«السيادة» تفترض على الأقل استهجان التصريحات والمواقف العلنية الأميركية، وأدوات «المجتمع الدولي» وتقاريرها التحريضية، وممارساتها الاستفزازية، بمقدار رد الفعل على تصريح من هنا أو هناك لمسؤول سوري أو إيراني.
شارک :
وكالة انباء التقريب (تنا) :
سليمان تقي الدين تخطّت الأحداث سريعاً ملف «الشهود الزور» ومعركة إحالته إلى المجلس العدلي كمدخل لكبح جماح التحقيق الدولي واستهدافاته. انزلق فريق التحقيق في خطوة فاضحة ليكشف أن إدارة أمنية موازية قد نشأت للبلد تضع اليد على كل مفاصل الحياة من وسائل الاتصالات إلى المعطيات الشخصية لمعظم قطاعات المجتمع. الإدارة الانتدابية للبنان صارت مجسّدة بأمين عام الأمم المتحدة، وبناظر القرار الدولي ١٥٥٩، وبجهاز التحقيق للمحكمة، ومعهم نائب وزيرة الخارجية الأميركية ومندوب الولايات المتحدة لمجلس الأمن .
ربما لا يجد فريق سياسي لبناني أنه يتضرّر من هذه الاستباحة الدولية المركّزة على طرف سياسي آخر. لكن «السيادة» تفترض على الأقل استهجان التصريحات والمواقف العلنية الأميركية، وأدوات «المجتمع الدولي» وتقاريرها التحريضية، وممارساتها الاستفزازية، بمقدار رد الفعل على تصريح من هنا أو هناك لمسؤول سوري أو إيراني. عبثاً نستجدي النخوة من هذا الفريق اللبناني الذي لم تهزه بعد شبكات التجسس والعمالة والتخريب، وهذه أوصاف قانونية وليست سياسية، ولم تخدش حياءه جريمة السيطرة الإسرائيلية على شبكة الاتصالات وقدرة العدو على تحويرها، ولم تفتح في ذهنه أسئلة هذه «المحكمة الدولية» وقد تحوّلت إلى وسيلة ابتزاز سياسي وأمني لكل المنطقة وحطت على طاولة المفاوضات في دبلوماسية الضغوط على خصوم أميركا. قد لا يستطيع الرأي العام، الذي أفسدت حسّه السليم موجات التحريض الغرائزي وحملات التحريض والتخويف والتشويه، أن يفهم ما وراء نشاط «حكومة المستعمرات الجديدة» المسماة مجلس أمن دولي وأمم متحدة. وقد تتقطّع ذاكرته فلا يرى الفرق بين الاهتمام الدولي بلبنان والتخلي الكامل عن قضية فلسطين والاستخفاف بملف الجرائم الأميركية في العراق، لكن ثمة ما يصعق حين تنبري نخبة من أهل السياسة وأهل القانون لتبرير اجتياح خصوصيات اللبنانيين تحت مبدأ التزام لبنان بحماية التحقيق الدولي.
مدهش أن تسقط كل المعايير والقواعد المكتسبة من إرث العدالة ومرجعية الضوابط القانونية، من السر المهني إلى حق الدفاع، ومن البراءة المفترضة إلى نزاهة القضاء وحياديته، ومن شمولية العدالة إلى الاستنساب، ومن النيابة العامة عن المجتمع إلى النيابة الخاصة، كأننا في غاب محكوم بالقوة لا بمبدأ العمومية والمساواة. لقد تمّ انتزاع قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوم كان البلد مشلّعاً بالانقسام والاتهامات السياسية والغضب والكراهية، وكان نظامها فريداً في بابه مفصلاً على مقاس الأهداف السياسية المتوخاة من المحكمة. لم يسمع أحد في ذاك الضجيج الهائل ما قاله خبراء محايدون ولا حتى دول محايدة من أن «المحكمة» هي صك انتداب وفي نظامها ألف لغم متفجّر، وفي حضورها إسقاط لسيادة لبنان ولنظام عدالته ومؤسساته من الرئاسة الأولى حتى أصغر شرطي. باسم العدالة تُدار آلة الجريمة الكبرى. هبّ المجتمع الدولي المتحضّر ليحمينا من انتهاك الدستور بالتمديد! أرادنا أن نتحرّر من لعبة السلاح ومن قيود الوصاية. سقطت الجمهورية والسلم الأهلي ولم يستنكر حرباً دمّرت بلدنا وما يزال يتحدث عن تهريب السلاح!
في كل ما يجري أغرقونا بتفاصيل تختلط فيها الصور والمشاعر والقضايا والملفات ونضيع في متاهات صغيرة. فرضوا علينا النقاش حول الجهة الصالحة قانوناً لملاحقة الشهود الزور. انطوى النقاش الأصلي حول التزوير السياسي والقضائي والأمني وملف أركان الانقلاب الذي حدث عام ٢٠٠٥ تنفيذاً للقرار ١٥٥٩. لا ندري لماذا لا تفتح المعارضة القضية على مصراعيها. الشهود الزور تفصيل صغير في القرار الدولي الذي صادر صلاحيات المجلس النيابي ومنعه من مناقشة «المعاهدة» التي هي ليست معاهدة فعلاً، ثم منعه من سلطة إقرار عفو عام، والمقصود شل يد سلطة السيادة عن أي تدبير في مواجهة سلطة المحكمة.
أمام هول الارتكابات التي يضيق المجال على تفنيدها نجادل حول صلاحية المجلس العدلي الذي هو الجهة الوحيدة الصالحة لمحاكمة كل قضية تتصل بأمن الدولة الداخلي والخارجي. فقهاء السلطان يطلقون حكمهم في قضية شهود الزور قبل النظر فيها، لأنهم يريدون أن يفتح ملف الاتهام السياسي من الأساس الذي ساهم في تبرير الانتهاكات القانونية الأخرى. هؤلاء معذورون في الدفاع عن شرعية السلطة التي ولدت من عملية التزوير الخطيرة التي قادها «المجتمع الدولي». أما «المعارضة» أو «المعترضة» فلا عذر لها في عدم تكوين ملف للقضية كلها لإنارة الرأي العام، ولمواجهة الكذب والخداع الدولي، وتحطيم هيكل السيادة من الأمن إلى العدالة. أسوأ الأخطاء أن تأتي إلى المكان الذي يريده خصمك للمواجهة. صار القانون لعبة ولم تعد شرعيته هي الشرعية.
افتحوا الملفات بالسياسة. لم تتوقف أميركا عن إدارة النزاعات وتغذية التناقضات ونشر الفتنة. هذه هي القضية التي تجعل المواجهة مشتركة بين كل الساحات الواقعة تحت سلطة «حكومة المستعمرات».