وصف الصخرة وقبتها
تتوسط مكانًا من أقدس بقاع الأرض، وتتلألأ لمعانًا كلمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها وروعة رونقها، ويقصر لسان رائيها في وصفها وتمثيلها، إنها "قبة الصخرة" المشرفة التي تزين مسجدًا بني وسمي بمسجد "قبة الصخرة"، فقدسية هذا المسجد هي جزء أصيل من قدسية ومكانة المسجد الأقصى المبارك.
مسجد "قبة الصخرة" يقع في حرم المسجد الأقصى في القدس المحتلة، وتحديدًا شمال المسجد، وقد أمر ببنائه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فوق "صخرة المعراج"، حيث شرع البناء فيه عام ٦٨هـ/ ٦٨٨م وتم الانتهاء منه عام ٧٢هـ/ ٦٩١م. يُعد هذا المسجد من أهم وأروع آثار الأمويين، وهو أيضًا أقدم أثر إسلامي في تاريخ العمارة الإسلامية، وما زال حتى يومنا هذا رمزًا معماريًا للمدينة المقدسة.
ومبنى "قبة الصخرة" مبنى فريد في ميدان العمارة الدينية الإسلامية في بيت المقدس، وأنشئ تكريمًا وتخليدًا للصخرة المقدسة التي عرج عندها سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وذلك حين أُسري به عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
أما الصخرة التي تقوم عليها القبة هي قمة بارزة، وهي أعلى نقطة في الهضبة التي يقوم عليها المسجد الأقصى والتي تسمى هضبة “موريا”، وفي داخل الصخرة مغارة صغيرة تدعى أحيانًا باسم مغارة الأرواح. وسطح هذا الجبل أو الهضبة هو الحرم القدسي الشريف الذي يضم إلى جانب قبة الصخرة المسجد الأقصى.
يُذكر أن الصحابي عمر بن الخطاب أول من فكر في حماية الصخرة المقدسة حين ذهب لاستلام بيت المقدس من بطريركها "صفرنيوس"، حيث قام بالكشف عنها وأزال الأتربة من عليها، ثم أمر بإنشاء ظلة من الخشب فوقها، فيما بقيت هذه الظلة الخشبية حتى جاء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ورأى أن يستبدل به عملاً فنيًا يتناسب مع ما لهذه الصخرة من مكانة في قلوب المسلمين.
قبة الصخرة:
"السعادة" أبحرت في قدسية هذا المكان وجماله ورونقه، في محاولة لنقل صورة قريبة عن هذه القبة المشرفة، حيث أن مبنى قبة الصخرة مكوّن من قبة قطرها ٢٠ متراً، تعلو عددًا من الأعمدة المحيطة بالصخرة بشكل دائري، بالإضافة إلى مثمنين آخرين، داخلي وخارجي يشكلان بينهما رواقًا، ويُفتح المثمن الخارجي منها بأربعة أبواب على الجهات الأربعة.
والمتواجد في باحة الأقصى تجذبه الزخارف التي تزين قبة الصخرة، حيث يوجد فيها ألوانٌ عديدة من الفن، فمن الرخام إلى الخشب إلى القاشاني وصولاً إلى الفسيفساء الأموية التي زينت القبة من الداخل بالرسومات النباتية مرورًا على فنون الخط العربي والكتابات التوثيقية، حيث يمكن اعتبار الكتابات الأموية في "قبة الصخرة" من أقدمها على الإطلاق في العالم الإسلامي.
وإن اتجهنا جنوب مسجد قبة الصخرة نجد درجًا ينزلنا إلى المغارة، حيث يقول المتخصص في علوم بيت المقدس الشيخ الدكتور رائد فتحي المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الإسلامية في أم الفحم، "هي مغارة يُنزل إليها بدرج إلى تجويف واسع منتظم، جدرانه من الصخرة ذاتها، فيها محرابان صغيران على يمين الداخل وعلى يساره ، تصل أعلى نقطة في سقفها الى ثلاثة أمتار، في أعلاه تجويف يعود إلى عهد قديم جعل للتهوئة على من هم داخل المكان".
تاريخ بناء القبة:
يُقال أن الثابت أنه شرع في بنائها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ابتداءً من عام ٦٦هـ/٦٨٥م إلى عام ٧٢هـ/٦٩١م تاريخ انتهاء البناء.
وقد رصد الخليفة لبنائها من المال خراجَ مصر لسبع سنوات، وأوكل لهذه المهمة العلامة الكبير “رجاء بن حيوة الكندي” وهو من بيسان، و”يزيد بن سلام” وهو من أهل بيت المقدس. وبعد إتمام البناء، بقي مائة ألف دينار ذهبيّ، فأمر الوليدُ بصرفها على رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام، فكان ردهما: "نحن أولى أن نزيده (أي قُبّة الصّخرة) من حلي نسائنا فضلاً عن أموالنا"، فكتب الخليفة بأن تسبك هذه الدنانير وتفرغ على القبة فصارت القُبّة مطليّة بالذهب.
أسباب البناء:
إن الأسباب التي حدت بابن مروان أن يبني هذه القبة عديدة بحسب ما يذكر الشيخ فتحي، فإن هذه القبة قد بنيت لتكون قبة لجميع المسجد الأقصى البالغة مساحته ١٤٤ دونمًا، وكون هذا البناء يقوم فوق الصخرة فيرى كثيرون بأنها قد بنيت تخليدًا لحادثة الإسراء والمعراج. يقول الدكتور فتحي "إن خشية ذلك الخليفة الأموي من افتتان المسلمين بعمارة الكنائس والمباني الرومانية والبيزنطية العظيمة، دون أن يجدوا ما يفخرون به ويتطلعون إليه".
ويقول المتخصص في علوم بيت المقدس، "أكثر ما في هذه الصخرة أنها كانت قبلة أنبياء بني إسرائيل وقبلة المسلمين الأولى التي قضى النبي عليه الصلاة والسلام الشّطر الأكبر من حياته وهو يصلي باتجاهها".
اهتمام المسلمين:
حظيت "قبة الصخرة" باهتمام وعناية كل الخلافات الإسلامية التي لحقت الخلافة الأموية، خاصة أن الزلازل الكثيرة قد ألحقت بها أضرارًا جعلتها بحاجة للترميم بين الفترة والأخرى، إلا أن البناء المحكم لقبة الصخرة ووقوعها على أساس من الصخر الطبيعي حال دون انهيارها فبقي بناؤها الأساسي قائمًا منذ أكثر من ١٣٠٠ عام وحتى اليوم.
ويقول الشيخ فتحي: "عني بقبة الصخرة الخلفاء العباسيون والفاطميون، فكانت قد احتاجت للترميم في زمانهم بفعل الزلازل الشديدة والعوامل الطبيعية، فقد رممها الخليفة العباسي المأمون في العام ٢١٦هـ/٨٣١م، كما قام بذلك الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي وغيرهم من خلفاء تلك الحقبة الذين حافظوا عليها وأولوها اهتمامهم".
ويضيف: "أما الصليبيون، وفي زمن احتلالهم لمدينة القدس، فقد جعلوا من قبة الصخرة كنيسة أسموها “كنيسة السيد العظيم”، ورفعوا الصليب فوق القبة، ووضعوا فيها الرسومات والتماثيل والصُّلبان، أما الصخرة فقد استخدمت مذبحًا تقدم فيه القرابين وجعلت المغارة التي تقع أسفل منها مكانًا تصفى داخله الدماء، ويذكر المؤرخون أن الصليبيين قد سرقوا محتويات ثمينة من الصخرة كالقناديل المصنوعة من المعادن الثمينة كالذّهب والفِضّة وغيرها”.
ويتابع فتحي قوله: "كما أنهم قاموا بتقطيع حجارة الصخرة وبيعِها قِطعًا صغيرَةً للحجاج المسيحيين بوزنها ذهبًا، حتى خشي بعض حكامهم من زوالها فأحاطوها بسياج موجود اليوم في المتحف الإسلامي بجامع المغاربة، إلا أنّ الكثير من النقوش والزخارف الإسلامية والآيات القرآنية بقيت كما هي ولم يغيروا فيها شيئًا كما يشهد الرحالة المسلم "الهروي" الذي زارها إبان الحكم الصليبي.
سناء ابراهيم