بمجرد اعلان اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز المشير السيسي، سارع العاهل السعودي الى ارسال ما وصفته وسائل الاعلام بـ «برقية تهنئة»، الا انها في حقيقتها تجاوزت الطبيعة البروتوكولية المتعارف عليها لذلك النوع من البرقيات .
شارک :
بل ان البرقية خالفت كل الاعراف الدبلوماسية بين الدول ذات السيادة، اذ سمح العاهل السعودي لنفسه فيها ان يرسم علنا للرئيس المنتخب المسار الذي يجب عليه ان يسلكه داخليا، بالاضافة للدعوة دون تشاور مسبق مع اصحاب الشأن الى عقد مؤتمر لـ «المانحين» لمساعدة مصر، في مبادرة افتقرت الى الحساسية والمعرفة بطبيعة الشخصية المصرية، بل وتجاهلت ان مؤتمرات المانحين انما تعقد لمساعدة دول تعاني حروبا اهلية او كوارث طبيعية او انسانية، وليس بلدا يتمتع بما لدى مصر من مكان وامكانيات حتى في ظل ازمتها التي هي سياسية في جوهرها، وبالتالي لا ينفعها الا حل قائم على مقاربة سياسية.
وردا على استنكار تلقائي من كثيرين، عمدت بعض الابواق الاعلامية الى انكار ورود كلمة «المانحين» في البرقية السعودية.
الا ان الاهم يبقى ما كشفته البرقية من تهافت على فرض الوصاية على النظام الجديد في مصر، عبر دفعه الى الارتهان لـ «التعهدات سيئة السمعة» التي تصدر عن مؤتمرات المانحين ولا تجد سبيلها الى التحقق الا فيما ندر، ما يكشف عن رغبة في تقزيم مصر وحبسها في مصاف الدول التي تعيش عالة على المانحين، وبالتالي الهيمنة على توجيه مساراتها في معركة اعادة رسم توازنات استراتيجية سائلة في الاقليم.
ولعل الانفتاح المتبادل والمفاجئ بين القاهرة وطهران مؤخرا، بعد ترحيب الخارجية الايرانية بالانتخابات الرئاسية، والدعوة المصرية للرئيس حسن روحاني لحضور مراسم التنصيب، يكرس هذا التهافت السعودي.
وعلى الصعيد الداخلي فمن المفارقة ان «ينصح» العاهل السعودي المشير السيسي بـ «احترام الرأي الاخر مهما كان ضمن حوار وطني»، اذ كان الاولى به الا يحرم «الشعب السعودي الشقيق» من فوائد هذه النصيحة، قبل تصديرها الى الخارج.
ثم يتمادى ليقرر هوية اطراف الحوار مشددا على استبعاد «من تلوثت ايديهم بالدماء»، مع تحريض علني على ما اسماه «ضرب هامة الباطل» في اشارة الى تيار بعينه.
والغريب ان بعض الدول التي اتهمها النظام المصري بالتدخل في شؤونه لم تذهب الى ابعد من هذا، اي الدعوة الى الحوار الوطني، فكان رده استدعاء السفراء او الاحتجاج والتهديد والوعيد، اما عندما يأتي «التدخل» من «كبير العرب» فهو ليس تدخلا او انتهاكا للسيادة بالطبع(..). ولا ينسى العاهل السعودي ان ينتقد في برقيته من «يتدخلون في شؤون مصر»، واستخدام «المنصة المصرية» لشن هجوم واضح على دول عربية واسلامية معينة، وكأنه يريد اجهاض اي تقارب محتمل لها مع النظام الجديد. اما الهاجس الرئيسي الكامن وراء التهافت، فهو الاوضاع الداخلية الهشة في السعودية نفسها، والاحتياج الحقيقي الى تأمينها بتحييد خطر تجدد روح الثورة المصرية من منبعها. وبكلمات اخرى فان الدعم السعودي مرتبط بمدى الابتعاد عن ثورة يناير والاقتراب من عهد مبارك ورموزه.
وهكذا فان ثمة «امصارا» عديدة يدور الصراع بشأنها هنا، اذ ان مصر التي يريدها العاهل السعودي لاعلاقة لها بمصر التي في خاطر اغلب المصريين، بمن فيهم بعض المؤيدين للمشير السيسي انفسهم، الذين يعتبرون ان الكفاح سيتواصل لتحقيق اهداف الثورة، وابرزها الكرامة والاستقلال الوطني، حتى وان اصبحوا محبطين من التعثر المتكرر لمسار الثورة.
لقد مثلت برقية العاهل السعودي «فخا سياسيا» للنظام الجديد و«لائحة شروط مسبقة» لتقديم المساعدات، ما يستوجب رفضها عمليا استحضارا لقيمة مصر وقامتها، وانتصارا للكرامة والمصلحة الوطنية، اذ ان دول الخليج لن تحتاج الى تقديم مساعدات لمصر ضعيفة او خانعة، لكنها ستجد مصلحة مشتركة في التعاون مع مصر مستقل قرارها الوطني سواء داخليا او اقليميا.
وبالرغم من احتياج الاقتصاد المصري المتدهور الى المساعدات بكافة اشكالها، الا انه سيرتكب خطأ استراتيجيا من ان يظن ان السعودية التي تضاءلت مكانتها الاقليمية الى مستوى تاريخي تملك ترف خسارة اكبر بلد عربي لمصلحة خصومها المتربصين في هذا التوقيت.
ومع التعقيدات والتحديات التي تنتظر النظام الجديد في الساحة الاقليمية كما داخليا، فان العلاقة مع السعودية ستبقى احد اهم المؤشرات على منهاجه العملي، خاصة في ظل تعهدات السيسي في خطاب اعلان ترشحه بـ «مد اليد الى الجميع في الداخل والخارج».