موسم عاشوراء: فرصة التَّغيير ومواجهة الواقع الفاسد
تنا
لقد كان الإمام الحسين(ع) على بيّنة من أمره، عارفاً بأهدافه، بعد أن شخّص الدّاء والدّواء؛ الدّاء هو وجود حاكم مثل يزيد وأمّة خانعة تقبل بأيّ حاكم، والدّواء هو الإصلاح، وأن لا يبقى الواقع الفاسد كما هو.. أن يعمل على تغييره، أن تعود الأمّة إلى حضورها وحيويّتها وفاعليّتها .
شارک :
السيّد علي فضل الله
لماذا نستعيد عاشوراء؟!
تطلّ علينا، وفي بداية هذا العام، ذكرى عاشوراء، هذه الذكرى التي تتجدّد في كل سنة، لتعود بنا الذاكرة إلى كل تلك التضحيات الجسام التي بذلها الحسين وأصحابه وأهل بيته، وإلى كل الدماء الزاكيات التي نزفت على أرض كربلاء، وإلى كلّ أولئك الذين صدقوا مع الله عهده، وبذلوا لأجله أغلى ما عندهم.
وفي كلّ عام يتجدّد السّؤال: لماذا نحيي ذكرى عاشوراء؟ لماذا كل هذا الجهد الذي يبذل والأوقات الّتي تصرف والإمكانات الّتي تقدَّم في إحياء هذه الذكرى، ولدينا الكثير مما يحتاج إلى أن نبذل جهدنا وأوقاتنا وإمكاناتنا فيه؟!
هل لنعبّر عن مشاعرنا وعواطفنا وحبّنا للحسين وأصحابه وأهل بيته، فنذرف الدّموع عليهم ونبكيهم، أم المسألة هي تعبير عمليّ عن الوفاء للحسين ولكلّ ما قدّم وأعطى؟ هل هي إحياء لذكر الحسين وأصحابه وأهل بيته لنكسب الأجر على قيامها بهذا الإحياء؟ نعم، نريد من عاشوراء كلّ ذلك، نريد منها حبّاً وعاطفةً وتعظيماً وتقديراً وتمجيداً لمن قدّم كلّ تلك التّضحيات الجسام، لا لأجل مجد شخصٍ وهدفٍ ذاتيّ، بل من أجلنا، حتى يصل الإسلام إلينا نقيّاً صافياً، ونكون أمّة حيّة فاعلة حاضرة في كلّ ميادين الحقّ والعدل.
لكنّ علاقتنا بالإمام الحسين(ع) هي أبعد من كونه ثائراً ومصلحاً ومضحّياً ومعطاءً، هي علاقة مأمومين بإمام يقتدون به ويأخذون منه أقواله وأفعاله وتطلّعاته، ويرون أنفسهم ملزمين كواجب عليهم بأن يتابعوا ما قام به، وأن يسعوا بكلّ ما استطاعوا للأهداف التي عمل لها.
فنحن نستعيد عاشوراء حتى نعيشها في أنفسنا، لنرى من خلالها أين نحن من رضا الله ومن الحقّ والعدل، ومن كلّ ما حرص عليه الحسين في كربلاء.
أهداف الثّورة
عندما خرج الإمام الحسين(ع) من المدينة في السّابع والعشرين من شهر رجب، ومعه أهله وأخوته وأبناؤه وأبناء أخوته وأصحابه، لم يخرج هارباً من والي يزيد في المدينة، خرج منها في وضح النّهار، بعد أن أعلن لوالي المدينة وبكلّ وضوح موقعه: "إنّا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله".. ولأنّ مشروع الثورة هو الغاية من خروجه، فلقد ضمَّن وصيّته التي تركها في عهدة أخيه محمد بن الحنفيّة، موقفاً حاسماً وواضحاً بعدم القبول بالمبايعة، وكان يعي حجم التحدّيات التي ستواجهه، لكنه كان جاهزاً لتحمّلها.
"إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين. هذه وصيّتي يا أخي إليك ومن خلالك للمؤمنين".
لقد كان الإمام الحسين(ع) على بيّنة من أمره، عارفاً بأهدافه، بعد أن شخّص الدّاء والدّواء؛ الدّاء هو وجود حاكم مثل يزيد وأمّة خانعة تقبل بأيّ حاكم، والدّواء هو الإصلاح، وأن لا يبقى الواقع الفاسد كما هو.. أن يعمل على تغييره، أن تعود الأمّة إلى حضورها وحيويّتها وفاعليّتها، أمّا الوسيلة، فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك لم يخرج محارباً مقاتلاً، وإنما خرج داعياً مغيّراً.
لقد حرص الحسين على تأكيد هذا الهدف، وكانت وسيلته لذلك التصويب على مواقع الفساد والانحراف وتبيانها للنّاس، وبقي على ذلك، وأصرّ عليه، ولم يتراجع عنه، وحتى عندما دعوه إلى التراجع عن خياره هذا أو الموت، قال لهم: لن أتراجع ولو كلّفني ذلك حياتي.. كان الحسين(ع) يريد لأمّته أن تخرج عن صمتها ومن هزيمتها ومن خوفتها واتكاليّتها، وأن تتحمّل مسؤوليّتها، فهي ما دامت ساكتةً، سيبقى الظّالم ظالماً، والمظلوم ضحيّةً، والفساد مستشرياً.
لم يكن الحسين(ع) في موقفه في كربلاء يستهدف يزيد فقط، حتى يقال انتهى يزيد وانتهت معه كربلاء ولم يعد لها حضور في حياتنا الآن، بل استهدف من خلال يزيد كلّ فاسد ومنحرف وطاغية وظالم وباغ، سواء في التاريخ، أو في الحاضر والمستقبل، ليكون السؤال هنا عن مسؤوليّة الأمّة في بقاء الكثيرين ممن يحملون منطق يزيد في مواقع المسؤوليّة.
كيف نحيي موسم عاشوراء؟!
إنّنا نريد أن ندخل إلى موسم عاشوراء بعقليّة الإمام الحسين(ع) عندما قال: "ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر".. أن ندخل بعقليّة المصلحين والتّغييريّين، بعقليّة الرافضين لكلّ فساد وانحراف، بأن نتعلّم من عاشوراء أن لا نقبل فساداً وظلماً وانحرافاً، وأن لا نجامل الفاسدين والظالمين والمنحرفين، أن لا نؤيّدهم ولا نبرّر أفعالهم، أن لا نشعرهم بالأمان، وأنهم أمام أمّة ترضى بكلّ واقع يفرض عليها، وبكلّ ظلم تواجهه، أن ننطلق من قوله: "مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً، مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه".
الفساد والانحراف والباطل والظّلم لا تتجزّأ، لا فرق في ذلك بين ظلم التاريخ وظلم الحاضر أو فساد التّاريخ وفساد الحاضر، هو واحد، فلا فرق في الظلم والفساد والطّغيان، بين ظلم الزوج لزوجه، وربّ العمل لعامله، وظلم المسؤول لمن تحت مسؤوليّته، وظلم يزيد... ولا فرق بين الفاسد والمنحرف على أيّ مستوى من المستويات، أن تتمّ المعاملات على أسس تقريب هذا لأنّه قريبه أو من طائفته أو مذهبه أو موقعه السياسيّ على حساب من يستحقّ.. فساد هذا الإنسان وفساد يزيد واحد، ومن يعش روحيّة الظّلم والفساد والانحراف على مستوى الدّائرة الصّغيرة، فسوف يمارس الظلم على المستوى الكبير إن هو وصل إلى الموقع الكبير.
لنبدأ بالتَّغيير من أنفسنا؛ أن نغربل أفكارنا.. كلماتنا.. مواقفنا.. تعاملنا مع الآخرين، وليعمل كلّ واحد منّا، حسب قدراته وظروفه ودوره، أن يبدأ بالإصلاح في بيته، في حيّه، في قريته، في مواقع عمله، امتداداً إلى العمل لإصلاح أوطاننا والعالم، وهذا مدخل الإصلاح، وهو {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
أمانة الذّكرى
لقد أدَّى الحسين(ع) هو وأهل بيته وأصحابه دورهم كأفضل ما يكون، بذلت لأجل ذلك أرواحهم، وسبيت لأجله نساءهم.. هم أبقوا على عاتقنا مسؤوليّة أن نتابع المسيرة، وقد لا تكون بالطريقة نفسها والأسلوب نفسه، لكن لن يكتفي منّا الحسين(ع)، ولا أبوه أمير المؤمنين(ع)، ولا أمّه الزّهراء(ع)، ولا جدّه محمد(ص)، ولا الله الّذي أخلص له الحسين العمل، وترك الخلق كلّهم لأجله، لن يكتفوا منّا بمجالس نحضرها، وبدموع نذرفها، وصدور نلطمها، هم يريدون باطلاً يسقط، وفساداً يتغيّر، وإصلاحاً يتمّ.
ولن نكون أمناء على هذه الذكرى وكلّ التضحيات فيها، إلا عندما تكون عاشوراء صافية نقيّة من كلّ شائبة على مستوى السّيرة، فلا نزيد عليها مما لم يرد فيها، لتبقى سيرة كربلاء صافية من كلّ إضافة أو مغالاة، فهي لا تحتاج إلى أيّ زيادة لكي نثير العاطفة فيها، أو لنعلي من شأن شخصها، هي لا تحتاج إلى كلّ ذلك، بل تسيء إليها عندما نخرجها عن أصالتها وصفائها. والأمر نفسه على مستوى طريقة إحيائها والتّعبير عنها، فلا تشوَّه صورتها بتعابير لا تمتّ إليها بصلة، أو تسيء إلى قدسيّتها وصفائها وحضورها وتشوّه معالمها.. بذلك نحفظ أهداف عاشوراء ونوسّع دائرتها، لتكون إسلاميَّة وحتى إنسانيَّة، ولتدخل إلى كلّ الضَّمائر والعقول، لا أن نقزّمها، أو نحبسها في دوائرنا الصّغيرة والضيّقة، ونجهض كلّ أهدافها الكبيرة التي كانت كلّ تلك التّضحيات لأجلها.
ليكن موسم الوحدة والانفتاح
لنجعل من موسم عاشوراء موسماً للوحدة على المستوى الإسلامي والإنساني، فالحسين بكلّ ما يرمز هو عنوان للوحدة، هو إمام المسلمين جميعاً، وإمام لكلّ حرّ وعزيز، وشعاراته لم تكن أبداً شعارات مذهبيّة، بل إسلاميّة وإنسانيّة.
لنؤكّد في هذه المرحلة التي يراد فيها للأرض أن تهتزّ تحت أقدامنا، وأن نغرق في ساحة الفتن الّتي نصنعها نحن أو يصنعها الآخرون، أن يكون خطاب عاشوراء هو الخطاب الّذي يساهم في وأد الفتن، لا الخطاب الذي يصبّ الزّيت على نارها، خطاب الكلمة الأحسن والجدال بالّتي هي أحسن، الخطاب الذي يفتح قلوب الآخرين وعقولهم، لا الّذي يغلق قلوب الآخرين.. لذلك نقولها، وانطلاقاً من وعينا لمسؤوليّتنا التي وعاها الحسين(ع) حين كان يطلق خطابه حتى وهو في قلب المعركة: كل من لديه كلمة طيّبة تنتج حبّاً وتواصلاً فليقلها، ولنغمد سيوف الحقد والعداوة من قلوبنا وكلماتنا وأعمالنا، ولنطفئ النيران في الصّدور والعقول، وإلا فنحن جميعاً منهزمون. لا يظنّ أحد أنه منتصر في معركة الفتنة.. الكلّ خاسر، ولن يأتي هذا العالم إلينا ليخفّف من نيران هذه الفتنة، بل سيبقيها ويعمل على تأجيجها، وما يفعله هو أن لا تمتدّ نارها إليه.
إننا نريد لعاشوراء أن تكون مناسبة لتصحيح ما فسد من عقائدنا ومفاهيمنا، وفي وعينا لتاريخنا ولما يجري في واقعنا، حيث التحدّي الفكريّ والثّقافي، وتحدّي الوعي وصل إلى أقصاه.. وبذلك ننصر الحسين(ع) وننصر كربلاء، وبذلك نحيي عاشوراء الحسين، وبذلك تتحوّل عاشوراء إلى فرصة للأمّة، لا أن تنتهي بانتهائها.
إنّنا نستطيع أن نقول إنّنا أحيينا عاشوراء عندما نرى أهدافها وتطلّعاتها حاضرةً في ميادين حياتنا، عندما أطلق الحسين(ع) في آخر نداءاته في كربلاء: "ألا من ناصر ينصرنا".. كان واعياً أنّه لن ينصره أحد من جيش عمرو بن سعد أو خارجه، هو كان يتطلّع إلى الآتين من بعده أن ينصروا فكره ووعيه وأهدافه.