالف الكلام التعبوي والأيديولوجي على الطلائع الأولى فيقول: «حياة الرفاق مسمومة. الواحد منهم لا يحتمل رفيقه، والعمل يسير من دون نظام» ( ص ٤٠).

رجل الجليل

ولد يوسيف نحماني في روسيا في سنة ١٨٩١، وهاجر إلى فلسطين في سنة ١٩٠٧. ولدى وصوله عمل في كروم القدس، وفي مستوطنة زخرون يعقوف، ثم انضم إلى حزب بوعالي تسيون (عمال صهيون). وفي سنة ١٩١١ انضم إلى منظمة هاشومير (الحارس) في الجليل، وبقي عضواً فيها حتى سنة ١٩٢٠ حين التحق بالشرطة العبرية كشرطي خيّال. لكن الميدان الأبرز الذي برع فيه هو استملاك الأراضي لمصلحة «الصندوق القومي الإسرائيلي» (هكيرن هكييمت ليسرائيل)، فعين مديراً لمكتب الصندوق في طبرية الذي كان نطاق عمله يشمل الجزء الشرقي من الجليل، أي الحولة وغور الأردن الشمالي من بيسان إلى طبرية وسمخ وحتى مشارف صفد. وعلى الرغم من انهماكه في هذا الميدان الحساس، إلا أنه ظل محدود الأفق سياسياً، فلم يفهم لماذا كان دافيد بن غوريون غير متحمس لعمليات شراء الأراضي. والجـواب بسيط جداً؛ فبن غوريون بدأ يخـطط لاحتلال الأرض بالقوة العسكرية بعد تقرير لجنة بيل في سنة ١٩٣٧ (وليس قرار لجنة بيل كما ورد في ص ١٤) الذي أوصى بتقسيم فلـسطين، ولم يكن يرغب في تبذير الأموال على عمليات استملاك متعبة ومحدودة (المقدمة، ص ١٢). 

تمكن نحماني من تأسيس صداقات متشعبة مع الفلسطينيين، لكنه وظف علاقاته كلها في خدمة عمليات شراء الأراضي. ومن الأشخاص الذين ارتبطوا به بعلاقات متشعبة كل من خليل فرنسيس والمطران عقيل (اليد اليمنى للبطريرك الماروني آنذاك) والياس نمور (من بيروت) وعبد الحسين بزي (من بنت جبيل) وعبد الغني مارديني ونعيم شقير (من ميس الجبل) ونسيب غبريل (من حاصبيا) وعلي العبد الله وخليل فرحات وعادل بدير وغيرهم.

مَن باع الأرض؟

في أواخر نيسان ١٩٩٧ نشرت صحيفة «فصل المقال» التي كانت تصدر في الناصرة قائمة بأسماء بعض الفلسطينيين المشهورين ممن باعوا
اليهودَ بعض أراضيهم بين سنة ١٩١٨ وسنة ١٩٤٥. واستندت هذه القائمة إلى وثيقة بريطانية من عهد الانتداب البريطاني. وكان العنوان الذي اختارته «فصل المقال» لقائمتها هو «الآباء القابضون» التي ضمت الأسماء التالية: محمد طاهر الحسيني (والد الحاج أمين) وموسى كاظم الحسيني وموسى العلمي وراغب النشاشيبي وابراهيم الفاهوم ويوسف الفاهوم وتوفيق الفاهوم ويعقوب الغصين، وهؤلاء من أبرز الشخصيات الفلسطينية التي قادت الحياة السياسية في فلسطين قبل النكبة. وقامت القيامة ولم تقعد على «فصل المقال». 

(أنظر: جريدة «النهار» ٣٠/٥/١٩٩٧). غير أن هذه الأسماء وغيرها كانت متداولة بين المؤرخين والدارسين إلى حد ما؛ فجاك كانو يذكر في كتابه «مشكلة الأرض» (ص ٤٩)، بعض البائعين العرب أمثال موسى العلمي وعائلة روك وعوني عبد الهادي رئيس حزب الاستقلال الذي يتهمه جاك بأنه كان على صلة ما في قضية بيع أراضي وادي الحوارث (عيمق حيفر)، علاوة على القاضي الدكتور كنعان الذي لم يُحدّد اسمه الأول. ومع ذلك فإن ما يكشفه يوسيف نحماني مشين بجميع المقاييس ولا سيما قصة شرائه جبل الهراوي وأراضي قرية العديسة (٦٠٠ دونم) وجاحولا والبويزية في سنة ١٩٣٨، وكذلك أراضي قرى ميس الجبل والمطلة والمنارة وقَدَس والمالكية ومعدر وعولم في سنة ١٩٤٥. وفي هذا الميدان يورد نحماني أسماء البائعين في المنطقة التي عمل فيها أمثال الياس قطيط الذي باع خربة صبح (٦ آلاف دونم) فأقيمت على أراضيها مستوطنتا حانيتا وأيلون. وباع أمير عرب الفاعور في سنة ١٩٣٩ أراضي قرية الخصاص التي ارتكبت الهاغاناه فيها مذبحة مشهورة في ١٨/١٢/١٩٤٧. 

وتمكن نحماني من شراء أراضٍ في الزوية وقَدَس وهونين من آل فرحات في سنة ١٩٤٤. ويورد أسماء آخرين من بائعي الأراضي أمثال أحمد الأسعد ومحمود الأسعد وصليب صبح (من صفد) وكامل الحسين وأحمد مارديني، وزكي الركابي الذي باع أراضي قرية خيام الوليد. وفي هذه اليوميات لا يترك نحماني أي شك في شأن تعاون كامل الحسين زعيم عرب الغوارنة في الحولة في عمليات بيع كثيرة. 

ثمة ما هو مفاجئ في هذه اليوميات حقاً، فهي تروي أن الأمير خالد شهاب كان متعاوناً مع الكاتب، ويُعدّ أحد المتعاطفين مع اليهود، وأنه
زاره بنفسه في بيروت في ٣١/٥/١٩٣٦ وتلقى منه بعض النصائح (ص ٥٧). لكن القول الشائع عن الأمير خالد شهاب هو أنه «جاعْ وما باعْ» لأنه رفض أن يبيع اليهودَ بعض أملاكه في فلسطين، بات مكشوفاً فيه. فالكتاب يزعم أن الوسيط الياس بشوتي تفاوض مع نحماني على بيع أراضٍ للأمير خالد شهاب مساحتها ٤ آلاف دونم في قرية الغابسية بسعر ١٩ ليرة للدونم.

محاكمة جديدة

بلغ مجموع ما امتلكه الصهيونيون من أرض فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى ٤١٨ ألف دونم. وبلغ مجموع الأراضي التي امتلكها اليهود في سنة ١٩٤٨ نحو ١٧٣٤ ألف دونما (ولدى أبو يصير ٢٠٧٠٠٠ دونم). وفي جميع الحالات لم تزد ملكية اليهود على ٥,٧% من أراضي فلسطين حين صدر قرار التقسيم في ٢٩/١١/١٩٤٧. ومع ذلك، من أين حصل اليهود على هذه المساحات الأكثر خصباً في فلسطين؟ لقد حصلوا عليها، عدا البائعين الفلسطينيين، من بعض أفراد العائلات التالية:
١- آل سرسق اللبنانيون (ميشال ويوسف ونجيب وجورج) وهؤلاء باعوا أراضي الفولة ونورس وجنجار ومعلول في سنة ١٩١٠، ثم باعوا مرج ابن عامر بين سنة ١٩٢١ وسنة ١٩٢٥، وبلغ مجموع ما باعه أفراد هذه العائلة ٤٠٠ ألف دونم.
٢- آل سلام اللبنانيون الذي حصلوا في سنة ١٩١٤ على امتياز تجفيف مستنقعات الحولة من الدولة العثمانية، واستثمار الأراضي المستصلحة، لكنهم تنازلوا عنها للوكالة اليهودية. وبلغت المساحة المبيعة ١٦٥ ألف دونم.
٣- آل تيان اللبنانيون (أنطون وميشال) الذين باعوا وادي الحوارث في سنة ١٩٢٩ ومساحته ٣٠٨ آلاف دونم.
٤- آل تويني اللبنانيون الذين باعوا أملاكاً في مرج ابن عامر وقرى بين عكا وحيفا مثل نهاريا وحيدر وانشراح والدار البيضاء. وقام بالبيع ألفرد تويني.
٥- آل الخوري اللبنانيون الذين باعوا أراضي قرية الخريبة على جبل الكرمل والبالغة مساحتها ٣٨٥٠ دونماً. وقام بالبيع يوسف الخوري.
٦- آل القباني اللبنانيون الذين باعوا وادي القباني القريب من طولكرم في سنة ١٩٢٩، وبلغت مساحته ٤ آلاف دونم.
٧- مدام عمران من لبنان التي باعت أرضاً في غور بيسان في سنة ١٩٣١ مساحتها ٣٥٠٠ دونم.
٨- آل الصباغ اللبنانيون الذين باعوا أراضيَ في السهل الساحلي.
٩- محمد بيهم (من بيروت) الذي باع أرضاً في الحولة.
١٠- أسوأ من ذلك هو
أن خير الدين الأحدب (رئيس وزراء) وصفي الدين قدورة وجوزف خديج وميشال سارجي ومراد دانا (يهودي) والياس الحاج أسسوا في بيروت، وبالتحديد في ١٩/٨/١٩٣٥ شركة لشراء الأراضي في جنوب لبنان وفلسطين وبيعها. وقد فضحت جريدة «ألفباء» الدمشقية هذه الشركة في عددها الصادر في ٧/٨/١٩٣٧.
١١- آل اليوسف السوريون الذين باعوا أراضيهم في البطيحة والزويّة والجولان من يهوشواع حانكين ممثل شركة تطوير أراضي فلسطين.
١٢- آل المارديني السوريون الذين باعوا أملاكهم في صفد.
١٣- آل القوتلي والجزائرلي والشمعة والعمري السوريون وكانت لهم ملكيات متفرقة باعوها كلها.
هؤلاء هم مَن وضع مساحات كبيرة من الأراضي بين أيدي الصهيونيين، علاوة على الأراضي التي كانت بين أيديهم أو التي منحتها لهم سلطات الانتداب الإنكليزي مثل امتياز شركة بوتاس البحر الميت (٧٥ ألف دونم)، وامتياز شركة كهرباء فلسطين أو مشروع روتنبرغ (١٨ ألف دونم)، وقبل ذلك ما نالوه من الدولة العثمانية (٦٥٠ ألف دونم)... وهكذا. أما الفلاحون الفلسطينيون، ولا أقول المالكين الفلسطينيين الأثرياء الذين باعوا وقبضوا مثل غيرهم من المالكين العرب الغائبين، فقد جرى التحايل عليهم بطرق شتى، فسلبوهم القليل مما كان بين أيديهم من الأرض، وهو يتراوح بين ٦٨ ألف دونم و١٥٠ ألف دونم. 

في معمان ثورة ١٩٣٦ جرى الاقتصاص من بعض بائعي الأرض ومن السماسرة العرب، فاغتيل عدد منهم، وامتنع الباقون عن الاستمرار في هذا العار. لكن الاقتصاص من المُلاّك الغائبين كان من المحال، فلم يقتص منهم أحد، بل باعوا أراضيَ ليست لهم في الأصل، بل آلت إليهم من خلال حق الانتفاع لا من ملكية الرقبة في العهد العثماني. ولعل فضح انحطاط أصحاب تلك الأسماء، وكشف اللثام عما فعلوه في فلسطين، هما نوع من القصاص الرمزي، وهو الأمر الوحيد الممكن في هذا الميدان.
كاتب وصحافي فلسطيني
[ جمع الكتاب وحرره يوسيف فايتس ونشره بالعبرية في سنة ١٩٦٩. ثم أعده للترجمة العربية وقدّم له الياس شوفاني، وأصدرته دار الحصاد في دمشق سنة ٢٠١٠.

المصدر :"السفير" - صقر ابو فخر
https://taghribnews.com/vdcezv8o.jh8ezibdbj.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز