الفقيد الراحل ومنذ 52 عاما وفي قصيدة كان يؤكد على الوحدة الاسلامية , واليوم كان يؤكد على ضرورة الامتناع عن سب الصحابة والعلماء والاولياء
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) : في وصيّة المرجع الديني الراحل السيد محمد حسين فضل الله (قد) وُجِدَت هذه العبارة «إثارة الخلاف بين السُّنّة والشّيعة حرام». وإذا ما وُضِعَت هذه الفتوى في سياق الهَرج والمَرج، والغَمز والّلمز، بين أمراء الخلاف المذهبي العصريين فإن أُكُلَها يُصبح ناجزاً. ومن بين سماطَي سوق فتاوى التكفير، أو التحفيز على التكفير والتفسيق والإخراج من المِلّة يُصبح معناها أكبر. في السابق قرأتُ للسيد الراحل مقولة ناصِحة. سُئِل: كيف الطريق إلى الوحدة الإسلامية؟ أجاب: إذا وَضَع المسلمون عقولهم في رؤوسهم لا في ألسنتِهم. كان السيد فضل الله يقول قوله فصلاً وبشكل قطعي لا يحتمل التأويل فيما يتعلّق بالخلاف المذهبي؛ لأن وضع الفتوى موضع التصريف يُحيلها إلى الفهم الشخصي والزمكاني، وإلى جَبِّها بعناوين مُزاحِمة. عندها يضيع النّص، لصالح الفهم الرديف. ليبدأ الفهم الدائري للمشكلة من جديد. قبل أقلّ من عام سألته عن أمر مُحدّد في ذات الموضوع المتعلّق بالخلاف المذهبي، عندما كَثُرَ أصحاب الألسن البذيئة على أعواد المنابر. ولأن إجابته كانت غنيّة بالدلالات، وقويّة في المعنى، فإنني أذكرها للقارئ أمانة. أجاب السّيد رحمه الله: «يجب على المؤمنين أن يمتنعوا عن فعل وقول كلّ ما يضرّ بوحدة المسلمين وتناصرهم وتعاونهم على الخير، وبخاصة سبّ من هو محترم عندهم من الصحابة والأولياء والعلماء». وأضاف سماحته في نصّ فتواه «إذا كان الله تعالى قد نهى في كتابه المجيد عن سبّ الكافرين الذين يعبدون الأصنام، فما بالك بالمسلمين الذين نتوافق معهم على جلّ العقائد والأحكام، والذين نعيش وإياهم هموماً واحدة ومصيراً واحداً، فإن الواجب يدعونا إلى احترام قناعاتهم وأفكارهم، والكفّ عن إهانة مقدساتهم وشعائرهم». (انتهى كلام السيد). نعم... يُقرَن المرجع الراحل بموضوع الوحدة بشكل عضوي. وربما أقصى درجات الإيمان بالأفكار، هو بمستوى التماهي ما بين الفكرة والعمل. لقد كان فضل الله الأقدر على دمج أفكاره بعمله. في مدارسه وملاجئ الأيتام العائِدة له، يتكفّل فضل الله بأيتام سُنّة إلى جانب أيتام من الشّيعة. وربما أستحضر الآن قصيدته في الوحدة الإسلامية والتي كَتَبَها قبل ٥٢ عاماً لأفهم أن البذرة لديه كانت منذ ذلك الوقت وربما أسبق من ذلك بكثير. عندما أقرأ لفضل الله تلك الإفاضات الجريئة أسأل نفسي عن آخر شيء يُمكن أن يُفكّر فيه المرء؟ بالتأكيد فإنها كثيرة هي الأشياء التي تُنعَت بغير المفيدة، والتي بسببها تبقى خارج التفكير. لكنني لا أحرز من أقلّ الأشياء فائدة غير السؤال: هل أنا من هذا المذهب أو ذاك. فهو إلى جانب أنه كذلك يبقى كأكثر الأشياء خطورة على السّلم الاجتماعي ولُحمَة الناس. فهو يستبطن تاريخاً أسود، يبُذُّ سامعيه على قولٍ فاحش وعملٍ مريب. عندما أهرِف في تفاصيل هذا المذهب أو ذاك، فإنني أستغرق في مفردات التحريض الكبيرة. وفي حروب التاريخ ومقاتل المسلمين. ومَنْ هو أحقّ مِنْ مَنْ، ومَنْ هو أصلَح مِنْ مَنْ. ماذا يُفيدني ذلك وأنا أعيش زمناً غير ذلك الزّمان. أقصى ما يُمكن أن أفعله حيال كل ذلك هو هزّة كتِفٍ لا أكثر. أما أن نضع إدام التاريخ في أحضاننا فهو نكاية صريحة بالنفس والدين وبأتباعه. ربما أدرك السيد فضل الله خطورة ذلك المنهج الفاسد في الخلاف المذهبي من جوف التاريخ المزكوم برائحة الدّم. ليس خلاف المسلمين مع بعضهم فقط، وإنما خلاف الأديان الأخرى بعضها ببعض. بعد العام ١٨٣٠ احتدم الصراع بين بطريرك الطائفة المارونيّة في لبنان والمُبشّرين البروتستانت الذين جاهدوا لتحويل الموارنة في منطقة الشّام عن عقيدتهم والدخول في البروتستانتية، وما أداه ذلك إلى وصول نار الخلاف حتى تخوم روسيا، وصوب الكنيسة الأرثوذكسية. وقبل ذلك كان فضل الله يُدرك أيضاً أن قرنَيْن من الزمن عاشتهما أوروبا في حروب طاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت الذين كانوا يُحرّمون الصّور اليسوعية وتجسيدها كافية لأن نقتنع بأن في التاريخ عِظَة للناس. لقد كان موضوع التوحيد العقيدي سبباً وجيهاً لإقامة نظام اجتماعي وسياسي أوروبي عصِيّ على الكسر بعد الاقتتال؛ لأن عنوان التوحيد المغاير للوثنيّة داخل في نهاية الأمر في صوغ الهوية. وإذا ما كان ذلك قد حصل في أوروبا التي تشرذمت شعوبها بفعل هرطقات الصّور، وقضايا التثليث والرّبوبية، ثم بصناعة قالب التوحيد الجامع بعد وصول الدّم إلى حدّ الابتذال، فأين المسلمون ذاتهم من كلّ ذلك، في الوقت الذي يمتلكون فيه نظاماً توحيدياً رائداً، من شأنه أن يُحيل كلّ فروع الخلاف إلى نقطة أصل فاصلة وجامعة، تقيهم ما وقَعَ الأوربيون فيه من محذور ومحظور. اليوم لا يُرى أهم من الحديث عن إسلام خارج المذاهب. إن لم يكن على مستوى الاعتقاد الشخصي، فليكن على مستوى فضاء الجماعة، الذي عادة ما تغيب فيه الأنانية والخصوصيات الضّيقة. يجب أن يقتنع الجميع أن هذا المسعى ليس حملة علاقات عامة، وإنما هو فرض عيْن، وأنه ليس ضرباً من الميتافيزيقيا، وإنما هو قابل أن يكون واقعاً مثلما جرى لدى أقوام وشعوب أخرى، كانت خلافاتها أشدّ من خلافات المسلمين أنفسهم. محمد عبدالله محمد