" ..ولم يكن هناك أيّ نوع من الوحشيّة أو الهمجيّة، ولم ينعدم الضّبط بين الناّس، فشعرت في تلك اللّحظة وخلال مواكب العزاء ومازلت أشعر بأنّني توجّهت في تلك الّلحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيويّة في الإسلام، وأيقنت بأنّ الورع الكامن في أولئك النّاس والحماسة المتدفقّة منهم، بوسعهما أن يهزّا العالم هزّاً فيما لو وجّها توجيهاً صالحاً وانتهجا السّبل القويمة، فلهؤلاء الناّس واقعيةٌ فطرية في شؤون الدين"_ الكاتب الإنكليزي توماس لايل.
شارک :
ويسألوننا لم الّلطم والبكاء!؟ أما آن الأوان ليفهموا أنّه عزاء سنين ودموع الدّهور؟ مداد قلمي مأساة تتوجّع، تتأجّج لوعة، تصرخ، تعاني، فأيّ مصاب وأيّ صريع تتذكّر فتندب؟ في القلب كلامٌ وما من قدرة على الكلام، "حسين" تلثّم بالتّراب ومضى، "حسين" في قلب عاشوراء على وجنتي الثّرى، ولعل مراسم الّلطم والعزاء إحياءٌ لذكراه.
الحزن والرّثاء حقٌّ مشروع: عاشوراء، أوقدت فينا نهضةً لا تموت. ثورةٌ فكريةٌ ثقافيّةٌ وعاطفيّةٌ نشلت أجسادنا من مسرح المحن والفتن وحفظت واقعة الطّفّ على مرّ التّاريخ، ومن هنا تعرف فلسفة البكاء والعزاء على الإمام الحسين عليه السلام. كيف يلومنا العالم والرثاء حقّ مشروع!؟ أما سمعوا قول الرّضا عليه السلام في جدّه الحسين عليهم السّلام حين قال: "يا بن شبيب!.. إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السّماوات السّبع والأرضون لقتله، ولقد نزل الى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم، فيكونوا من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين. يا ابن شبيب! .. لقد حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه: أنّه لما قتل جدّي الحسين أمطرت السّماء دما و تراباً أحمر".
تداعيات البكاء على المظلوم (ع): ولا تقف القضيّة عند هذا الحدّ فلا بدّ أن يعي النّاس جوهر هذه الظّاهرة السّنوية لذا يقول الإمام الخميني (قدس سره): "و لو كان هؤلاء يعلمون حقيقةً ويدركون أهمّية هذه المجالس والمواكب وقيمة هذا البكاء على الحسين (ع) والأمر المعدّ له عند الله لما سمّونا شعباً بكّاء، بل قالوا عنّا شعب الملاحم". وقد عبّر في البكاء على الحسين (ع) بدلالات قائلاً: " البكاء على مصاب الإمام الحسين (ع) هو إحياءٌ للثورة، وإحياء لفكرة وجوب وقوف الجمع القليل بوجه إمبراطوريّة كبيرة".
هذا وقد جاء في قول أئمّة أهل البيت (ع) تأكيد ثواب البكاء على الحسين (ع) إذ قال علي بن موسى الرّضا (ع): " فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذّنوب العظام".
وممّا لا يمكننا غضّ النظّر عنه هو ما لمراسم إحياء هذه الذّكرى من إجلال وتعظيم لقدر ومقام الإمام الثالث من أئمة أهل البيت عليه السلام، وتبيانٌ جليّ ورصين لسموّ وعلوّ كرامته أمام جميع النّاس حيث ورد عن النبّي الأكرم (ص) أنّه قال: " ميت لا بواكي عليه لا اعزاز له". وبالتّالي فإنّ بكاءنا هنا هو إعطاء شخصيّة الحسين (ع) الغرّاء عظمتها ومكانتها الإنسانيّة في نفوسنا وما لها من إضفاء بعد ولائي وروحي في جوارحنا وإنتقائنا لأساليب عيشنا.
ومن هنا يمكننا القول أنّ البكاء يستهدف التّفاعل القلبيّ والروحيّ مع الرّكائز والقيم والمبادئ التّي جسّدها الإمام الحسين (ع) والإنصهار بها، تلك العناوين العريضة الّتي مجّدت وخلّدت الإسلام كإستئصال الغدد السّرطانيّة في هذا العالم، والّتي تبلورت بالدّفاع عن الشّرف والعرض والكرامة والمطالبة بإسترجاع الحقّ المغصوب، كلّ هذه المفاهيم الأخلاقيّة الرّاقية كانت وسيلة لتربية النّفس البشريّة وعنصراً محرّكاً لمسيرة المقاومة ضدّ تعليب العقول الحيّة النيّرة في أواني التصحّر الفكريّ والخلقيّ لدى الأجيال الصّاعدة. وإنّ تعلّم أسس وأسباب وفلسفة ثورة الحسين (ع) وهدفها والتّمعّن بتفاصيلها كانت كفيلة ببناء قوم يعتزّون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم بعدما شهدوا ما كان لهذه النهضة من أثر.
والجدير بالذكر، أنّ إنتهاج مسلك العزاء واللّطم والدّموع على الحسين (ع) وآله ليست ضعف في النّفوس أو البنية العقائديّة لدى الموالين وإنّما حرقة في القلوب الوالهة وشعاراً سلميّاً يشعل النّهضة الحسينيّة فينا في ظلّ ما نواجهه اليوم من تصويب ومحاولات انتهاك لعقيدتنا.
من قلبي الحزين: حسين، ارتجاف حشاشة مهجته وهو على الثّرى زلزل كياني فكيف لي ألّا أواسي الزّهراء (ع) بمصابها؟ كيف لي ألّا أنادي في العزاء واحسيناه.. أما واسيتم حبيباً فحزنتم لحزنه وذرفتم الدّمع ليرافق دمعه عند الفاجعة؟ إنّه الحسين (ع) غصن من أغصان شجرة الإمامة، روى جذورها من دمه لتحيا، فإقامة المآتم لا تقتصر على قتله فقط بل هي مواساة لأهل بيت العصمة (ع). وتعزية للرّسول الأكرم (ص) كانت الشّعائر الحسينيّة إثر ذبح سبطه وولده الحسين (ع) وأهل بيته وسبي عياله. هذه المواساة وهذا الإخلاص اللّذين يقبعان في ثنايا جراحنا وآهاتنا صاغا مرسى الأجر و عظيم المثوبة.
كربلاء! هبيني أحضن رأس الحسين (ع) وأرحه بكفّتيّ. أنا لست من قتل الرّضيع بالسّهم ولا من قطع يديّ العباس وغدر به، ولا من طعن بعليّ الأكبر، ولا من سبى النّساء والأطفال، ولا من يتّم رقيّة.. لا لست من عذّب قلب زينب الصبور، بل إنّني من دعا الله يوماً يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً. فبكائي رسالة محبّة وولاء للفارس المتمرّد في أرض كربلاء وآل بيته، أنا سِلم لمن سالمهم وحربٌ لمن حاربهم، وعدوٌّ لمن عاداهم، إذْ بات الحزن عليهم إعلان الإنتماء والبيعة لهم الّتي لا حياد عنها.
سأضمّ التربة الحسينيّة والدّم والرّماد، سأضمّ حفنة مقدّسة وأحتفظ بها مع كلماتي وعباراتي، مع أيّامي وسنيني، مع أوراقي وكتبي إحياءً وتزكيةً واجلالاً للثورة في النفوس. وقد أودعت أمّ المصائب زينب (ع) أمانة في قلب الانسانيّة وهي النّدب على الحسين (ع)، فهي رمزٌ حيٌّ لمظلوميّته، فدم الحسين (ع) لن يبرد أبداً رغم مرور الزّمن ففي ذلك نشر وحفظ للواقعة الأليمة وصون هذه النّائبة التّاريخيّة من النّسيان.