تاريخ النشر2010 29 June ساعة 14:50
رقم : 19776

إشاعة ثقافة الحـوار وتعزيز التسامح

تتزايد الحاجة إلى تعزيز ثقافة الحوار والتعايش، بقدر ما تتفاقم المشاكل الناتجة عن (سوء الفهم) أو (ضعف الثقة) التي تطبع العلاقة بين أهل القبلة الواحدة بمذاهبهم وطوائفهم المختلفة.
التويجري
التويجري
وكالة انباء التقريب :
تمهيد :
تتزايد الحاجة إلى تعزيز ثقافة الحوار والتعايش، بقدر ما تتفاقم المشاكل الناتجة عن (سوء الفهم) أو (ضعف الثقة) التي تطبع العلاقة بين أهل القبلة الواحدة بمذاهبهم وطوائفهم المختلفة. ولا ينبغي أن يجادل أحدٌ في أن (سوء الفهم) هذا، هو حالة قائمة بين غالبية المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، وبخاصة السنة والشيعة، وفي أن (ضعف الثقة)، هي ظاهرة ملموسة لا سبيل إلى إنكارها بدافع عاطفي، أو بأي دافع آخر.

ولعل تقرير هذا الواقع هو أحدُ العوامل التي أدَّت إلى ظهور حركة (التقريب بين المذاهب الإسلامية) التي تبلورت فاستقرت اليوم باعتماد مؤتمر القمة الإسلامي، وهو أعلى سلطة دستورية في منظومة العمل الإسلامي المشترك، لاستراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، التي وضعتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو-، والتي اشترك في إعدادها وصياغتها نخبة من علماء الأمة من المذاهب الإسلامية كافة.

لقد انبثقت فكرة (التقريب بين المذاهب الإسلامية) في الأربعينيات من القرن الماضي. ولابد أن نسجل للتاريخ أن أول من اهتم بطرح هذه الفكرة، وانشغل بها ودعا إليها، هو أحدُ علماء الشيعة الشيخ محمد تقي الدين القمي، الذي كان قد وفد إلى مصر، وربط صلاته بعلماء الأزهر، وبذل جهوداً متواصلة في التبشير بالفكرة حتى لقي تجاوباً من علماء السنة الذين آزروه وساندوه وكانوا دعاة إلى التقريب[١]، ومن جملتهم الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر عهدئذ، والشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر فيما بعد، والشيخ مصطفى عبد الرَّازق شيخ الأزهر فيما بعد أيضاً، والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في الخمسينيات، وغيرهم.

وكان السيد حسين الطباطبائي البروجردي، المرجع الدينيُّ الشيعيُّ الأعلى في ذلك الوقت، قد أيد هذا المشروعَ التقريبيَّ بعد عودة محمد تقي الدين القمي إلى طهران إثر نشوب الحرب العالمية الثانية. وبذلك اكتسبت الدعوة إلى التقريب تأييدَ أكبرِ أقطاب السنة والشيعة. وكان هذا التأييد من أهم العناصر لنجاح الدعوة[٢].

وينبغي أن نسجل أيضاً، واعترافاً بالفضل لذويه، أن إنشاء (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية) في طهران، كان أول مبادرة أهلية للعمل في مجال التقريب، قبل أن تبادر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- بإنشاء المجلس الأعلى لتنفيذ استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، باعتبارها الجهازَ الإسلاميَّ المتخصص على صعيد العمل الإسلامي المشترك في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي.

دواعي التقريب وموجباته :

قبل ظهور حركة التقريب، كان الجوّ العام الذي يسود العالم الإسلامي، ملبّداً بغيوم الفرقة والتمزق والتشتت بين المسلمين عامة، وليس فقط بين السنة والشيعة. بل كان هناك داخل الطائفة السنية، سوء فهم متبادل بين أتباع المذاهب السنية الأربعة. وكذلك كان الأمر بالنسبة للطائفة الشيعية. وكانت الصورة العامة للمجتمع الإسلامي لا تبعث على الارتياح، وكانت أوضاع المسلمين في جميع الأقطار، على درجة من الضعف والهزال، بسبب من تلك الخلافات والنزاعات التي كانت تنشب بين أتباع المذاهب الإسلامية. وتلك صورة مقاربة للواقع الحالي في العالم الإسلامي.

ولقد بلغ من حجم هذه الخلافات والنزاعات، أن الطوائف الإسلامية كانت منغلقة على نفسها، بحيث إن غالبية علماء المذاهب لم يكونوا على اتصال بعضهم ببعض. وكذلك كان الأمر بالنسبة لغالبية المساجد، إذ كان لكل مسجد إمام ومحراب ومُفتٍ وواعظ. وكان الإفتاء في كلّ مذهب خاصاً باتباعه، وكذلك الاجتهاد.

ومن الأمور التي كانت تحدث أن بعض العلماء ورجال الإصلاح، كانوا يخفون مذهبَهم رغبةً في إيصال الأفكار الإصلاحية التي يدعون إليها، إلى الجمهور العريض من المسلمين على اختلاف انتماءاتهم المذهبية، أو يمتنعون عن الحديث في المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية، بينما كانوا يركزون على القواسم المشتركة والقواعد الكلية التي توحّد بين المسلمين. وعلى سبيل المثال نذكر أن المصلح الإسلامي الكبير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني، الذي يُعدُّ رائداً للدعوة إلى الوحدة الإسلامية في القرن التاسع عشر، كان ينأى بنفسه عن قضايا الخلاف بين السنة والشيعة، على الرغم من أن الخلاف المذهبي في تلك الفترة، كان قد بلغ درجة من التفشي والانتشار تسببت في نزاعات كثيرة، بين الطائفتين السنية والشيعية، نتيجة للجهل الذي كان سائداً بين المسلمين في تلك المرحلة. ونحن إذا ما راجعنا الأعداد الثمانية عشرة التي صدرت من مجلة (العروة الوثقى)، التي أصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من باريس (مارس-أكتوبر ١٨٨٣)، لا نجـد فيها موضوعاً عن الخلاف بين السنـة والشيعـة، بينما نجـد فيها موضوعات عن الوحدة الإسلامية والجامعة الإسلامية.

يقول جمال الدين الأفغاني في مقال له نشره في (العروة الوثقى) تحت عنوان (انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك) : «بدأ الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون رضي الله عنهم. فكثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام : خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة، فسقطت هيبتها في النفوس»[٣].

إن ما يستوقفنا في هذا النص، هو ما أشار إليه الأفغاني من أن المذاهب كثرت وأن الخلاف تشعب من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، من دون أن يشير بالوضوح الكامل، إلى الخلافات التي نشأت بين السنة والشيعة والتي قسمت الأمة إلى طائفتين، وكان هو أدرى الناس في عهده، بما ترتَّب على ذلك التمزق من نشوب نزاعات أضعفت الكيانَ الإسلاميَّ، وتسببت في إثارة ضغائن عملت عملها في نشوء سوء الفهم وعدم الثقة بين الطائفتين من المسلمين. وهما الآفتان اللتان لا تزالان تؤثران بشكل واضح، في توسيع شقة الخلاف بين السنة والشيعة، على الرغم من تغيّر الظروف وظهور مستجدات في الساحة الإسلامية.

إننا مهما تحلينا بالحكمة والحلم وضبط النفس، لا يمكن إلاَّ أن نسجل هنا أن هذا الخلاف الناشب بين طائفتَيْ الأمة، يؤثر سلبياً في الجهود التي تبذل من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية في هذه المرحلة العصيبة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية.

فالسعي من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية إذن، هو ضربٌ من (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، وهو الهدف الأكبر من هذا الحوار داخل البيت الإسلامي الكبير الذي يتوجّب علينا أن نعمل على تضافر جهودنا لنجعل منه محوراً من محاور العمل الإسلامي المشترك في جميع مستوياته، لأن الخلافات عند كثير من طوائف المسلمين وفرقهم، لا تمس العقائد الأساس التي أوجب الله الإيمان بها، والتي جاء بها القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح، والتي يعدّ الخروج عنها خروجاً عن الدين. لذلك فإن الحوار في هذه الدوائر جائزٌ ومطلوبٌ وظاهرة صحية، فضلاً عن أنه واجب على علماء الأمة وفقهائها، لأن الغاية منه جمعُ الكلمة وتوحيد الصف. وهذا عين التقريب.

ومن خلال (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، الذي يهدف أساساً إلى أن يقرب بين الفرق ويدرس أسباب خلافاتها، بعرض هذه الخلافات عرضاً هادئاً دون تأثيرات خارجية أو عصبية، وصولاً إلى تبيّن الحقّ فيها، وزوال كثير من أسباب الجفوة والقطيعة بين أرباب الدين الواحد، والنبي الواحد، والكتاب الواحد[٤]. إذا قمنا بذلك، فمن الممكن أن يتقارب المسلمون فيعلموا أن هناك فرقاً بين العقيدة التي يجب الإيمان بها، وبين المعارف الفكرية التي اختلفت فيها الآراء دون أن تمس العقيدة[٥].

فالدين يأمر برفع الشقاق والتنازع والاعتصام بحبل الله، وهذا هو معنى قوله تعالى : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾. وقوله سبحانه : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا﴾، وقول النبي r : «لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض»[٦]. وقد خالفنا كل هذه النصوص فتفرقنا وتنازعنا، وحارب بعضنا بعضاً باسم الدين، لأننا سلكنا مذاهب متفرقة، كل فريق يتعصب لمذهبه ويعادي سائر إخوانه المسلمين لأجله، زاعماً أنه بهذا ينصر الدين، مع أنه يخذله بتفريق كلمة المسلمين[٧]. بل وصل الأمر بنا إلى ضرب بعضنا رقاب بعض في مواطن كثيرة.

من أسباب الخلاف بين السنة والشيعة :

إن الجدل الذي أُثير أخيراً في بعض وسائل الإعلام، والذي تناول موضوع (التطرف الديني) [٨]، سواء المنسوب للشيعة أو المنسوب للسنة، يحملنا على العودة إلى القضية التي أصبحت تقلق الضميرَ الإسلاميَّ، وتشكل تهديداً حقيقياً للمجتمعات الإسلامية، وهي قضية الخلاف بين السنة والشيعة، ولا أقول (الصراع السني-الشيعي) (أو النزاع السني-الشيعي) كما يردد بعضهم من الطائفتين.

ولاشك أن العلاقة بين الطائفتين، في الغالب الأعم، ليست حسنة، خصوصاً في هذه المرحلة التي تكشفت فيها كثير من الأمور الخلافية التي كانت خافية أو مطمورة في بطون الكتب غير ظاهرة للعيان، وغير منتشرة على نطاق واسع، كما هي اليوم في عصر الإنترنيت والفضائيات.

والواقع أنَّ الخلاف بين السنة والشيعة غير واضح المعالم لدى غالبية المسلمين، فهو خلاف قديم مبنيٌّ على اختلاف الرؤية والاعتقاد في قضية الإمامة وما يترتب عليها من أمور دينية ودنيوية. وهذا الاختلاف يولد الالتباسَ الذي يأتي من وجوه عديدة، الجامعُ بينها عدمُ الوضوح، مما يخفي الحقائق عن الأعين ويثير الشكوك. وتتسبَّب هذه الحالة غير السوية، في عرقلة الجهود التي تبذل للتقريب بكل دلالاته ومعانيه ومفاهيمه. والعقلاء والحكماء من الجانبين، يعترفون أن ثمة مسافة تباعد بين السنة وبين الشيعة، وإلاَّ لما كان هناك داع إلى حركة (التقريب بين المذاهب الإسلامية).

والشيعة على اختلاف طوائفهم وفرقهم، وبخاصة الإثني عشرية والإسماعيلية والزيدية، مختلفون في قضية الإمامة وتسلسلها في أبناء الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، لكنهم متفقون على تفضيل الإمام علي على بقية الصحابة وتقديمه عليهم. وكان هذا سبباً في نشوء مواقف متعصبة، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى التراشق بالألفاظ والاقتتال بالسلاح مما خلف ضغائنَ عميقة وشرخاً كبيراً في جسد الأمة الواحدة.

ومع الأسف الشديد برزت في الوقت الحالي مواقع إلكترونية كثيرة محسوبة على جهات ذات وزن وتأثير في محيطها، تثير الخلافات القديمة وتنكأ الجراح التي أوشكت على البرء، فهناك من يشن هجوماً شديد اللهجة على صحابة رسول الله r وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، بشكل دائم وبلغة مستفزة. بل توجد بعض المواقع على شبكة المعلومات العالمية، تتضمن تكفير من لا يؤمن بالأصول والأركان التي يؤمن بها الشيعة، وخاصة عقيدة الإمامة والولاية. وقد وقعت شخصياً على بعض المؤلفات التي نشرت باللغة العربية، تشتمل على سب الصحابة ولعنهم بصريح العبارة. وسبق لي أن كتبت حول هذا الموضوع، إلى سماحة الصديق الشيخ محمد علي التسخيري، الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، على أثر اطلاعي على كتاب صادر عن إحدى المؤسسات الإيرانية، تتطاول مؤلفته(؟) على صحابة رسول الله u، وتستفز مشاعرَ غالبية المسلمين من السنة بصورة جارحة. وقد تكرّم فأجابني مؤيداً اعتراضي، ومؤكداً عدم قبوله مثل هذه الأعمال. وبعض المواقع تعيد نشر أقوال علماء كبار من مراجع الشيعة القدامى، فيها تكفير للمخالف، كقول الشيخ المفيد في كتابه (أوائل المقالات) : "واتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار". وهذا أمر يزيد النار اشتعالاً ويؤجج المشاعر ويذكي الخلاف. ومثل هذه المواقع وهذه الكتب تضرم نار الفتنة بين أهل القبلة، وتستدعي ردات فعل عنيفة وهجوماً مضاداً.

ومما يزيد من خطورة هذه الحملة الضارية ضد السنة من قبل جهات تنتمي إلى الطائفة الشيعية، أن بعض كبار المراجع من ذوي المقامات العالية في محيطها، تلوذ بالصمت، ولا تحرك ساكناً، ولا تبادر إلى البراءة من الهجوم على السنة وتكفير من لا يؤمن بالأصول والأركان التي يؤمن بها الشيعة، ولعن الصحابة الكرام، خاصة أبا بكر وعمر وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم. بل إن المواقع الخاصة ببعض كبار المراجع الدينية الشيعية، تتضمن فتاوى وعبارات تكفر من لا يؤمن بولاية الأئمة الإثني عشر وعصمتهم.

ولست أشك في أن قيام المراجع الدينية الشيعية بواجبها إزاء وقف هذه الحملة بصورة صريحة وواضحة، سيؤثر إيجابيا ً في التخفيف من حالة الاحتقان التي تثير القلق والتي يستشعرها المسلمون كافة، ويرون فيها تهديداً للتعايش بين الطائفتين وللتعامل على قاعدة الأخوة الإسلامية الجامعة.

وفي الوقت نفسه تقوم جهات في أوساط السنة، بأعمال تثير الفتنة وترمي المخالف بعبارات الضلال أو الابتداع، وتنشر كتباً فيها تطاول على الشيعة، وعلى علمائهم ومراجعهم، أو تعيد نشر مقولات مسيئة للشيعة من بطون بعض كتب التراث السني القديم، أو تبث عبارات جارحة، وهجوماً لاذعاً، وكلاماً غير لائق في بعض المواقع الإلكترونية، وهذا كلّه صادر عن فئة من المتعصبين يعميهم التشدّد والغلو والتطرف والتنطع، عن سلوك المنهج القويم.

ومهما يكن من أمر، فليس مقبولاً بأي حال من الأحوال، أن يتحول الخلاف الفقهي والمذهبي إلى تراشق بالقول الجارح وتنابز بالألقاب في ردّات فعل تنحرف بها عن جادة الحكمة والتبصر في عواقب الأمور، وتدفعها إلى التطاول على المقامات الكريمة والمراجع المحترمة، بل وإلى التكفير والتضليل المتبادل. ذلك أن التشدد والغلو في الدين من كلتا الطائفتين، مخالفٌ لصحيح الدين ووخيمُ العواقب.

استراتيجية واضحة المعالم للتقريب :

إن التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أصبح له اليوم استراتيجيةٌ واضحةُ المعالم ذات أهداف منسجمة متكاملة لا خلاف عليها، وآليات تنفيذ معتمدة، يبدأ من تنقية الكتب المرجعية لدى السنة والشيعة، من كل ما من شأنه تكفير المسلم وتضليله وتفسيقه وإثارة الفتنة التي تضر بالمصالح العليا للآمة الإسلامية، وتضعف قدرات العالم الإسلامي.

وتهدف (استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية) إلى التخفيف من حدة الاختلاف وتضييق شقته بين أتباعها إلى الحدود الممكنة، وذلك استجابة لدعوة الحق سبحانه تعالى، إلى الاعتصام بحبل الله ونبذ الفرقة بكل أشكالها والتعصب بجميع ألوانه. ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾[٩]. ولتعميق مفهوم (الاعتصام)، قَرنَه الله تعالى في كتابه بالأمر الإلهي (ولا تفرقوا) ، كما قرنه عزَّ وجل بـ (جميعاً)، حيث إن الاعتصام (فعلٌ جماعيٌّ منافٍ للفرقة). وهذا البيان الإلاهي غاية في البلاغة وفي منتهى الدلالة على وجوب الاعتصام التام الذي لا يترك مجالاً للفرقة، ولو في أضعف مظاهرها.

وتستند هذه الاستراتيجية إلى الجوامع التي توحد ولا تفرق، وتقارب ولا تباعد، وتقوي كيان الأمة ولا تضعفه، وذلك في إطار فقه المقاصد الشرعية وقواعد الإسلام الكلية التي لا يجوز الخروج عنها أو تجاوزها، ترسيخاً للتضامن الإسلامي، وإشاعة لروح الأخوة الإسلامية، ونشراً لثقافة الحوار بين المسلمين.

إن الأصول الثابتة والكليات القطعية التي بها يكون الإسلام وبغيرها ينتفي، هي : الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، أي : التوحيد، والنبوة، والمعاد. فهذا ما جاء به القرآن الكريم وبلغه رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. وهذه هي الجوامع المانعة للفرقة القاطعة لدابرها. وحول هذه الأصول تجتمع الأمة، وبها يتم الاعتصام بحبل الله، أي بالقرآن الكريم كتاب الله الخالد الموحى به إلى رسوله ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه سلم، والسنة الصحيحة قولاً وفعلاً وتقريراً.

والاختلاف في هذه المفاهيم الرئيسَة، هو مبعث للفرقة ومصدر للاحتقان في العلاقة بين السنة والشيعة، وسببٌ للخلاف بين الطائفتين.

إن حل الخلاف بين السنة والشيعة يتطلب الصراحة التامة والشجاعة الكاملة من العلماء الأعلام في الطائفتين، في طرح القضايا التي يجب أن ينظر فيها من زاوية الحرص على المصالح العليا للأمة الإسلامية، أولاً وقبل كل شيء. ونستطيع أن نقول في ضوء ما جرى وما يجري، إن هذه المصالح العليا تستدعي القيام بما يمكن أن نسميه على سبيل الاصطلاح (حل الخلاف بين السنة والشيعة)، وحصر الخلاف في دائرة الصواب والخطأ بدل الإيمان والكفر. ومن هنا جاءت الحاجة إلى إشاعة ثقافة الحوار والتسامح بيمن المسلمين كافة من كلتا الطائفتين، تعزيزاً للتقارب وللتقريب وللتفاهم وللاحترام المتبادل.

مفهوم ثقافة الحوار :

إن إشاعة ثقافة الحوار وتعزيز التسامح بين المسلمين من شأنها التخفيف من حدة هذا الخلاف. والأمر هنا يتعلق بما نصطلح عليه بـ (الحوار الإسلامي-الإسلامي). [١٠]

وتأتي أهمية (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الأمة الإسلامية، من عدة اعتباراتٍ، يمكن أن نلخصها في أربعة اعتباراتٍ رئيسة نراها بالغةِ الأهمية :

أولها : إن العلاقات الإسلامية-الإسلامية، تعاني الارتباك وعدم الوضوح والتعقيد، بل والتوتر في أحايين كثيرة، ومما يجعلها مدعاة للخلاف الذي يهدد المصالح العليا للأمة الإسلامية، ويضيع فرص التضامن الفعّال والتكافل البناء. ولم تنجح مؤسسات العمل الإسلامي المشترك، بالقدر الكافي، في إزالة الركام المتكاثر من الشكوك وضعف الثقة والتردّد، في طيّ صفحات الماضي المفعمة بمخلفات النزاع المتوارث، لأسباب عديدة نشأت عن ظروف تاريخية تَرَاكَمَتْ حتى أدَّت إلى التباعد والتنازع، وكان للتراجع الحضاري والضعف الثقافي، الأثر الأقوى في استفحالها وتفشّيها في المجتمع الإسلامي.

ثانيها : إن الاضطراب الذي يشوب (العلاقات الإسلامية-الإسلامية)، يتسبّب في إضعاف حركة التنمية الشاملة المستدامة في بلدان العالم الإسلامي، بحكم أن هذه الحالة تنعكس بظلالها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وعلى الأوضاع السياسية والفكرية، وعلى الأحوال الثقافية والتعليمية والعلمية، بصورة أو بأخرى.

ثالثها : إن المناخ العالمي الذي تعيش في ظله البشريةُ في هذا العصر، يقضي بالتعاون الإنساني الشامل متعدد الجوانب، ولا يسمح بانفراط عقد التعاون الشامل بين المجموعات البشرية المتجانسة دينياً وحضارياً وثقافياً وجغرافياً وتاريخياً، ولاسبيل إلى هذا التعاون المتعدد الأوجه، إلاَّ عن طريق تقوية نسيج العلاقات الثنائية، وتعزيز العلاقات الإقليمية بين الأقطار التي تنتمي إلى دائرة حضارية واحدة، وتجمعها مصالح مشتركة، ومنها المجموعة الإسلامية التي ترتبط بالعقيدة الواحدة التي جاء بها الإسلام.

رابعها : إن التحديات المحيطة بالأمة الإسلامية اليوم، على أكثر من صعيد باتت تهدد انتماءها الديني والثقافي وكيانها الحضاري والسياسي وتعرض مصالحها للأطماع الدولية. ولا سبيل لمواجهة هذه التحديات الضارية، إلاّ بتعزيز التضامن الإسلامي، وبالتنسيق المحكم في الميادين كافة. والسبيل إلى تحقيق ذلك هو الحوار العلمي الجاد الصادق المخلص الخالص لوجه الله رب العالمين بين المسلمين، أي (الحوار الإسلامي-الإسلامي).

لهذه الاعتبارات والمبررات والدواعي، وغيرها كثير، يرتقي (الحوار الإسلامي-الإسلامي) إلى مستوى الواجبات الشرعية والضرورات الحياتية الملحة التي تُوجبها المصالح الحيوية للبلدان الإسلامية، وتفرضها الحاجة إلى رفع التحديات والتغلّب على المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تتفاقم في بعض الأقطار، إلى درجة تتطلب الإسراع إلى إنقاذها من عواقب النزاع المحلي ذي الدوافع العرقية أو المذهبية أو الإيديولوجية أو السياسية.

من هنا كانت الدعوة إلى (الحوار الإسلامي-الإسلامي)، أي الحوار البناء بين أتباع المذاهب الإسلامية كافة، صيحةَ حق ونداء واجب، ومناشدةً من القائمين على هذه الدعوة، لجميع البلدان الإسلامية، للمبادرة إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لإقامة جسور للحوار بين المسلمين حكوماتٍ وشعوباً، من أجل اكتساب أسباب القوة والمناعة والقدرة على النهوض بأعباء البناء الحضاري الشامل، في ظل السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي والتفاهم الثقافي والتعاون الاقتصادي. 
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
-إيسيسكو-
https://taghribnews.com/vdcb0zb8.rhb9zpukur.html
الإسم الثلاثي
البريد الإلكتروني
أدخل الرمز