الإسلام نجح في تجاوز حركة التنافس الحضاري على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، واستطاع مجتمعه الحضاري أن يكوّن مجتمعاً متنوّعاً يضمّ، إلى جانب المسلمين، اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم .
شارک :
العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
إنَّ الحديث عن الإسلام وقدرته على التنافس الحضاري، يختزن في داخله معنى الامتداد في الزمن. وإنَّ قصَّة أيّ فكر، سواء كان فكراً دينياً رسالياً، أو علمانياً، أو أيّ شيء متعارفٍ في وصف الفكر، لا يمكن مقاربته وفق منطق الغالب والمغلوب، أو من موقع عقدة الضدّ مع الآخر، فالمسألة ليست عمليَّة صراع مادي في أصوله ومعطياته، بل هي مسألة فكر. وفي الفكر، لا يصحّ الحديث عن غالب ومغلوب، ولا يمكن تصنيف الصراع الفكري في إطار مفاهيم الهيمنة والغلبة. إنَّ المسألة فيما له علاقة بالفكر، هي مسألة منافسة وأدوات حوار وعمل، تمكّننا من دخول العقل، والعقول تعرف لغتها جيّداً، من خلال انفتاحها على فكرٍ يخاطب فكراً، وعلى كلمة تحمل فكراً وتنقله بشفافية وبمحبة.
وعندما ينطلق نقاش الأفكار، لا يعود هناك مكان للعصبيَّة، لأنَّ العصبيَّة تفتك بالفكر، وتحوّل الاختلاف الفكري إلى مناخ لتبادل الأحقاد والأحقاد المضادة.
والفكر ليس شيئاً خُلِق مع الإنسان منذ ولادته، بل هو مادة ننتجها ونتوارثها. ونحن نعرف أنَّنا قد نتخلّى عما أنتجناه إذا اكتشفنا أنَّه لا يمثّل صلاح الحياة، وقد نتخلّى عما ورثناه لنستبدله بما هو أفضل وأنفع. لذلك، فإنَّ الإسلام منذ البداية لـم ينتشر بالإكراه أو بالهيمنة والإلغاء، وإنَّما قال للذين يختلفون معه: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، فلغة الفكر هي لغة دليل يقابل دليلاً، وليست لغة انفعال وعاطفة. ومشكلتنا في الشرق، أنَّنا أدخلنا الفكر في مشاعرنا، ولـم نُدخله في عقولنا، وبذلك، أصبحنا نفكّر بطريقة غرائزية وغير عقلانية، فتحوّل الاختلاف فيما بيننا إلى اختلاف ونزاع، وربَّما إلى صراع.
قدرة الإسلام على التنافس الحضاري ثمَّ إنَّ مسألة قدرة الإسلام على التنافس الحضاري، قد تبدو من خلال هذا العنوان غريبة بعض الشيء، لأنَّ القدرة على التكلّم على أيّ فكر يدخل ساحة التنافس، معناه أنَّ هذا الفكر يريد الدخول من جديد إلى ساحة المنافسة. ونحن نعرف، من خلال تاريخ الفكر والدين، وتاريخ حركة الصراع، أنَّ الإسلام عندما بدأ، بدأ في ساحة مثقلة بما قد لا يُسمى فكراً في الساحة الإسلامية، وإنَّما يُسمى انتماءً في ساحة الدعوة الإسلامية، وربَّما كان هناك فكرٌ في المنطقة التقى به الإسلام بعد ذلك، وهو الفكر الديني المختلف فيما هي اليهودية والنصرانية.
وتحرّك الإسلام في التاريخ، وواجه الكثير من ألوان الفكر بمختلف تنوّعاته، ولا سيما عندما دخلت الترجمة إلى الساحة الإسلامية. ولـم يتعقّد الإسلام من الفكر الآخر، بل احتواه واستوعبه، وعمل على الحوار معه، ووصل إلى نتائج إيجابية على مستوى الدعوة، فقد رأينا أنَّ السلطة الإسلامية تحرّكت في مدى تلك القرون الأربعة عشر، وبقي إلى جانبها اليهود والنصارى والمجوس، وربَّما بقي بطريقة وبأخرى بعضٌ من التيارات اللادينية. فالإسلام لـم يُلغِ الآخر في حركته في الواقع الثقافي والسياسي، بينما نجد أنَّ التجربة في الأندلس، عندما انتصر غير المسلمين على المسلمين، ألغوا الإسلام كلّه في كلّ الأندلس. لهذا، فإنَّنا نتصور أنَّ هذه التجربة الحضارية للإسلام، استطاعت أن تصنع الحضارة للعالـم كلّه، كأفضل ما تكون الحضارة في مدى مائة سنة. ونحن نقرأ في مذكرات "نهرو"، وهو رجلٌ يحمل الكثير من الفكر، أنَّه يعبّر عن الحضارة الإسلامية بأنَّها أمّ الحضارات الحديثة، لأنَّها هي التي أعطت الغرب التجربة كوسيلة للمعرفة، إلى جانب الوسيلة التأمليّة العقليّة السائدة، وذلك من خلال تجارب الفلاسفة والعلماء، أمثال ابن رشد وغيره.
الإسلام مجتمع التنوّع: إذاً، نستطيع القول بالإجمال، إنَّ الإسلام نجح في تجاوز حركة التنافس الحضاري على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، واستطاع مجتمعه الحضاري أن يكوّن مجتمعاً متنوّعاً يضمّ، إلى جانب المسلمين، اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، بل إنَّنا نستطيع التأكيد أنَّ أوّل مجتمع إسلامي كان يمثّل البذرة الأولى للدولة الإسلامية، كان مجتمعاً متنوّعاً يتحرّك على أساس أسلوب المعاهدة بين أفراد المجتمع الذين قد يختلفون في خلفياتهم الدينية أو مرجعياتهم الفكرية، فقد عقد النبيّ(ص) عندما جاء إلى المدينة، معاهدة ألفة بين جميع أفراد المدينة، من المهاجرين والأنصار والأوس والخزرج، وضمّ اليهود آنذاك إلى هذه المعاهدة، فجعل حقوقهم كحقوق أفراد المجتمع الآخر، وكانت تلك أوّل وثيقة حقوقية في المجتمع المتنوّع، الذي يتكامل أفراده في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في الدين والفكر.
وقد نجد الكثير من اليهود والمسيحيين يتعقّدون من فكرة نظام الذمة، لأنَّهم يتصورون أنَّ النظام الذي يحكم علاقة المسلمين بأتباع الأديان الأخرى في دولة الإسلام، هو نظام الذمة، التي قد يتصوَّرونها نوعاً من أنواع التصنيف، الذي يحوّل غير المسلم إلى إنسان من الدرجة الثانية في المواطنية والحقوق. ونحن لنا رأيٌ آخر لا نريد الدخول فيه، لأنَّ المجال ليس مجاله الآن. وقانون الذمة يمثّل أسلوباً حضارياً لـم يعرفه العالـم من قبل، وهو لا يمثّل، كما يُظن، اضطهاداً لإنسانية الإنسان، أو امتهاناً له، لكن سواء قبلنا الذمة أو لـم نقبلها، فإنَّ أوّل من سنَّ العقد الاجتماعي كأسلوب إسلامي في بناء العلاقة مع الآخر، ومن خلال أتباع الأديان الأخرى، كان الإسلام، وذلك من خلال صيغة المعاهدة التي قد يصطلح على تسميتها حديثاً "العقد الاجتماعي".
ولذلك، فإنَّنا نتصور أنَّ الإسلام نجح نجاحاً كبيراً في مسألة التنافس الحضاري، واستطاع أن يصنع حضارته على أفضل صورة تحفظ للإنسان إنسانيته، ولصاحب المعتقد معتقده. ولكنَّنا نحاول في هذا اللقاء، ولو بشكل مختصر، الإشارة إلى العناصر المكوّنة للقدرة الإسلامية على دخول حركة التنافس الحضاري، ولا سيما أنَّ هناك من يقول بوجود فرقٍ بين المراحل التي استطاع الإسلام أن يقطعها في دائرة التنافس.
مكامن القوّة الحضارية في الإسلام وقد يتصوَّر بعض النّاس، أنَّ هذا العصر هو عصر نهاية الإيديولوجيا، وأنَّ المسألة لـم تعد مسألة عقائد تحكم الإنسان، ولكنَّها أصبحت مسألة قوى تتحكم به بأساليبها الخاصة، فليس هناك شيءٌ اسمه صراع العقائد، بيد أنَّ هناك صراعاً من نوع آخر، إنَّه صراع المصالح، فقد يقول قائل: إنَّ الإسلام يعيش من خلال الواقع في موقع الضعف، والمجتمعات الأخرى تعيشها في موقع القوّة، فكيف يمكن للإسلام التفكير في دخول دائرة التنافس الحضاري في هذا العصر؟ وهنا، قد نحتاج إلى دراسة مكامن القوّة الحضارية في شخصية الإسلام، كقوّة تتحرّك في خطّ الحضارة.
إنسانية الإسلام: وعندما نبحث عن هذه العناصر، فإنَّنا نلتقي في البداية بإنسانية الإسلام، فالإسلام إنسانيٌّ في نظرته إلى الإنسان كلّه، وهو لـم ينطلق من أيّة حالة عرقية أو قومية، فقد ولد في المنطقة العربية، ولكنَّه لـم يحمل القومية العربية كعنوان لحركته، ليكون غير العرب ملحقين سياسياً أو ثقافياً بالعرب، فقد كان القرآن والنبيّ عربيين، ولكنَّ الإسلام جاء إلى الإنسان كلّه، لأنَّه رسالة إنسانية جامعة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، فقد أطلق الإسلام الإنسانية في بُعدها الواسع، ولكنَّه لـم يُلغِ خصوصيات الإنسان الوطنية والقومية والعرقية، فلكلّ شخصية عرقية خصائصها وعناصرها التي تميّزها عن الأخرى، لكنَّ هذه الخصوصيات لـم تكن يوماً حائلاً دون اعتناق الإسلام والاهتداء بهديه. وهكذا، عندما نتحدّث عن كلّ المميزات الإنسانية التي تميّز شخصاً عن آخر، فالإسلام لـم يُلغِ الخصوصيات الإنسانية، وإنَّما نظّمها وأنسنها {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. فعندما تتحرّك خصوصية كلّ إنسان في موقع معيّن، فعلى كلّ خصوصية أن تخاطب الخصوصية الأخرى بما عندها من خبرة وتجربة في ما تحتاجه الخصوصية الأخرى، ليتحقق الانفتاح المطلوب الذي يفتح الخصوصيات بعضها على البعض الآخر، ويجعلها تتناغم فيما بينها. والتعارف ينطلق من خلال التناغم، والتناغم ينطلق من خلال الحالة التي يعيشها كلّ إنسان في تفاعله مع الإنسان الآخر، من خلال فكره وخبرته وعلمه أو ما إلى ذلك. فخصوصياتنا الجغرافية والقومية واللغوية، هي خصوصياتٌ من أجل إغناء التجربة الإنسانية التي تتعارف فيها خصوصيةٌ مع خصوصية أخرى، وتتفاعل من خلالها مع بعضها البعض، لتكون النتائج للإنسان الذي يجمع الخصوصيتين، ويحقّق خلاصة هذا التفاعل بين الخبرات والثقافات.
ولهذا، كان الإسلام إنسانياً "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، والتقوى لا تمثّل حالةً منغلقة في الإنسان، فهي تحرّكه في الحياة من خلال مسؤوليته أمام الله. ومن خلال هذه المسؤولية، تكون المسؤولية عن الإنسان كلّه والحياة كلّها. لذلك، فالفكر عندما ينطلق، فإنَّه يتوجَّه إلى كلّ الإنسان، ويخاطبه كجوهر وذات فاعلة ومهتدية، ولهذا، نجد في القرآن نداءين في ما يُنادي به الله؛ هناك نداء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وهناك نداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. وهذا النداء ليس نداءً بالمعنى الطائفي الذي يُتاجر به النّاس، ولكن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، الذين التزموا الإيمان فكراً وعاطفةً وحركةً، بحيث ينطلق الإيمان ليتحرّك في خطّ المسؤولية للإنسان، فهذه القاعدة الأولى لمنطق القوّة في الحضارة الإسلامية.
الإسلام دين توحيد في العقيدة والمجتمع: وهكذا، نجد أنَّ الإسلام هو دين توحيد في العقيدة، ودين توحيد في المجتمع. فأمّا في الأولى، فهو الإيمان بالله الواحد الذي لا شريك ولا مثيل، فنحن نستحضر الله في الوجدان الإنساني، وليس بالعين المجردة، لأنَّ العين إذا حدّقت في ما نتمثّله، استغرقت فيه وحوَّلته إلى صنم. أمّا عندما نستحضر الله الواحد الذي خلقنا، وتعهدنا بالرعاية والرحمة والمحبة، فإنَّنا ننفتح على عالـم روحي يغني كلّ وجودنا، فنشعر بالأمن والطمأنينة معه وبرعايته وحبّه. فاللّه الواحد هو ربّ العالمين، وليس ربّ فئة دون أخرى، ولا يستطيع أحدٌ أن يُعلّب اللّه داخل كنيسة أو مسجد، فالإنسان لا يحتاج إلى شخص معيّن ليُقرّبه إلى الله، فالله دعانا لأن ندعوه ونحادثه دون وسيط، حيث يُخاطب الإنسان بكلّ حنان ورأفة: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فقولوا لي ما تريدونه من دون الخضوع لأيّ وسيط، كائناً من كان هذا الوسيط، شيخاً أو قساً أو كاهناً أو غير هؤلاء، فالله هو ربّ العالمين، وعندما يتحدّث عن رسوله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وليس رسول فئة دون أخرى.
وبذلك، أكّد الإسلام الجانب التوحيدي لله في معنى الوجود والقدرة، وبلّغ الرسول أن ينشر مفهوم التوحيد على المستويات كافة؛ التوحيد في العبادة والوحدة في المجتمع، فلا فرق بين أحدٍ وآخر إلا بما يقدّمه في سبيل اللّه ومن أجل الإنسان. ونلتقي بذلك بحديث الرسول(ص)، وهو يشير إلى ما يعانيه المجتمع من تميّز في العلاقات ومفاضلة بين النّاس: "إنَّما أهلك الذين كانوا قبلكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم واللّه، لو سرقت فاطمة بنت محمَّد ـ ولن تسرق فاطمة بنت محمَّد ـ لقطعت يدها".
وهكذا نلاحظ أنَّ الإسلام لـم يُشرّع لطبقة دون طبقة، فقد شرّع للإنسان كلّه، فليس هناك في الإسلام تشريعٌ طبقيٌ للأغنياء دون الفقراء، أو لأصحاب الجاه دون الذين لا يملكونه، فأعلى شخصٍ في المجتمع يخضع للتشريع الإسلامي في حقوقه وواجباته، بالدرجة نفسها التي يخضع لها أصغر شخصٍ، فالعدالة تقتضي خضوع الجميع لله ولشرعه بالمستوى نفسه.