من ذاكرة "العهد".. نقتطف هذا الحوار الذي دار في اول لقاء بين الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله والاستاذ محمد حسنين هيكل وقد جرى نشره في العدد 754 في 17 تموز/يوليو 1998 وهنا النص المنشور مع صورة الغلاف:
شارک :
"بين الصحافة والسياسة علاقة مركبة ، كلاهما يحتاج إلى الآخر وكلاهما يحذر الآخر".
ذاك ما يقوله محمد حسنين هيكل في كتابه " بين الصحافة والسياسة". ويضيف: " عندما يقترب الصحافي من عملية صنع الاخبار يتحول من مجرد شاهد على صنعها إلى طرف في صنعها". وبهذا المعنى يتجرد القول من الغلو أو المغامرة الوصفية، إذا ما قيل في لقاء صانع الخبر مع صانع القرار يُخرج العلاقة المركبة بين الصحافة والسياسة من كونها علاقة حذر وخشية إلى طور تتفاعل عناصره إيجاباً في فضاء المطلق.. وإذ ذاك يتجاوز الحدث معناi ويتعدى الكلام معناه، فالمسألة هنا تغدو كل الحدث وكل المعنى.
ـ "بالأحضان يا سيد.. ده انت هايل.. وأنا معجب بيك قوي".
بتلك الصراحة والعفوية والحميميةـ افتتح الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل لقاءه مع الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله، حيث حط التاريخ والدين والجغرافيا والتحولات السياسية الكبيرة في هذا القرن، فضلاً عن آفاق المستقبل والاستراتيجية والجيبولوتيكا وواقع المقاومة وإيران والحركات الإسلامية والعولمة في معرض الكلام المرونق "الذي يجيد محمد حسنين هيكل إقامته وصناعته واستدعاء مستمعيه الى التجوال في زوايا وحجرات معرضه الذي استغرق أربع ساعات كاملة".
ـ " مرة ثانية يا سيد بقول.. انا معجب بيك وأقولها بصراحة، سمعتك تتكلم في عدة محطات ومناسبات، و"لا أغالي إذا قلت إنك تشكل قيمة خبرية news value فريدة وأنجح حاجة فيك إنك تتصرف زي ما انت". وفوق ذلك أصارحك بالقول: " إني كنت انظر إلى الآخرين من شرفة نفسي، ولكني معاك ما استطعت الا ان اكون متواضعا".
المقاومة والجواب التاريخي
محمد حسنين هيكل الذي جاء للقاء السيد نصرالله وسط غابة من الاسئلة، بدا هاجساً بسؤال المقاومة: من انتم؟ من أين جئتم؟ كيف تقاتلون وتنتصرون؟.
أسئلة متشابكة طرحها محمد حسنين هيكل على سماحة السيد نصرالله وكل سؤال كان يوازنه بـ "محاضرة"، فالمحاضرة سؤاله، والجواب في محاضرة رديفة من جانب السيد نصرالله كانت تنطوي على استعراض شمولي لكيفية انطلاقة المقاومة والمنعطفات العسكرية التي قطعتها، وأساليب المواجهة مع العدو ومراحل تطور العمل المقاوم في مواجهة تقنية المعتدي وتكتيكاته وكفاءته التكنولوجية. وحيال الشرح والإسهاب في تبيان التضاريس والوعور السياسية والعسكرية التي واجهتها المقاومة، كان محمد حسنين هيكل يرتجل الصمت فناً، فهو يجيد فن الصمت والاصغاء إجادته لفن الكلام والإقناع، وإذ يضع السيد نصرالله خاتم لقوله عن المقاومة، يتناول هيكل طرف الكلام ويقول: في الواقع لم انظر بداية إليكم، خلت المسألة مجانبة للجدية، غير ان رؤية استراتيجية لاسحق رابين أطلقها ذات مرة، ردتني إلى اعقاب جدية النظر نحوكم، فوفقاً لهذه الرؤية حدد رابين ثلاث مستويات تهدد الامن الاسرائيلي الاستراتيجي:
ـ الاول: دولة حديثة وقوية البنيان يمكن ان تمتلك سلاحاً غير تقليدي، وهذا المستوى من مستويات التهديد جفت منابعه بخروج مصر من معادلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي وتوقيعها على اتفاقيتي "كامب ديفيد".
ـ الثاني: مقاومة مسلحة تدعمها دولة خارجية، كما كانت حال المقاومة الفرنسية والحلفاء خلال الحرب الكونية الثانية.
ـ الثالث: مستوى "الإرهاب". وكان رابين يشير ببنان مقصده نحوكم، " عند ذلك بدأت النظر اليكم، واقتنعت انكم جديّون".
"مقاومتكم حاجة ثانية يا سيد"، لعلكم غير مطلعين على حقائق وتفاصيل انعكاساتها في الشارع العربي، حيث تشكلون نبضه وصوته وآخر الضوء في ظلماته.
تصوروا ان حديثاً جرى بيني وبين مارغريت تاتشر، وهي تكرهكم بالتأكيد، لكن قالت ذات مرة: " انا أكره الإرهاب، ولكن ليس بوسعي إلا ان احترم الشخص الذي يفتدي عقيدته بروحه".
ويضيف محمد حسنين هيكل: أنه حين يطرح سؤالا عن مستقبل المقاومة، لا يعني بذلك المستقبل السياسي، بل المستقبل التاريخي، حيث المقاومة هي الجواب عن الآتي. ومن هنا لا تحتاج المقاومة على محور الإعلام لسوى المصداقية، إذ لا أحد يستطيع ان يقنع بما هو غير مقنع، وإعلام المقاومة طبقاً لهذه المعادلة يُعتبر أنجح من أي إعلام حكومي، حيث المصداقية والإقناع من خلال سقوط شهيد او عملية عسكرية، كفيلان بصياغة الرأي العام وتوجيهه والتأثير عليه، فالشهيد ليس بحاجة لأي خبر عنه، أنه الخبر والخبر وحده، والمقاومة اوجدت هذه المعادلة الصحيحة أي معادلة المصداقية.
إيران وواقع الحال
لا شك ان محمد حسنين هيكل يشكل حالاً استثنائية بين الكتاب والصحافيين العرب الكبار الذين رأوا بأسبقية تقويم الثورة الاسلامية الايرانية فعلاً سياسياً تواصلياً بين الجغرافيتين العربية والإيرانية، فكلاهما يشكل العمق الاستراتيجي للآخر. وعلى ما يذكر هيكل تكراراً أن الايرانيين أكثر الشعوب المسلمة تأثيراً في الثقافة العربية وتأثراً بها، وإذ أبرز موقفه الاعتراضي على الحرب العراقية الإيرانية، فلأن الحرب المذكورة شكلت فعلاً دامياً على احتمال التواصل الاستراتيجي بين الجغرافيتين، مثلما هو في التاريخ، ومثلما هو في الواقع.
ولذلك حين بدأت ملامح التواصل الايراني ـ العربي تشق طريقها الى الواقع في السنوات القليلة الماضية كان محمد حسنين هيكل يؤكد ان هذا في أكثر من مناسبة هو منطق الواقع ومنطق التاريخ، انطلاقاً من ذلك وفي سياق تحليل الأوضاع في المنطقة، وإيران منها بطبيعة الحال، يقول هيكل في اطار الشق التحليلي الخاص بواقع ايران وآفاقها: "يحلو لبعض الإعلام ان يماثل بين ميخائيل غورباتشوف والسيد محمد خاتمي، غير اني لا ارى وجهاً للتماثل بين الرجلين، فالسيد خاتمي ابن الثورة الاسلامية وابن المؤسسة، وإذا ما ابتغى تطويراً معيناً، فذاك من داخل المؤسسة وتحت سقف المرجعية التي سعى غورباتشوف الى هدمها، وبهذا المعنى فإن السيد خاتمي اولا ابن المؤسسة، وثانياً هناك مؤسسات، وهناك مرجعية تشمل الجميع بسقفها. وعموماً فالمستجدات الايرانية لا تخيفني، وإذا كان هناك ثمة خوف على إيران فليس من الداخل بل من الخارج.
الأمر الآخر في الحديث الايراني، يتعلق بمستقبل الحركات الاسلامية وعلاقتها بطهران، وفي ذلك يقول هيكل، إن استمرار ايران دولة ونظاما إسلاميين، يعطي للحركات الاسلامية مشروعية، وإذا انتكست إيران، فإن الانتكاسة سوف تلحق بالحركات الاسلامية وتهدد مشروعيتها.
ولهيكل فلسفة خاصة تجاه الحركات الاسلامية ومشروعها السياسي، وإذ يعتبر هيكل ان الاسلام ضياء وأخلاق، الا انه لا يوجد مذهب اسلامي اقتصادي ومذهب اسلامي إداري او مذهب علم اجتماع اسلامي وغيره، ولذلك ابدى معارضته لشعار "الاسلام هو الحل".
مثل هذه الطروحات لاقت اعتراضات من سماحة السيد نصرالله الذي أكد انه إلى جانب كون الاسلام ضياء وأخلاقاً، فالاسلام منهاج حياة أيضاً. ولفت السيد نصرالله إلى ان الحوزات الدينية في إيران آخذة بشق طريقها نحو التخصصية، حيث تُدرس العلوم الاقتصادية الى جانب العلوم الفقهية، أو العلوم السياسية بموازة الفقه وهكذا.. وشدد السيد نصرالله على ان "الزمكانية" تشكل مدخلاً أساسياً للاجتهاد عند المسلمين الشيعة، تواكباً مع تطورات العصر ومراحله.
وحول الحركات الاسلامية أكد سماحة السيد نصرالله انه لا يمكن إخضاع الحركات الاسلامية لقياس واحد، فبعض الحركات يجب التدقيق بظروف نشأتها، إذ تحاط بعلامات استفهام، وبعضها لآخر يجب التدقيق في الاوضاع المحيطة بها، وخصوصاً ان واقع الأنظمة الضاغط عليها، دفع بعض الحركات الاسلامية الى القيام بأعمال لا تنم عن قناعاتها وطموحاتها، ما أدى إلى انحرافها.
وبالاجمال لا تختصر حركة "طالبان" الحركات الاسلامية، والأخير ليست كلها "طالبان".
عند هذه النقطة يقفل محمد حسنين هيكل أبواب كلامه، لكن سؤالا ساخناً كسؤال عملية التسوية يفرض اطنابه على حرارة اللقاء وإزاء ذلك لا يتمهل هيكل كعادته في التحليل والاستشراف فيقول: " التسوية ما فيش.. نتنياهو سوف يكمل ولايته.. ولا تسوية في عهد نتنياهو".
بهذا القطع الصارم، يضع محمد حسنين هيكل خاتمة لمعرض كلامه، ناظراً إلى السيد نصرالله من"تحت" ـ حسب تعبيره ـ وماضياً إلى معرض كلام آخر أو كتاب جديد.